آخر الأخبار

آينشتاين، أبو الثقوب السوداء على مضض

تعتبر معادلات النسبية العامة أساس النظرية الحديثة للثقوب السوداء،

وعلى الرغم من ذلك فقد أراد ألبرت آينشتاين استخدام هذه المعادلات

للبرهان على عدم إمكانية وجود تلك الأجسام السماوية الغريبة.

<J.برنشتَين>




يحدث أحيانا أن تتجاوز نتائج الإنجازات العلمية العملاقة ما كان يتخيّله مبدعوها بل تتجاوز في بعض الحالات حتى نواياهم. وهكذا أسهمت النسبية العامة في تأسيس مفهوم الثقب الأسود على الرغم من ألبرت آينشتاين. لقد نشر آينشتاين عام 1939 مقالا يحمل عنوانا غير مشجّع هو «حول منظومة مستقرة ذات تناظر كروي مكونة من عدة كتل يربطها التثاقل gravitiation.» كان آينشتاين يعتقد أنه برهن من خلال هذا المقال على عدم وجود ثقوب سوداء، وهي أجسام سماوية بلغت كثافتها درجة جعلت ثقالتها تحول دون انبعاث الضوء منها.



وقد استخدم آينشتاين في هذا البرهان نظرية النسبية العامة، التي نشرها عام 1916... وهي النظرية التي تُسْتخدم اليوم للبرهان ليس على إمكانية وجود ثقوب سوداء فحسب بل على أن هذه الثقوب تمثل الحالة النهائية التي ستؤول إليها، لا محالة، العديد من الأجسام السماوية. والملاحظ أنه لم تمض بضعة شهور على ظهور هذه المحاولة الداحضة حتى نشر كل من <R.أوپنهايمر> و <H.سنايدر> مقالا بعنوان «حول مواصلة التقلص التثاقلي» استخدما فيه نظرية النسبية العامة لتبيان كيفية تشكل الثقوب السوداء.





في سنة 1939، كان أوپنهايمر (في اليمين) يرى أن الثقوب السوداء يمكن أن تتشكّل، فيما كان آينشتاين يحاول دحض وجودها. وقد سلك كل منهما طريقه، لكنهما التقيا في معهد پرينستون للدراسات المتقدمة في أواخر الأربعينات حيث التقطت لهما هذه الصورة. ونحن لا نعرف، إلى اليوم، ما إذا كانا قد تناقشا ذات مرة حول الثقوب السوداء.




والأكثر من ذلك كله هو أن الدراسة الحديثة للثقوب السوداء، وبشكل أعم لانهيار النجوم، تعتمد على جانب آخر من إرث آينشتاين هو الفيزياء الإحصائية. ومن المعلوم أنه من دون التأثيرات التي تصفها هذه الفيزياء فكل الكواكب ستؤول، في آخر المطاف، إلى ثقوب سوداء، وهو ما يؤدي إلى تواجد كون يختلف اختلافا كبيرا عن الكون الذي نعيش فيه.



بوز وآينشتاين والفيزياء الإحصائية

لقد استوحى ألبرت آينشتاين فكرة إدخال الميكانيك الكمومي في الفيزياء الإحصائية من رسالة وصلته في الشهر 6/1924 بعث بها إليه فيزيائي هندي شاب غير معروف آنذاك، وهو <N .S.بوز>. وكانت هذه الرسالة مرفقة بمخطوطة مقال رفضت إحدى المجلات العلمية البريطانية نشرها. وبعد أن اطلع آينشتاين على المخطوطة ترجمها بنفسه إلى الألمانية وقام بنشرها في المجلة الفيزيائية المرموقة «مجلة الفيزياء Zeitschrift für Physik».



لماذا اعتقد آينشتاين أن هذا المقال مهم؟ لقد تساءل خلال عشرين سنة حول طبيعة الإشعاعات الكهرمغنطيسية، لا سيما عندما تُحصر داخل إناء ساخن وتكون متوازنة ترموديناميكيا (حراريا) مع جدران الإناء، وذلك ما يسمى بالجسم الأسود. كان الفيزيائي الألماني <M.پلانك> قد اكتشف الدالة الرياضياتية التي تصف شدة مختلف إشعاعات هذا الجسم بدلالة أطوال أمواجها (أو اللون). ووجد پلانك أن طيف الجسم الأسود لا يتعلق بالمادة التي صنع منها جدار الإناء بل يتعلق فقط بدرجة حرارته. فعلى سبيل المثال، عندما نقوم بتسخين قطعة حديدية، فإن لونها ينتقل على التوالي من الأحمر إلى الأبيض ثم إلى الأزرق بتزايد درجة الحرارة: إن لون الحديد، أي طيف إصداره، لا يتعلق إلا بدرجة حرارته.



