وفي شهادات هؤلاء المتطوعين صور مريعة لمشاهد القتل الذي تعرضوا له بينما
كانوا ينادون على القوات العراقية التي راحت تترك مواقعها غير عابئة بهم ولا
ببغداد التي اتضح فجر التاسع من نيسان/ابريل، ان حماتها تلقوا الاوامر
بتسليمها مع المتطوعين للقوات الاميركية. على مدى الايام القليلة التي تبعت هذا
السقوط المذهل لبغداد، ظلت الصدمة مسيطرة، ولم يكن هناك ادنى تصور
للطريقة التي وصلت بها الامور إلى ما وصلت اليه.
وحتى المتطوعون الذين قال العراق انهم كانوا بالالاف، لم يكن أي منهم يمتلك
ادنى فكرة عما حصل، ولم يكن أي منهم في ذلك الحين عابئا سوى بانقاذ
نفسه من بين براثن القوات الاميركية التي شكل دخولها لغزا كان الوقت غير
مناسب ابدا بالنسبة لهم من اجل التفكير في حله. ولكن لاحقا، راحت خيوط اللغز
تتكشف، وتبين ان ناسجها كان الاستخبارات الاميركية، والجنرال ماهر سفيان
التكريتي، قائد قوات الحرس الجمهوري الخاص في بغداد، والمكلف من ابن عمه
صدام حسين، بحماية بغداد ونسف جسورها وسد طرقاتها في وجه الزحف
الاميركي.
المتطوعون واجهوا القتل منفردين في الساعات الاولى من فجر التاسع من
نيسان/ابريل، اختفت القوات العراقية من بغداد، لم يعد هناك فدائيو صدام ولا
جنود حرس جمهوري، ولا مسؤولون عراقيون، لا احد يحمل السلاح في وجه
القوات الاميركية سوى بعض فلول المتطوعين. غادرت القوات العراقية، وتركت
هؤلاء وحدهم، ومن نجا منهم روى كيف انهم قاتلوا الاميركيين فيما ظهورهم
مكشوفة لفرار القوات العراقية، حتى ان بعضهم تحدث عن ان بعض هذه القوات
اطلقت عليهم النار بينما هم منشغلون بمقاتلة القوات الاميركية امامهم.
وقال متطوع اردني تمكنت «الجزيرة» من التحدث اليه بعد عودته من العراق، انه
استيقظ فجر الثلاثاء، لكي يكتشف أن الجيش العراقي أخلى مواقعه دون اخطار
المتطوعين، وغالبيتهم من سوريا ومصر والأردن ولبنان، والذين وضعوا في
الخطوط الامامية للمعركة.
وفي شهادة هذا المتطوع، صور مريعة لمشاهد القتل الذي تعرض له
المتطوعون، والذين راحوا ينادون على القوات العراقية دون ان يجيبهم احد.
وقال الرجل ان الهم الاكبر كان في تلك اللحظات هو النجاة، بعدما تيقن
المتطوعون ان القوات العراقية اتفقت مع القوات الاميركية على التضحية بهم،
ربما لانهم وحدهم من قاتل الاميركيين من منطلقات ايديولوجية تخشى اميركا ان
تتكرر في بلدان او مواقع اخرى.
وقال متطوع اخر، انه شاهد عددا من فدائيي صدام وهم يهرولون تاركين
مواقعهم، وانه نادى على احدهم، وكان يعرفه، ولكنه لم يرد عليه بالرغم من انه
كان يسمعه جيدا. واشار هذا المتطوع إلى حادثة قال انه ما زال غير مصدق لها
بالرغم من انه رآها بنفسه. لقد اطلق جنود عراقيون النار على مجموعة من
المتطوعين الذين كانوا يتحصنون قرب احد الجسور، ورجح ان عددا من هؤلاء
المتطوعين قد لقي مصرعه وفي المحصلة، يؤكد هذا المتطوع ان العديد من
المتطوعين قد قتلوا، إما بيد القوات الاميركية او العراقية، وان البقية الناجية
منهم تركت فريسة لانتقام عراقيين وجدوا فيهم أتباعا للنظام البائد.
