بعد أن تم استتباب الأمن في المدرسة ,وكان للإدارة ما أرادت ,قضينا الفترة المتبقية من العام 1981 في القراءات والمناقشات ومحاولة العثور على حلول للكثير من المشاكل الفكرية التي كانت تؤرقنا.
في تلك الأيام المضطربة المليئة بالتحدي والمفاجئات والقلق,كان لدينا قلقنا الداخلي الآخر,قلق السؤال والبحث المضني عن أجوبةللأسئلة الكبرى التي شغلت البشر :من نحن وكيف أتينا وإلى أين المصير ولماذا ..وما هو معنى الحياة نفسها أهي فعلا اختبار للبشر ؟ وبعد.. ماذا بعد الثواب والعقاب ..وكنا نتساءل أية حياة "مملة" سوف تقضى هناك بعد الحساب؟ألم نكن هناك سابقا ,ولكننا ضقنا ذرعا بهذه الحياة الكسولة المترفة ,فأهبطنا جدنا آدم لكي نكدح ,ثم ما هو المآل؟ العودة لنفس الوضع السابق الذي هربنا منه ..يا لهذا المصير المضني .أمن المعقول أن نظل في جنة عدن مثلا نشرب اللبن ونجلس على أرائك من استبرق وننتشي بالحوريات اللواتي لا أعلم أية عقوبة قد أنزلت بهن لترفّه عنا ,وبالجهة المقابلة نقضي "حياة "ملؤها العذاب وتبديل الجلود على المقلب الآخر.
قضينا الليالي ونحن نتناقش ونطرح الأسئلة ونستكشف مكنونات بعضنا البعض,لنكتشف تشابه الأسئلة والقلق
انشغل مالك وعمرو في قراءة وتحليل ومناقشة كتاب المفكر المصري عصمت سيف الدولة "منهجنا في الفكر القومي الاشتراكي" ,واتجه بسام ووضاح لقراءة الماركسية ,وانصرف لؤي عن النظريات للأمور الواقعية وكانت القضية الفلسطينية شغله باعتبارها القضية الأوضح للنضال التحرري ,وكان باستطاعتك الاستماع لأناشيد الثورة الفلسطينية منبعثة من غرفته ,فوق التل,طالعلك يا عدوي ,لعرس النصر أنا ماشي...
وكنت أحسد عمار ومناف وحمزة وبقية الرفاق على اطمئنانهم الظاهر ورويتهم المبكرة في معالجة الأمور.
وكنا بحاجة حقا لتلك الرويّة وذلك الهدوء, في تلك الأيام القلقة..
لم نجد لدى الفكر القومي ,القدرة على الإجابة عن الأسئلة المتزايدة والملحّة ..لسنا بحاجة هنا للمناقشة حول العروبة ..فنحن نتنفسها.مع أنه كان من المغري لنا الرؤية المبسطة للأمور التي تجد أن جميع المشاكل التي نعاني منها ستحل دفعة واحدة عندما يتم إعادة لحم الأجزاء المبعثرة للوطن العربي ونهوض "المارد العربي الجبار" من قمقمه.بغض النظر عن آلية ذلك والمنهاج الذي سيحكم به هذا المارد ولم يكن لدى أحد الإجابة عن السؤال :وماذا إذا حكمنا بالظلم وبالتخلف والظلامية ألم يحكمنا الأتراك بذلك في ظل ذلك المارد.وماذا بانتظار ذلك ؟هل نؤجل خطط التنمية والبناء والبرامج الاجتماعية والاقتصادية؟
ولم يكن التطبيق العربي للاشتراكية(في مصر وسوريا والعراق والجزائر) ليطمئننا بأن محتوى هذة الوحدة سيكون تقدميا تحرريا لمصلحة الفئات المغلوبة والمقهورة .
وكنت قد بدأت بقراءة الماركسية كما معظم الزملاء,جذبني إليها محاكمتها العلمية الصارمة للأمور ,وشدني إليها شمولية نظرتها للكفاح,ووقوفها إلى الجانب الذي كنا نقف معه وهو الفئات المضطهدة .
أعطتنا هذة القراءات الاجوبة عن الكثير من الأسئلة ,وعلمتنا أن نلقي تلك الأسئلة الكبرى وراء ظهورنا ,إذ لم يعد مهما أن نعلم حقا تلك الأجوبة ,ولطالما أتيح لنا المجال فلنملأن هذة الفسحة بالعمل والمرح والارتقاء وليكن مرورنا العابر في هذة الدنيا مرورا مفيداوجميلا لنا ولمجتمعنا.