استعمل بوز الفيزياء الإحصائية لدراسة إشعاع الجسم الأسود، واكتشف قانون پلانك انطلاقا من مبادئ الميكانيك الكمومي. وقام آينشتاين ـ كعادته ـ بتعميم هذه السيرورة: استخدم الطريقة نفسها لتحديد سلوك غاز من الجزيئات الثقيلة الخاضعة لقانون شبيه بذلك الذي استخدمه بوز بالنسبة للفوتونات. واستنتج منه آينشتاين قانونا مماثلا لقانون پلانك الخاص بهذه الحالة. ثم تنبأ بظاهرة مهمة: عندما نقوم ـ في درجة حرارة حرجة ـ بتبريد غاز الجسيمات الخاضعة للإحصائية المسماة بإحصائية بوز ـ آينشتاين (البوزونات bosons)، فإن كل الجسيمات تصبح فجأة في حالة كمومية «منحلَّة» degenerated. تسمى اليوم حالة المادة هذه كثافة condensat بوز ـ آينشتاين (مع أنه ليس لبوز علاقة مباشرة بهذه المادة).



يخضع الهيليوم 4 لهذا التكثيف. وتتكون نواة هذا النظير isotope للهيليوم من بروتونيْن ونيوترونيْن. وعندما تبلغ درجة الحرارة 2.18 كلڤن (C-272°C) يصبح هذا الغاز سائلا يتمتّع بخواص مدهشة، منها سيلانه بدون احتكاك الميوعة الفائقة superfluidity.



تاريخ الثقوب السوداء



1900
<M. پلانك> يكتشف إشعاع جسم أسود.
1905

ألبرت آينشتاين يبيّن في مقال حول إشعاع جسم أسود أن هذا الإشعاع يمكن اعتباره تدفق جسيمات (فوتونات).
1915

<W. أدامس> يراقب النجم المجاور لنجم الشعرى اليمانية الذي يجعل مسار الأخير مضطربا. إنه نجم صغير وساخن وكثيف (قزم أبيض).
1916

آينشتاين ينشر نظريته حول النسبية العامة التي تصف معادلاتها التثاقل.




لكن هناك جسيمات لا تتكاثف بهذه الطريقة. والجدير بالذكر أنه على إثر صدور أبحاث آينشتاين المتعلقة بموضوع التكاثف (التكثيف) condensation سنة 1925، تعرّف الفيزيائي النمساوي <W.پاولي> فئةً ثانيةً من الجسيمات تتميّز بسلوك آخر. يعتبر الإلكترون وكذا البروتون والنيوترون أمثلة لهذه الفئة من الجسيمات التي تسمى فرميونات fermions. لقد اكتشف پاولي أنه لا يمكن أبدا لفرميونين اثنين متطابقين ـ لإلكترونين مثلا ـ أن يكونا في الحالة نفسها. وهذه الخاصية تُعْرف حاليا بمبدأ استبعاد exclusion پاولي. ثم جاء <E.فِرمي> و<P.ديراك> عام 1926 ليضعا القوانين الإحصائية لسلوك هذه الجسيمات، وذلك بالموازاة مع إحصائية بوز ـ آينشتاين.



وبناء على مبدأ استبعاد پاولي فإن الفرميونات لا تتكثّف في حالة انخفاض درجة الحرارة. فعندما نبرّد غاز إلكترونات ونقوم بضغطه، فإن الإلكترونات تقترب بعضها من بعض حتى تضطر إلى اختراق الفضاء المخصّص لكل منها. وبما أن هذه الإلكترونات ليست في الحالة الكمومية نفسها فإنها تتجنب بعضها بعضا بالهرب بسُرَع قريبة من سرعة الضوء. وفيما يخص الإلكترونات والفرميونات الأخرى فإن الضغط الذي يولده انتشار هذه الجسيمات السريعة ـ وهو ضغط غاز منحل ـ يظل ساري المفعول حتى وإن قمنا بتبريد الغاز إلى درجة الصفر المطلق. ولا يُرَدُّ ذلك أبدا إلى التنافر المتبادل بين الإلكترونات الناتج من شحناتها الكهربائية المتطابقة، إذ نلاحظ السلوك نفسه في النيوترونات الخالية من الشحنات الكهربائية: إن مصدر ضغط أي غاز منحل مصدر كمومي بحت.



الإحصاء الكمومي والأقزام البيضاء

ما العلاقة بين الفيزياء الإحصائية والنجوم؟ كان الفلكيون قد اكتشفوا في القرن التاسع عشر فئة من النجوم المتميزة بصغر حجمها وقلة ضوئها: إنها الأقزام البيضاء white dwarf. وهكذا فإن نجم الشعرى اليمانية Sirius الأكثر لمعانا في السماء يجاور نجما كتلته تقارب كتلة الشمس، لكن إشعاعه يقل بِـ 350 مرة عن إشعاع الشمس. وعندما نقسّم كتلة قزم أبيض على حجمه، فإننا نحصل على كثافة معتبرة: إن سنتيمترا مكعبا واحدا من مركز النجم المجاور للشعرى اليمانية يزن 61 طنا. فما هي، يا ترى، هذه الأجسام العجيبة؟ سيجيبنا عن هذا السؤال <A.إيدنگتون>.