ارهاصات صفقة التكريتي! ولكن كيف وصلت الامور إلى ما وصلت اليه في
التاسع من ابريل/نيسان، والذي سيظل يوما مشهودا في التاريخ على مدى
عقود قادمة؟. الاجابة تقدمها عدة مصادر تتطابق في معظم ما تورده من
معلومات، وبشكل يكاد يكون مذهلا، كما كان سقوط بغداد مذهلا!.
وفي صلب ما تورده المعلومات ان الاستخبارات الاميركية، والتي كانت سعت منذ
ما قبل انطلاق العمليات العسكرية في العراق، إلى اقامة اتصالات مع الجنرالات
العراقيين لحثهم على خيانة صدام، كانت تمكنت بعد طول لأي من اقناع الجنرال
التكريتي، المكلف بحماية بغداد، بالرد على رسائلها الملحة في التكرار، والتي
كانت تصله بطرق مختلفة.
فما الذي تغير حتى قرر الرجل الذي كان يعول عليه في قيادة اكبر معركة في
تاريخ العاصمة العراقية، وهي المعركة التي حسبت لها الولايات المتحدة الف
حساب؟.
متطوعون عرب اعتقلوا في بغداد الذي تغير هو ان التكريتي ايقن ان صدام لم
يعد موجودا!، وانه بقي في الساحة وحيدا مع ما تبقى من فلول قوات الحرس
الجمهوري التي تقهقرت إلى خطوط المواجهة الاخيرة في بغداد. وجاء هذا
اليقين، بعد ان اخفقت كافة المحاولات التي بذلها للاتصال بصدام الذي اكد له
الاميركيون انه قتل في القصف الذي استهدف في الخامس من نيسان/ابريل،
مطعما في حي المنصور في العاصمة العراقية. هو لم يكن مقتنعا برواية
الاميركيين حول مقتل ابن عمه وابنيه او احد ابنائه بالاضافة إلى قيادات عراقية
اخرى لم يتم تحديدها في ذلك القصف.
وربما كان يعذره في ذلك ان ابن العم المستهدف، كان نجا بالفعل من الغارة
الاولى التي اذنت بانطلاق الغزو في العراق، برغم ان الاميركيين كانوا المحوا
إلى انهم قضوا عليه، بل وكانوا على وشك اعلان ذلك، لولا ان صدام فاجأهم
بظهوره على شاشة التلفزيون العراقي، وبعد ذلك تجوله في شوارع بغداد.
الصفقة الروسية
التكريتي كان اقتنع ان صدام لم يعد موجودا، ليس على طريقة الرواية الاميركية،
بل بناء على معلومات كانت تصله وتؤكد ان ابن العم العتيد قد غادر في موكب
السفير الروسي الذي اتجه من بغداد إلى دمشق بالتزامن مع صفقة اميركية
روسية كان يجري الاتفاق على تفاصيلها في موسكو.
وبحسب المعلومات التي وصلت إلى التكريتي، فقد قرر صدام في الساعات التي
سبقت ما كان متوقعا ان يكون المعركة الحاسمة في بغداد، الاستجابة إلى
العرض الذي نقله اليه يفغيني بريماكوف، الذي اوفده اليه الرئيس الروسي
فلاديمير بوتين برسالة «سرية» عشية بدء الحرب، يدعوه فيها إلى التخلي عن
السلطة والقبول بالخروج من العراق.
صدام الذي كان رفض العرض في البداية، عبر خروجه من القاعة التي التقى
فيها مع بريماكوف، كما اكد الاخير لاحقا، اقام اتصالا جديدا على ما يبدو مع
السفارة الروسية التي ابقت ابوابها مفتوحة برغم مغادرة معظم البعثات
الدبلوماسية الدولية للعاصمة العراقية، واوصل اليها موافقته المتاخرة على
العرض.
