آخر الأخبار

قصة الثورةالمالوكسية-(4)

نتهم  بالنوستالجيا,الحنين المزمن للماضي,وهذا بالمجمل صحيح , منا من يحن لماض قريب وآخر يحن لماض أبعد . لم يعشه ولكن قرأ عنه وصوّر له بصور زاهية مشرقة,فاستحضره هروبا من واقع أليم.

وفي داخل كل منا أندلس ضائعة ...وفردوس مفقود.

وربما يعود ذلك في جزء منه لانكسار الأحلام وانهيار الطموحات شيئا فشيئا...وصدق ذلك الأديب (يغيب اسمه الآن عن الذاكرة) حين قال :في العشرين كنا نحلم بتغيير العالم ,وأصبحنا في الثلاثين نحلم بتغيير الوطن ,وفي الأربعين بتغيير مدينتنا,وفي الخمسين بتغيير حارتنا,وفي الستين بتغيير عائلتنا ,وها أناالآن على مشارف السبعين أقصى طموحي هو أن أنجح بتغيير نفسي.

تلك الأيام هل كانت جميلة حقا ,هل كنا سعداء ؟

أم أن العقل يقوم بعملية اصطفاء خفية فيلقي بالذكريات المؤلمة والبائسة في قاع مظلم, ولا يثقل الكاهل المثقل أصلا بالمهام والواجبات والانكسارات.

إن ما أرويه في هذة الحلقات ليس مجرد "تداعيات من ذلك الحنين" وسيرة ذاتية مفصّلة لي ولمجموعة من رفاق الدرب ,وليس سردا لوقائع يومية عادية قد مر مثلها مع الكثير ممن يقرأونها ,

لكن هو استحضار لهذا الماضي في مفاصل معينة وتسليط الضوء عليه في محاولة لفهم الراهن وأثر الأحداث البعيدة التي عايشناها عليه ,و كذلك أحلام وأفكار شريحة متقدمة من المجتمع وانعكاس تلك الأحداث عليها وعلى طموحاتها اللاحقة ,وخياراتها المستقبلية,ومآل حلمها المستمر ببناءوطن متقدم علمي عصري , فالمشاكل العالقة والطموحات والأحلام المؤجلة لازالت هي هي .

 

 

كبر الإحساس لدينا أن العملية التعليمية آخذة بالتراجع ,في مدرسة كانت تخرّج من بين حناياها الأوائل على مستوى سوريا ,فقد صمّت الآذان ولم يعد هناك جدوى من ضرب الرأس بالجدار .

وازداد شعورنا بالضيق والعزلة ,ونحن نرى خيرة المدرسين يغادرون المدرسة ويؤتى بآخرين تنقصهم الكفاءة العلمية والشخصية ,ولم يكن ليزيل من نفوسنا هذا القلق وجود اثنين أو ثلاثة ممن تبقى منهم من ذوي الكفاءة والمقدرة,وكان بالأخص مدرس العربي محمد الرياحي من الذين يتفهمون قلقنا واحتجاجاتنا المستمرة.

اختلفت المعاملة حقا , وأصبحنا نرى أنفسنا "ومهما كان مستوانا وتفوقنا" مهددين في أية لحظة باستدعاء ولي الأمر وبالطرد ,نحن الذين تعودنا سابقا على نوع من المعاملة الأبوية في ظل الإدارة السابقة ,حيث كان يضحى ببعض جوانب النظام والإنضباط لصالح العملية التعليمية.

ومرارا طورد رفاق لنا في الساحة حتى آخر طاقة في الجدار من قبل الموجه أو نائب المدير الذي كان بمثابة "رئيس الأركان" الموكل بالأمور التنفيذية.

وأصبح الطلاب يتناقلون خبريات وحوادث يومية عن حملات التضييق تلك

.

ودخل العام الجديد 1982 ونحن في ظل تلك الإجراءات ..ولم تبد أية بوادر للإنفراج ,بل بدا أن الأمور آخذة بالتصعيد بعد أن اتضحت معالم فرز جديدة في المدرسة بعد أن بدأ المظليون (أولئك الشباب الذين اتبعوا دورات في القفز المظلي أثناء الصيف ووعدوا بإعطائهم علامات إضافية أثناء القبول في كليات الجامعة )في ساحة المدرسة .

* * *

 

في الخارج كانت الأمور في طريقها للحسم .

ففي ليلة 2 شباط 1982 وقعت وحدة من الجيش في كمين(1) ,في أحد أزقة مدينة حماة وقتل القناصون من على سطوح المنازل حوالي عشرين جنديا..

فقد عثر الجنود على وكر القائد المحلي للمقاتلين "عمر جواد" ,والذي كان متصلا باللاسلكي مع شبكة من الخلايا وعندما تم تطويق المكان من قبل وحدات إضافية تم احضارها على عجل ,أعطى جواد هذا الأمر بالقيام بانتفاضة عامة ,فاشتعلت الأضواء في المساجد المسيطر عليها من قبل أنصاره وانطلقت الدعوات من مكبرات الصوت للجهاد ,عندها خرج المئات من المسلحين يقتلون وينهبون ويحاصرون الدوائر الحكومية والمؤسسات ..

استمرت تلك المواجهات ثلاثة أسابيع ,ودفع الثمن الناس العاديين الذين كانوا يعيشون في الحارات والأزقة الضيقة والقديمة والذين وقعوا بين نيران المهاجمين والمحاصرين ,ودفنوا على الغالب تحت الركام.

كانت الخسائر فادحة, ففي جهة القوات الحكومية شوهد تناثر حطام العربات والآليات في الشوارع..غير أن ثمن التمرد قد دفعته حماه بكاملها.