عندما بدأتُ دراسة الفيزياء في أواخر الأربعينات كان إيدنگتون أحد أبطالي. لكن أسباب هذا الإعجاب به كانت خاطئة. لم أكن أعرف شيئا عن أعماله الفلكية غير أني كنت معجبا بكتبه العلمية التعميمية. وكان إيدنگتون ـ المتوفى عام 1944 ـ يعتقد أنه بمقدورنا دراسة كل الأمور المهمة في الكون باستخدام إمكاناتنا الفكرية لا غير. لقد كان إيدنگتون منذ أواخر 1910 ـ عندما كان يشرف على إحدى البعثتين اللتين أكدتا أن الشمس تؤثر في انحناء مسار الأشعة الضوئية، وهي ظاهرة تنبأ بها آينشتاين ـ إلى نهاية الثلاثينات واحدا من عمالقة العلم في القرن العشرين. فقد كان أحد مبتكري الاختصاص العلمي الذي أدى إلى فهم «كيفية التشكيل الداخلي للنجوم»، وهو عنوان كتابه الذي صدر عام 1926 والذي أصبح الآن من الكتب التقليدية. وتعتبر الأقزام البيضاء بالنسبة لإيدنگتون بمثابة استفزاز هبط عليه من السماء، وذلك من الناحية الجمالية على الأقل. لكن هذا لم يمنعه من دراستها والتوصل إلى الفكرة السليمة حولها.





1916

بيّن كارل شوارتشيلد أنه يوجد، في المعادلات التي تصف تثاقل كمية من مادة متمركزة في نقطة، نصف قطر تظهر عنده انفرادية (شذوذ).
1924

آينشتاين ينشر عمل ساتيندرا بوز حول إشعاع جسم أسود ويصف السلوك الإحصائي لجسيمات تسمى بوزونات كالفوتونات.
1924

آرثر إيدنگتون يرى أن التثاقل في قزم أبيض يفكّك النوى الذرية بفصل الإلكترونات عن البروتونات.
1925

ولفگانگ پاولي يصيغ قانون الاستبعاد الذي ينص على أن بعض الجسيمات لا يمكن أن توجد في الحالة الكمومية نفسها.




لقد تصور إيدنگتون عام 1924 أنه بمقدور القوة التثاقلية الضاغطة على قزم أبيض أن تخلع بعض الإلكترونات من الذرات. وبذلك تفقد تلك الذرات حدودها الإلكترونية فينتج من ضغط غاز الإلكترونات المنحل تجميع للنوى في حشد cluster صغير وكثيف. وتتوقف عملية انهيار القزم الأبيض عندما يحدث توازن بين القوة التي يمارسها ضغط غاز الإلكترونات المنحل (عندما يرغم مبدأ استبعاد پاولي الإلكترونات على الابتعاد بعضها عن بعض) مع قوة التثاقل.



الكتلة القصوى

لقد شهدت دراسة الأقزام البيضاء تقدما جديدا في الشهر 7/1930 بفضل <S.شندراسخار>، الذي لم يتجاوز عمره حينذاك 19 سنة. كان شندراسخار قد اطلع على كتاب إيدنگتون حول النجوم وكتاب <R.فَوْلر> حول الميكانيك الكمومي. ومن ثم أعجب شندراسخار بالأقزام البيضاء. وعندما استضافته جامعة كمبردج (حيث يوجد إيدنگتون) بدعوة من قِبَلْ فَوْلر ركب سفينة تصل مدينة مَدْراس (الهندية) بمدينة ساوثهمتُن. ولكي يملأ وقت فراغه خلال رحلته، تساءل شندراسخار عن وجود حد أقصى لكتلة قزم أبيض قبل انهياره تحت تأثير ثقالته الذاتية. لقد أحدثت إجابته عن هذا السؤال ثورة.



لما كان القزم الأبيض ـ في مجمله ـ محايدا كهربائيا، فإن كل إلكترون يرافقه بروتون. لكن البروتون أثقل من الإلكترون بِ 2000 مرة، لذا فإن بروتونات القزم الأبيض هي التي تولّد أهم ضغط تثاقلي. وإذا لم يتعرض القزم الأبيض للانهيار فهذا يعني أن هناك توازنا بين ضغط غاز الإلكترونات المنحل والقوة التثاقلية للبروتونات. إن هذا التوازن يحدّ من عدد البروتونات، وبالتالي يحد من كتلة القزم الأبيض. وحاليا، تسمى هذه الكتلة القصوى حد شندراسخار، وهي تساوي 1.4 مرة كتلة الشمس. ومن المعلوم أن الأقزام البيضاء التي تزيد كتلتها على هذا الحد أقزام غير مستقرة.