سيناريو الخروج من بغداد كان جاهزًا قبل أن تبدأ الحرب نفسها، بالنسبة
لصدام، الذي قرر تاخير هذه الخطوة لضمان عدم انقلاب القيادة العسكرية للحرس
الجمهوري عليه، وكذلك لضمان مزيد من الضمانات من الاميركيين لخروجه من
العاصمة سالما.
ما ان وصلت الرسالة، حتى كانت الاتصالات الدبلوماسية بين بغداد وموسكو
وواشنطن تتسارع بشكل محموم. وفي خطوة مفاجئة، قررت واشنطن ايفاد
مستشارة الامن القومي كوندوليزا رايس إلى موسكو، وتزامن وصول الاخيرة مع
اتخاذ الخارجية الروسية قرارا باجلاء طاقمها الدبلوماسي من بغداد. وفي اليوم
الذي كانت تجري فيه رايس لقاءات مكثفة في موسكو، قامت القوات الاميركية
بقصف موكب السفير الروسي فور خروجه من بغداد باتجاه دمشق!.
الروايات اشارت إلى ان صدام كان ضمن هذا الموكب، والقوات الاميركية قصفته
برغم انها كانت على علم بخط مساره. يبدو ان الاميركيين قرروا اغتنام الفرصة،
مهما كان الثمن، ومهما كانت النتائج التي سيرتبها ذلك على العلاقة مع الوسيط
الروسي.
الغضب والاحتجاج تم نقله مباشرة إلى رايس، والاخيرة خرجت من لقائها مع وزير
الخارجية ايغور ايفانوف بوجه مكفهر ولم تدل باية تصريحات للصحافيين الذين
امطروها بالاسئلة المحمومة حول القصف الذي شنته قوات بلادها على موكب
السفير الروسي في العراق.
المعلومات، التي تقدمها المصادر المختلفة، تكاد تجمع على ان السيارة التي
اقلت صدام، تمكنت من التراجع في اللحظات الاخيرة، والعودة إلى بغداد، ومرة
اخرى، نجا الرئيس العراقي من موت محقق، وتمكنت سيارته من تخطي خطوط
النار إلى الامان النسبي في بغداد. ولكن ذلك اشار إلى ان المخطط الروسي
لاخراج صدام قد فشل. غير ان الفشل كان شكليا، ورايس قدمت من الضمانات ما
امكن الروس من الايعاز إلى سفيرهم بالعودة مجددا إلى بغداد لاخراج صدام،
وذلك بحجة اصطحاب سائق يعمل في السفارة كان يتلقى العلاج اثر اصابته في
القصف إلى جانب «دبلوماسي» روسي بقي في بغداد للقيام على رعاية
السائق الجريح.
وفعلا وصل السفير إلى بغداد، واصطحب الرجلين في موكب جديد حظي بكامل
الحماية الاميركية على طول الطريق الممتدة بين العاصمتين العراقية والسورية.
مفاوضات على التسليم
الصحاف حتى اخر لحظة: لن نستسلم هذه المعلومات، كانت وصلت إلى الرجل
المكلف بحماية بغداد، والذي قرر ان لا يكون كبش الفداء، وان ينفذ بريشه كما
يقولون. وهكذا، بدأ بالرد على رسائل الاستخبارات الاميركية التي اقامت معه
اتصالا آمنا.
وتلقى الرجل قائمة بما تطلبه منه الولايات المتحدة التي سعت إلى تجنب معركة
دموية في بغداد، بداية من تجنب نسف الجسور إلى سحب قواته من كتائب
الحرس الجمهوري الخاص، أي أكثر قوات النظام ولاء من مواقعها على ضفاف
دجلة وحول مواقع حكومية مختارة في العاصمة العراقية.
في المقابل طلب الجنرال العراقي تعهدا واضحا من «رتبة أميركية رفيعة
المستوى» بضمان أمنه الشخصي وأمن نحو 20 شخصا آخرين بعضهم من ضباطه
وبعضهم من أفراد عائلاتهم، وبتعهد بعدم تعقبهم قانونيا إذا ما انتهت الحرب،
وبالحفاظ على ممتلكاتهم الشخصية، وبتركهم «يعيشون في سلام» بعد انتهاء
الاشتباكات.