وكان الثمن باهظا حقا على مستوى الوطن.

* * *

تعودنا على مشهد جنازات الشهداء , كانت السيارات والناس تنتظر على مقص جبلة مجيء تلك القوافل لتعانق تربتها الأولى بعد طول غياب ...وذلك أثناء المجابهات مع اسرائيل خصوصا أثناء حرب تشرين 73 وما تلاها من حرب الاستنزاف .. كنا نرى تلك المواكب تزف لقراها وأحيائها في جبلة وريفها.

حتى لم يبق شارع أو ساحة أو مدرسة لم يطلق عليها اسم أحد الشهداء ,وكنا نتناول قصص وسير هؤلاء الشهداء بشيء من الإعجاب والإجلال).

عاد ذلك المشهد ثانية ,بعد تلك المواجهات ..كان من المحزن لنا أن نشهد أن تلك الدماء قد أهدرت بسبب حرب الإخوان المجنونة ,وليس على الجبهة في مواجهة العدو , صحيح أن هذة المواكب قد عادت وبمواجهة العدو هذة المرة وذلك بعد ثلاثة أشهر فقط أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان حزيران 82 ..إلا أن ذلك لم يكن لينقص من حدة شعورنا بالمرارة والغضب والأسى على كل تلك الأرواح التي ذهبت ضحية تلك الحملة.

و لم تمهل إسرائيل سوريا سوى بضعة أشهر للململة جراحها ,فقد اجتاحت في حزيران82 لبنان ووصلت إلى مشارف بيروت في بضعة أيام موجهة ضربة قاصمة للمقاومة الفلسطينية وللجيش السوري المتواجد هناك.

وبعد هاتين الضربتين يبدو أنه لم يعد هناك مجال للرحمة ,,

فقد مضت سوريا في خياراتها المعروفة ,وسعت لرفع قدراتها القتالية بشكل غير مسبوق بمساعدة الروس ,ومضت في تخويف الأردن والفلسطينيين كي لا ينخرطا في مشاريع التسوية ,واتخذت قرارها بالوقوف مع المقاومة اللبنانية التي كانت قد دشنت أولى عملياتها ضد العدو الإسرائيلي.

* * *

مضى النصف الأول من العام 1982 على نتائج هذين الحدثين :اندحار الإخوان , والغزو الإسرائيلي للبنان, وكنا وقتئذ قد ترفعنا إلى البكالوريا حاملين معنا أحلامنا المؤجلة وشيء من الأمل بتحسن الصورة في الأيام القادمة , ورغم ذلك لم نتوقف خلال هذه الفترة عن انتقاد الإدارة والكادر التعليمي ,وصولا للأداء الرسمي والأمني  فقد كنا نجتمع في الساحة وحيثما توفر لنا ذلك,منشدين الأغاني الناقدة والمتهكمة,وحدث في إحدى المناسبات أن تم جمعنا لانتظار تدشين "كما أعتقد الثانوية الصناعية" وتأخر المسؤول المحلي الموكل بالتدشين ,فاجتمعنا وبدأنا بالغناء وكنت تسمع أغاني الشيخ إمام ومارسيل وزياد,وأغاني أخرى من تأليفنا ..منبعثةوسط حشد الطلاب المجتمعين.

وفي مرة أخرى تناولنا بالنقد والتهكم أحد مدربي الفتوة ,ووجد من نقل لهذا المدرب الصورة , لينتقم في نهاية العام منا بوضعه علامة الصفر في الفتوة لي ولمجموعة من الرفاق.

ونحونا للسلبية أثناء الدروس ..واللا مبالاة .فقد كان مستوى بعض الزملاء العلمي أفضل من مستوى بعض الأساتذة.

انعكس ذلك على مناقشاتنا وعلى شخصياتنا ..وبدت الأمور لنا عبثية ..وبدانا بالسخرية المرة من كل شيء

وبدأنا باختراع الأساليب والتفنن بها لتقطيع الوقت واجتياز المرحلة ..

فكان عمرو يتحفني برسماته أثناء الدروس ,ويتفنن في إبراز"مواهبة"المستجدة في الرسم .

وكنا نتشارك أحيانا أخرى بتأليف القراديات الناقدة ,أو بتعديل بعضها التي كنت قد ألفتها سابقا .

وفي هذة الفترة كتبت قرادية طويلة بعنوان(

كلية محمد سعيد يونس(2).

عن الوضع العام في المدرسة تشرح كل هذة الأمور .

وفي ظل وضع لم يكن من الممكن الحصول على أي شيء إيجابي , وكانت الأحداث الخارجية تطبق على جميع مناحي تفكيرنا وحياتنا, وتضعنا أما م أحد خيارين :إما السكوت والتسليم بالوضع القائم أو المعاندة والمضي في ضرب الجدار بالرأس

وجدنا طريقا ثالثا للتعبير عن رفضنا وعدم رضانا عن طريقة مسير الامور , كانت السخرية,وتلك الأساليب المتهكمة الناقدة,والتي سينجم عنها تاليا مجموعة من الأمورالتي حددت طريقنا وطبعت شخصياتنا بطابعها , كانت الوصفة السحرية التي أعانتنا حقا على اجتياز قطوع تلك المرحلة  .

يتبع........

 

هوامش:

(1):

هذة الرواية للأحداث تعتمد على كتابات باتريك سيل والذي اعتمد بدورة على شهادات مختلفة من مسؤولين محليين عايشوا الأحداث ومواطنين عاديين وعلى نشرات الإخوان خاصة النذيرالعددين (44) و(46)

(2)http://mhdar.blogspot.com/2006/04/blog-post_20.html