كانت نتيجة شندراسخار قد حيّرت إيدنگتون. فماذا يحدث لو زادت الكتلة على كتلة الشمس بمقدار 1.4 مرة؟ إذا لم يكن هناك سبيل يحد من كتلة النجوم وكانت نتيجة شندراسخار صحيحة، فلا بد أن تزول ـ في آخر المطاف ـ جميع النجوم الثقيلة ضمن انهيار تثاقلي. وقد وجد إيدنگتون هذا الوضع غير مقبول ولم يرض عن طريقة شندراسخار في استخدام الفيزياء الإحصائية، حيث انتقده في مجالسه العامة والخاصة. وقد أثقلت هذه الانتقادات كاهل شندراسخار لكنه لم يستسلم حيث كان يدعمه فيزيائيون آخرون مثل <N.بور> الذي أكد له أن إيدنگتون مخطئ ولذا ينبغي ألا يؤخذ برأيه.



إحساس من نوع خاص

وبينما كان البعض منهمكا في استكشاف الفيزياء الإحصائية والأقزام البيضاء، كان البعض الآخر يتدارس عمل آينشتاين حول التثاقل: أي نظرية النسبية العامة. وحسب علمي فإن آينشتاين أمضى بعض الوقت في البحث عن حلول مضبوطة (ليست تقريبية) لمعادلاته المتعلقة بالتثاقل. ومع ذلك، هناك حلول تقريبية تصف بدقة كافية ظواهر مختلفة كانحناء مسار الضوء بسبب النجوم. لذا انبهر آينشتاين عندما عثر الفلكي الألماني <K. شوارتشيلد> عام 1916، على الحل المضبوط الذي يصف الحقل التثاقلي الناتج من جسم ذي تناظر كروي في الخلاء.





1926

إنريكو فرمي وبول ديراك يُمليان القوانين الإحصائية التي تصف الجسيمات الخاضعة لمبدأ استبعاد پاولي، هذه الجسيمات هي الفرميونات (كالإلكترونات والبروتونات). عندما تكون الفرميونات مضغوطة بدرجة كبيرة فإنها تبتعد بعضها عن بعض، وينشأ الضغط عن هذه الحركة.
1930

باستخدام الفيزياء الإحصائية وما توصل إليه إيدنگتون حول النجوم، استنتج سوبرهمانيان شندراسخار أن الأقزام البيضاء لا يمكن أن تكون لها كتلة تتجاوز 1.4 مرة كتلة الشمس. لذا لا بد أن تنهار النجوم التي لها كتل أكبر، بشكل غير متناه.




وقد لاحظ شوارتشيلد خلال قيامه بالحسابات أن الحقل التثاقلي يصبح لامتناهيا على مسافة معينة عن مركز النجم. وعند بلوغ تلك المسافة التي تسمى حاليا نصف قطر شوارتشيلد(1)، يزول متغير الزمن من المعادلات ويصير الفضاء لامتناهيا. تمتلك هذه المعادلات ما يسميه الرياضياتيون انفرادا (شذوذا) singularity. وفي أغلب الأحيان يكون نصف قطر شوارتشيلد أصغر بكثير من نصف قطر النجم الكروي قيد الدراسة. وعلى سبيل المثال فإن نصف قطر شوارتشيلد يساوي بالنسبة للشمس ثلاثة كيلومترات، ويساوي بالنسبة لكرة فولاذية تزن طنا واحدا (قطرها 60 سنتيمترا)24-10متر (أي ملّي جزء من بليون جزء من بليون جزء من المليمتر).



كان شوارتشيلد يعلم أن صيغته لا تصلح على مسافة تقدر بنصف قطر شوارتشيلد، لكنه قرر أن ذلك ليس ذا شأن. وأنشأ نموذجا مبسطا لنجم وأثبت أن هذا النموذج يتطلب تدرج ضغط pressure gradient لامتناهيا للتمكن من ضغط هذا النجم إلى حد يوصل نصف قطره إلى نصف قطر شوارتشيلد. واعتقد أن هذه الانفرادية ليس لها فائدة عملية.



إلا أن آينشتاين ظل قلقا لأن نموذج شوارتشيلد النجمي لا تتوافر فيه بعض شروط نظرية النسبية. وقد بيّن العديد من الفيزيائيين أنه بالإمكان إعادة كتابة حلول شوارتشيلد بشكل يسمح بتفادي تلك الانفرادية. لكن، هل ستختفي هذه الانفرادية فعلا؟ واستمر النقاش حول هذا الأمر حتى عام 1939 بين مجموعة صغيرة من الفيزيائيين المهتمين بهذا الموضوع.