وبذات القدر الذي جذبتني فيه الماركسية,نفرت من" المتمركسين " ,وخاصة قياداتهم الكثيرة والمتشعبة ,ولهذا أسبابه , فقد حدث غير ذات مرة أن ألقيت على شرفة منزلنا منشورات ممنوعة ,وتصادف وقوع احدى هذة المنشورات بين يدي والدي وكانوا قد تعودوا على وجود بعض الكتب والكراسات الماركسية في المنزل ,كما أن مجلتي المدار والطريق الى الاشتراكية كانتا تصلاني بانتظام نتيجة اشتراكي بهما.
فخشوا أن يكون الأمر قد تجاوز القراءة إلى حد "التورط" في احد التنظيمات الممنوعة ,وأبدوا الرغبة أن أترك هذة الأمور والالتفات لدراستي .
إلا أن حادثتين اثّرتا بشكل كبير في نظرتي لتلك التنظيمات :الأولى :حادثة جرت مع قريب لي في موسكو رواها لي في تلك الأيام المبكرةإذ التقى مع أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري في الستينيات على طاولة غداء ,وسأله هذا بكل جدية :هل صحيح انه يوجد لدى العلويين إباحية جنسية!؟
وهناانتفض قريبي قائلا:إذا كانت ستّك قد قالت لك ذلك, فستي قالت لي أنه يوجد لديكم أذناب ,فإذا كنت تصدقها فإني أصدقها.
والثانية هي الالتقاء الذي حصل بين الإخوان المسلمين وجماعة رياض النرك "المكتب السياسي"في بداية الثمانينيات لتشكيل جبهة نضال واحدة ,"ضاربا بعرض الحائط "المنطلقات والمرتكزات والثوابت والحتمية والصراع الطبقي" دفعة واحدة .
لقد أسقط لينين الفلاحين من حسابه,وكان من غير الممكن تطبيق ديكتاتورية الطبقة العاملة في بلد نصفه يعمل بالزراعةولا تشكل الطبقة العاملة فيه أكثر من 5% من السكان.ولم تكن التجربة الصينية "الماوية" ومحاولة إيجاد الحلول للمسألة الزراعية ليغري بتكرار التجربة.
لقد كان من سوء حظ الماركسية أنها طبقت في روسيا الخارجة من الحكم القيصري والخاضعة للعلاقات الاقطاعية,ومع ذلك فإنها وفي غضون ثلاثين عاما أرسلت أول إنسان للفضاء وأطلقت أول قمر صناعي ودحرت النازية وكانت الرئة التي تنفس من خلالها العالم الثالث مع أن ثمن كل ذلك كان كبيرا بالنسبة للتضحيات البشرية من جانب وعلى صعيد الحقوق الفردية للناس وحريتهم. ,
لقد أدركنا أن النظرية مهما كانت عادلة وجديرة ومحقة ,لا بد أن تنحرف وتتشوه عندما تنزل إلى الأرض وتتمرغ بأوحال الواقع ,وعندما تلبس لبوس الناس تخضع لمعاييرهم الذاتية ولمصالحم وأغراضهم الخاصة.
كما حصل سابقا مع الأديان ..حيث خيضت الحروب باسمها وارتكبت المجازر وتم تجريم وتكفير شعوبا وأقواما بأكملها..
.
ويبدو أنه في هذا الشرق لا يهم اليافطة التي تحكم الطبقات صاحبة النفوذ المالي والعسكري والديني من خلالها فحين قيض لأحد الأحزاب الشيوعية في العراق أن يحظى برعاية نظام حكم عبد الكريم قاسم في العراق ارنكب هؤلاء نفس الممارسات التي مورست عليهم .(1).
ومع ذلك كله لم تفقد الماركسية بريقها لدينا وبقيت تقدم لنا الأرضية الصلبة لمناقشة ومحاكمة وتحليل الأمور وفهم آليات الصراع بين طبقات المجتمع وشرائحه المتنازعة ,بفضل قوانينها العلمية المحكمة
لقد كان الفكر الاشتراكي عموما,والماركسية على نحو أضيق ,الدعامة الأولى "للسيبة"التي ستبنى عليها أفكارنا وشخصياتنا. .
من ناحية أخرى كان لإحساسنا بأننا ننتمي لوطن كان له الأسبقية في التمدن والحضارة ,وكان لابنائه تلك الإنطلاقة الإنسانية البديعة التي أهدت البشرية الحرف الأول والقانون الأول والقطعة الموسيقية الأولى والمدنية الأولى ,كان لهذا الإحساس الأثر الكبير في اعطائنا جرعة هائلة من الثقة بالنفس وبالانتماء لوطن حضاري .