وفي مقال صدر عام 1939 ذكر آينشتاين أن عودته إلى الاهتمام بنصف قطر شوارتشيلد ناجمة عن مناقشات دارت بينه وبين الفيزيائي الفلكي <H.روبرتسون> من جامعة پرينستون. وكان آينشتاين يرغب، من خلال هذا المقال، في إغلاق ملف انفرادية شوارتشيلد. وقد كتب في آخر فقرات المقال: «إن النتيجة الرئيسية لهذا البحث هي التوصل إلى فهم واضح للأسباب التي تجعل انفرادية شوارتشيلد غير موجودة في الواقع الفيزيائي.» وهذا يعني بلغة حديثة، أن الثقوب السوداء غير موجودة.



1932

جيمس شُدويك يكتشف النيوترون. وقد أدى هذا الاكتشاف إلى طرح التساؤل عما إذا كانت «نجوم النيوترونات» لا تمثل حلا لمسألة الأقزام البيضاء.
1939

آينشتاين ينشر، إثر المناقشات التي أجراها مع زملائه، مقالا في مجلة Annals of Mathematics ليبرهن، بصفة نهائية، على أن نصف قطر شوارتشيلد لا يمكن بلوغه.
1939

باستخدام أفكار حول الانهيار التثاقلي للأقزام البيضاء ونجوم النيوترونات، بيّن روبرت أوپنهايمر وهارتلند سنايدر كيف يمكن أن يتشكّل ثقب أسود.




وأخذ آينشتاين في الاعتبار ضمن برهانه، مجموعة من الجسيمات الصغيرة التي تنتقل على مدارات دائرية تحت تأثير قواها التثاقلية المتبادلة، حالها إلى حد ما كحال حشد كروي من النجوم. ثم تساءل عن إمكانية انهيار مثل هذا الشكل النموذجي، تحت تأثير ثقالته الذاتية، ليصبح نجما مستقرا نصف قطره يساوي نصف قطر شوارتشيلد الخاص به. ويجيب عن هذا السؤال بالنفي لأنه عندما يكون نصف القطر أكبر من نصف قطر شوارتشيلد، ينبغي على نجوم الحشد أن تنتقل بسرعة تفوق سرعة الضوء كي تحافظ على شكل خارجي مستقر. ومع أن مناقشة آينشتاين سليمة، فإن استنتاجه غير صحيح: إذ لا يهم كثيرا أن يصبح نجمٌ ما مستقرا عندما يتقلص إلى حد نصف قطر شوارتشيلد، لأن انهيار النجم سيستمر بعد بلوغ نصف القطر هذا.



نيوترونات ذات ثقوب سوداء

وبينما كان آينشتاين يواصل أبحاثه، كان أوپنهايمر وطلبته يشكلون النظرية الحديثة للثقوب السوداء [انظر: «روبرت أوپنهايمر: قبل الحرب العالمية الثانية»،مجلة العلوم، العددان11و 12(1996)، ص 80] وإذا كانت قصة الثقوب السوداء غريبة، فإن مصدرها لا يقل غرابة عنها: كانت هذه النظرية مستوحاة من فكرة تبيَّن فيما بعد أنها خاطئة تماما. لقد اكتشف الفيزيائي البريطاني <J.شادويك> النيوترون، المركب المحايد في النواة الذرية؛ وبعد ذلك بقليل تخيّل <F.زويكي> من معهد كاليفورنيا للتقانة و<L.لانداو> (في موسكو) أن وجود نيوترونات في الأقزام البيضاء يحوِّل طاقتها إلى تلك الأقزام، وهي فكرة غير صحيحة.



ويرى هذان الفيزيائيان أنه عندما تشتدّ القوة التثاقلية بشكل كاف داخل النجم، تستطيع الإلكترونات التفاعل مع البروتونات وتتشكل من جراء ذلك النيوترونات. وعندئذ يكون النجم بأكمله مشكَّلا من النيوترونات. ومن المعلوم أنه في الوقت الذي كانت تُجْرى فيه هذه الأبحاث، لم تكن الكيفية التي تنتج الطاقة داخل النجوم العادية معروفة، بل كان البعض يتوقع وجود نجم مكون من نيوترونات داخل كل نجم عادي، تماما كما لو افترضنا اليوم أن ثقوبا سوداء هي مصدر طاقة الكويزرات(2) quasars.



أخطاء آينشتاين

قبل الستينات، كان معظم الاختصاصيين في النسبية العامة يعتقدون أن الحقل التثاقلي خارج تركيز كروي للمادة (نجم أو ذرة) قريب من ذلك الذي تتوقعه نظرية نيوتن. والأكثر من ذلك أن هذا الحقل كان قريبا مما تنبأت به النظرية النيوتونية إلى حد جعل من الصعب إيجاد اختبارات تسمح بمعرفة ما إذا كان التثاقل يتفق أكثر مع نظرية نيوتن أم مع نظرية آينشتاين.

وعلى أية حال يمكننا طرح السؤال التالي: كم يبلغ الحقل التثاقلي لكرة ضخمة تتمركز مادتها في نقطة، كي نتمكن من دراسة حقلها التثاقلي دراسة جيدة؟ على مسافة قريبة جدا من المركز، تظهر قيمة حدية غريبة: إنها نصف قطر شوارتشيلد (المساوي لـ r = 2 GM/c2، حيث G ثابت التثاقل و M كتلة الكرة و c سرعة الضوء). وقد أجري العديد من البحوث لدراسة خواص هذه الكرة. وكان الرأي السائد ـ بين 1915 وسنوات الستينات ـ أن هناك فعلا انفرادية singularity لا يمكن ـ في الظاهر ـ اختراقها، «كرة سحرية» على حد قول إيدنگتون.

إن مثل هذا الكائن السماوي لا يمكن أن يتشكل لأنه لا توجد مادة كثيفة بشكل كاف تفي بهذا الغرض، ثم إن نصف القطر الحدي لشوارتشيلد لا يمكن اختراقه. وهكذا فإن انفرادية شوارتشيلد لا يمكن أن توجد في الواقع الفيزيائي وظل السؤال سؤالا أكاديميا. وبالتالي كان العلماء مرتاحي البال في هذا الشأن. وارتياح البال هذا، الذي كان يدافع عنه آينشتاين بعناد، كان مهددا من قبل أعمال أوپنهايمر وتلامذته.

وهكذا فإن السؤال نفسه الذي طرحه أوپنهايمر وسنايدر وكذلك آينشتاين، كان له ـ كما يؤكد كاتب المقال ـ جوابان متعارضان. إن مصدر هذا الاختلاف يقع ـ من دون شك ـ في وجهة نظر آينشتاين الذي اعتقد ـ ورغب ـ في عدم إمكانية اختراق نصف قطر شوارتشيلد. وقد تُرجم هذا الاعتقاد إلى اختيار نموذج خاص لدراسة إمكانية انهيار نجم: فبينما اختار أوپنهايمر وسنايدر تناظرا نصف قطري (يُمكّن من السقوط!) راح آينشتاين يُخْضِع الجسيمات التي تشكل نموذجه إلى اتباع دوائر (يُبعدها عن السقوط!)... ويشبه ذلك محاولة الضغط على نابض ليس بالشكل العادي بل بالضغط على مساحته الجانبية رغبة في تقليص قطره. وباختصار، فقد أدخل آينشتاين قيدا في نموذجه يؤدي به لا محالة، إلى نتيجته.

والواقع أن هناك العديد من الأعمال، التي يحتمل ألا يكون آينشتاين قد اطلع عليها والتي أُنجزت خلال الثلاثينات، وهي تبين أن حد شوارتشيلد ليس انفرادية (شذوذا)؛ لا سيما أعمال روبرتسون الذي أثنى عليه آينشتاين في مقاله. لكن «أسوأ الصم هو ذلك الذي يرفض الاستماع» [مثل فرنسي]...

إن الأمر يتعلق بمسألة أساسية ترتبط بانسجام النظرية. لقد كان آينشتاين يعارض دوما فكرة ظهور انفرادية في حل فيزيائي، لأنه يرى ـ كما جاء في إحدى مقالاته المخصصة لهذه المسألة ـ أن «الانفرادية تأتي بقدر كبير من العشوائية داخل النظرية مما يجعل بعض قوانينها غير صحيحة.» فإذا وجدت انفرادية في نقطة ما، فإن الفيزياء في هذه النقطة من الزمكان space-time تصبح غير محددة؛ لكن، مادامت فيزياء النسبية العامة تُنمذِج الزمكان ذاته، فإن الانفرادية تمثل انقطاعا في الفضاء.

وبإمكاننا أن نلمّ جيدا بالصعوبات التي واجهت آينشتاين إذا ما أدركنا أن المسألة الواسعة المتعلقة بالانفراديات في النسبية العامة لم تُحلّ بعد، حتى وإن قُدِّمت الإجابة، خلال الستينات، عن السؤال الدقيق الذي أخفق فيه آينشتاين.

إلا أن السؤال حول الثقوب السوداء لم يكن مطروحا عام 1939 لا من قبل آينشتاين ولا من قبل غيره. فلأسباب تتعلق بالمفاهيم السائدة حينذاك في مجال النسبية العامة لم يستطع العلماء تخيل هذه الكائنات الغريبة قبل الستينات؛ ولم تحظ بالقبول إلا بعد ذلك بفترة، وحتى الآن مازال وجودها (الفلكي ـ الفيزيائي) غير واضح المعالم. والغريب أن «الأجسام المظلمة» ـ وهي كائنات تشبه الثقوب السوداء في عدة جوانب ـ تم تخيلها بسهولة منذ القرن 18 في إطار نظرية التثاقل النيوتونية.