وكنا نحس أن تفتيت هذا الوطن وانتزاع أطرافه إنما تم لكي يبقى مشلولا عاجزا عن استعادة ذلك الدور.
فمنذ بداية القرن انتزعت كيليكيا منه وتم تفصيل دول على مقاسات أولاد الشريف حسين ,عبد اللة وفيصل وغازي ,وتم إعطاء وعد بلفور لليهود بإقامة وطن لهم في فلسطين وتم إعلان" استقلال "لبنان من قبل فرنسا المنتدبة على سوريا ولبنان وتمت رشوة تركيا بلواء اسكندرون لتقف على الحياد في الحرب العالمية الثانية .
بل وأراد ت "ونفذّت"فرنسا تقسيم ما تبقى من الجسد السوري المنهك إلى مكونات ودول ورقية طائفية.)
كنا نستغرب ذلك الحظر التام للحزب السوري القومي في سوريا ,قبل أن نقرأ تلك المؤامرة التي نسجتها أجهزة الأمن السورية بتحريض وتغطية من السفارةالمصرية التي كان على رأسها محمود رياض ,وذلك باغتيال عدنان المالكي النجم الصاعد آنذاك ,مما أعطى الذريعة لتصفية وملاحقة زعماء وأعضاء هذا الحزب وحظره بشكل نهائي في سوريا حتى الآن.
ولكن ما ساهم أيضا في انعزال القوميين السوريين إضافة لذلك ,أنه كان حزبا نخبويا ,ولم يكن حزبا جماهيريا
ولم يكن "توليد العصبية" كافيا فقط لقيام "النهضة" .مع أنه تكلم عن ضرورة إقامة العدل الاجتماعي والاقتصادي واعتبره شرطا لقيام النهضة .
لقد حاول المزج وايجاد صيغ التوافق بين أشياء متناقضة ولم يكن اطلاق سعادة لمصطلح "المدرحية" مازجا بين المادية والروحية ليفيد حقا في هذة الموائمة .
ولكن ظلت صرخات سعادة تطرق أسماعنا , "الحياة وقفة عز" ,إن فيكم قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ"...
وظل موال عتابا يطلقه فلاح في أغوار الأردن يجد صداه في دبكة عرس في أقصى جبال" الشعرا" الساحلية السورية,وكوفية فلسطينية تجد شقيقتها في غوطة دمشق ,وزلغوطة فرح أو شهادة في لبنان تتردد على شاطىء دجلة,وأغنية لفيروز تتردد في أغاني ناظم الغزالي وصباح فخري ,وظل الكلام واحد , والأمثال واحدة,والأسماء واحدة,والألم واحد ,و تموز وشباط وعشتار وأبو الزلف وأبو الهيبا والغزيّل بقيت واحدة.
كان النضال من أجل استعادة سوريا لدورها الحضاري عبر توحيد ما قسم أولا ثم بناء هذا التوحد بطريقة علمية عصرية تتيح المجال للابداع والرقي,وتستعيد الكفاءات والعقول الكثيرة التي هجرت والتي زاد عددها "مع الأجيال التي نشأت هناك"عن المواطنين المقيمين,كان ذلك دعامة ثانية من تلك الركائز.
كانت هاتين الركيزتين ستظلان بدون محتواهما المادي إن لم تسندا بركيزة ثالثة..كانت تلك الركيزة الضرورية والمهمة لوقوف "السيبة" هي التحصيل العلمي والنجاح المهني وضرب المثل والقدوة.
كانت هذة الأرجل تطول أو تقصر ولم تكن واحدة عند الجميع ,وكانت تتعدد وتتفرع في مراحل كثيرة لاحقة إلا أنها بقيت تشكل الأساس ,وبقي الهدف هوالرغبة في التغيير والنهوض بالواقع المزري لمجتمعنا .
وهكذا تشكلت الأرجل اللازمة للنهوض ,وبدا الدرب واثقا واعدا.
لم نكن ندرك حينها أن حساباتنا ستصطدم بجدارالواقع الصلب وأن الأحداث لن تمنحنا الفرصة,وتضاءل حلمنا بالتغيير وبناء وطن على أسس علمية متحررة إلى الحد الذي أصبح فيه هذا الحلم هو المحافظة على هذة الأفكار نفسها من السقوط والتبدل ومسايرة التيارات الانتهازية الجشعة التي جرفت كل ماتبقى من تلك الأحلام الجميلة ,وذلك قبل خطوة واحدة من الهاوية.
يتبع...........
هوامش:
(1):انظر المذابح التي ارتكبت في مدينة الموصل بحق الشباب القومي مثلا.