<جان آيزنشتيد>،

مختبر التثاقل والكسمولوجيا النسبيين، باريس

Laboratoire grvitation et cosmologie relativistes, Paris




ما الذي كان يعادل كتلة شوارتشيلد بالنسبة إلى هذه النجوم؟ كان هذا السؤال أصعب من السؤال المماثل المتعلق بالأقزام البيضاء؛ لأن النيوترونات تتفاعل عندما تشتدّ القوة التي لا ندرك إلى اليوم كل خواصها. إذا كان النجم ثقيلا بشكل كاف فإن التثاقل يتغلب في آخر المطاف على هذه القوة، لكن تعيين الكتلة القصوى تعيينا دقيقا يتعلق، بطبيعة الحال، بالقوة الشديدة. كان أوپنهايمر وتلميذاه <R.سربر> و<G. ڤولكوف> قد نشروا في عامي 1938 و 1939 مقالين استخلصوا فيهما أن الكتلة القصوى في هذه الحالة تماثل كتلة شاندراسخار المتعلقة بالأقزام البيضاء.



وعندئذ طرح أوپنهايمر القضية نفسها التي طرحها إيدنگتون بخصوص الأقزام البيضاء: ما الذي يحدث لو انهار نجم كتلته تفوق إحدى هاتين الكتلتين القصويين؟ من المحتمل أن يكون أوپنهايمر على دراية بعمل آينشتاين؛ إذ إن المسافة التي كانت تفصلهما تقارب 5000 كيلومتر. إلا أن هذا العمل لا يجيب عن سؤال أوپنهايمر الذي لم يكن يرغب في إنشاء نجم مستقر نصف قطره يساوي نصف قطر شوارتشيلد، بل كان يريد مشاهدة ما سيحدث لو ترك النجم ينهار بعد تجاوزه نصف قطر شوارتشيلد، فاقترح على سنايدر دراسة هذه المسألة.



وقد أوصى أوپنهايمر ببعض الفرضيات التي من شأنها تبسيط الدراسة: فقد اقترح إهمال ضغط الغاز المنحل أو الدوران المحتمل للنجم. وكان حدسه يوحي له بأن هذه الفرضيات لا تغيّر النتيجة تغييرا أساسيا: وبعد سنوات عديدة قام فيزيائيون من جيل آخر ـ جيل الحواسيب السريعة ـ بإثبات أن أوپنهايمر كان مصيبا. واكتشف سنايدر أن مشاهدة نجم خلال انهياره ترتبط بموقع المشاهد ارتباطا مدهشا.



وجهتا نظر

لنبدأ بحالة مشاهدٍ غير متحرك يبعد مسافة معقولة عن النجم. ولنفترض أيضا أن مشاهدا آخر موجود على سطح النجم لمرافقة انهيار هذا النجم وإرسال إشارات ضوئية إلى زميله الثابت. فبقدر ازدياد تقلص النجم يلاحِظُ الراصد الثابتُ إشارات زميله المتحرك تنسحب تدريجيا نحو الطرف الأحمر للطيف الكهرمغنطيسي بمفعول دوپلرDoppler (الذي يعمل على زيادة حدة صفارة سيارة الإسعاف عندما تقترب السيارة مقارنة بحدتها عند ابتعادها.) ولما كان تردد (تواتر) frequency إشارة يشبه وتيرة دقات الساعة، فإن المشاهد الثابت سيرى ساعة المشاهد المتحرك تتباطأ تدريجيا.



وعندما يبلغ نصف قطر النجم نصف قطر شوارتشيلد الخاص به، تظهر الساعة وكأنها توقفت نهائيا. وعندئذ سيؤكد المشاهد الثابت أن النجم أمضى وقتا لامتناهيا في التقلص حتى بلغ نصف قطر شوارتشيلد. ومن ثم لا يستطيع معرفة ما سيحدث بعدئذ لأنه لن يكون ثمة وجود بعدئذ. ومن وجهة نظر هذا المشاهد، فإن الانهيار يتوقف عندما يتساوى نصف قطر النجم مع نصف قطر شوارتشيلد: يظل النجم «مجمدا» في حالة شوارتشيلد.



ومن المعلوم أنه قبل أن يبتدع الفيزيائي <J.ويلر> اسم «ثقب أسود» أثناء محاضرة ألقاها في الشهر 12/1967 كانت هذه الكائنات تدعى «نجوما مجمدة». وكما لاحظ أوپنهايمر وسنايدر في مقالهما، فإن النجم الذي ينهار «يميل إلى التوقف عن أي اتصال مع مشاهد بعيد عنه؛ ولا يبقى سوى حقله التثقلي». وهذا يعني أن ثقبا أسود قد تكوّن.



ومن جانب آخر، ماذا سيرى المشاهد المتحرك على سطح النجم خلال عملية التقلص؟ إنه لا يدرك مغزى خاصا لنصف قطر شوارتشيلد، إذ إنه يخترقه ثم يبلغ المركز، في ظرف عدة ساعات بتوقيت ساعته الخاصة. إلا أنه سيخضع، بعد مدة من زمن الاختراق، إلى قوى مد مُعتبرَة تمزقه إربا إربا.



كان العالَم سنة 1939، على وشك الخضوع، هو الآخر، إلى عملية تمزقه إربا إربا. وكان أوپنهايمر قد ذهب ليصنع السلاح الأكثر دمارا والذي لم يسبق للإنسان أن صمم مثيله؛ ولم يعد قط للعمل في مجال الثقوب السوداء. وحسب علمي فإن آينشتاين اتّبع الطريق نفسه. وبعد حلول السلام، أصبح أوپنهايمر عام 1947 مديرا لمعهد پرينستون للدراسات المتقدمة حيث كان آينشتاين يشغل هناك منصب أستاذ. وكان الرجلان يتناقشان من حين لآخر، لكن لا شيء ينبئنا بأنهما تحدثا عن الثقوب السوداء. ولم ينطلق التقدم في هذا المجال مجددا إلا خلال الستينات حين أحيا اكتشاف الكويزرات والبَلْسرات(3) (النجوم النباضة) pulsars والمصادر المتراصة للأشعة السينية، التفكير في المصير الغامض للنجوم.




--------------------------------------------------------------------------------

المؤلف

Jeremy Bernstein

أستاذ متفرغ في معهد ستيفنز التقاني، وأستاذ منتدب في جامعة روكفلر ونائب رئيس مجلس أمناء أسپن سنتر للفيزياء. وكان من الكتاب الموظفين لدى المجلة «نيويوركر»، وقد مُنِح عدة جوائز لكتاباته العلمية. وهذا المقال اقتباس محوّر من مجموعة مقالات: نظرية لكل شيء A Theory for Everything التي صدرت عام 1996 من قبل كوپرنيكوس (سبرنگر ڤيرلاگ). وقد نشر له في «مجلة العلوم» مقال بعنوان: «ماذا قال هيزنبرگ لبور عن القنبلة؟»، العدد 1 (1996) ، صفحة 22.




--------------------------------------------------------------------------------

مراجع للاستزادة

SUBTLE IS THE LORD: THE SCIENCE AND THE LIFE OF ALBERT EINSTEIN. Abraham Pais. Oxford University Press, 1982.

DARK STARS: THE EVOLUTION OF AN IDEA. Werner Israel in 300 Years of Gravitation. Edited by S. W. Hawking and W. Israel. Cambridge University Press, 1987.

CHANDRA: A BIOGRAPHY OF S. CHANDRASEKHAR. Kameshwar C. Wali. University of Chicago Press, 1991.

BLACK HOLES. J.-P. Luminet et al. Cambridge University Press, 1992.

BLACK HOLES AND TIME WARPS. Kip Thorne. W. W. Norton, 1994.

A. PAIS, Albert Einetein: la vie et l'oevure, InterEditions. 1993.

K. WALI, Chandra: A Biography of S. Chandrasekhar, University of Chicago Press, 1991.

J.-P. LUMINET, Les trous noirs, Seuil, 1992.

J. EISENSTAEDT, Trajectoires et impasses de la solution de Schwarzschild, in Archive for History of Exact Sciences, vol. 37, p. 275; 1987.

J. EISENSTAEDT, La prehistoire des trous noirs, Pour la Science, fevrier 1990.

K. SUGIMOTO, Albert Einstein, biographie illustree, Belin, 1990.

J. SCHWINGER, L'heritage d'Einstein, Belin, 1988.

Scientific American, June 1996




--------------------------------------------------------------------------------

(1) Schwarzschild radius، ويطلق عليها أيضا اسم أفق شوارتشيلد Schwarzschild horizon. (التحرير)

(2) تمت صياغة المصطلح كويَزر quasar عام 1963 من حروف العبارة quasi stellar radiosource، والكويزرات مجرات مشعة بعيدة جدا تظهر عبر المقراب البصري في شكل نقاط. وقد اكتشف الفلكيون اليوم أكثر من ألف من هذه المجرات. (التحرير)

(3) البلْسار pulsar هو نجم من نيوترونات في حالة دوران. والنقاط الساخنة الموجودة في البَلسار تشع بأمواج نلتقطها على شكل «نبضات» pulsation، ومنها جاءت التسمية. (التحرير)