الاميركيون قرروا المماطلة، على امل تنازل الرجل عن بعض مطالبه، بما يضمن
تخليصهم من مسؤوليات وتبعات قانونية قد تاتي في مراحل لاحقة، وبالتالي
استمرت المفاوضات بين الجانبين إلى ما بعد بدء الهجوم الأميركي على بغداد
صباح الأربعاء 9 نيسان/أبريل.
وقاتلت قوات الحرس الخاص من السابعة صباحا حتى العاشرة على نحو كشف
أن الجنرال ماهر سفيان التكريتي كان يؤكد للأميركيين، عبر أمره للجنود
بالقتال بضراوة، ان عليهم القبول بدفع الثمن الذي يريد، أي بتقديم الضمانات
التي طلبها.
وفي نحو العاشرة والنصف من صباح الأربعاء تلقى الجنرال اتصالا من جنرال
أميركي لم يذكر اسمه، وبعد هذا الاتصال بنحو نصف ساعة، أمر الضابط
العراقي جنوده بالانسحاب.
كان المشهد الذي تلا ذلك معبرا، إذ توقفت طلقات المدافع العراقية أولا على
جسر الديالة، وأوقف الأميركيون نيرانهم بدورهم. وبعد لحظات شوهد الجنود
العراقيون وهم يتركون منطقة الجسر بسرعة، وتكرر المشهد ذاته بعد ذلك في
مواقع الحرس الخاص في بغداد كافة.
الجنرال غادر على متن طائرة اميركية ولكن اين ذهب الجنرال؟، لقد غادر
بطريقة دراماتيكية على متن طائرة سي-130 الوحيدة التي حطت في مطار بغداد
بعد اقل من يوم على اعلان وزير الاعلام محمد سعيد الصحاف عن ان المطار تمت
استعادته بعد تكبيد القوات الاميركية التي سيطرت عليه خسائر فادحة!.
في ذلك اليوم، قال الاميركيون ان الطائرة هبطت من اجل اجلاء الجرحى الذين
سقطوا في المعركة التي احتدمت على المطار، وكذلك لاثبات ان المطار ما زال
بحوزة قواتهم، وذلك في ظل الشكوك التي القتها تصريحات الصحاف على
مصداقيتهم في الاعلان عن الاستيلاء عليه. وسئل الناطق باسم القيادة الوسطى
الاميركية في قطر، الجنرال فنسنت بروكس لاحقا عن صحة المعلومات التي
تحدثت عن ان الطائرة اقلت جنرالات عراقيين، فلم ينف او يؤكد، واكتفى بالقول
انه ليست لديه معلومات!.
ما تقوله المعلومات هو ان الصحاف الذي اعلن ان قوات عراقية نظامية وغير
نظامية توجهت بالالاف على متن كل ما توفر من وسائل النقل لتحرير المطار،
أبيد معظمهم بوسائل «غير تقليدية»، رفض المسؤولون العسكريون الاميركيون
الكشف عنها. وراحت الشهادات تتوالى عن مئات الجثث الملقاة على جنبات
طريق بديل سلكه المقاتلون العراقيون في طريقهم ل«تحرير» المطار، وكذلك
عن ارتال من المدرعات والدبابات العراقية التي ترامت على جنبات الطريق وإلى
جانبها الاحذية والملابس العسكرية التي نزعها اصحابها ولاذوا بالفرار!.
كان الجنرال التكريتي، كما تقول بعض الشائعات قد اصدر اوامره للقوات
العراقية بالتوقف عن القتال في محيط المطار مع اكتمال الصفقة، بل انه قصف
بعض الوحدات التي رفضت تصديق انه يمكن ان ياتيها مثل هذا الامر من قائدها.
وقال بعض الشهود في حينها ان الجنرال ماهر التكريتي كان قد اعتلى مروحية
اميركية وراح ينادي عليهم عبر مكبر للصوت ويطلب اليهم التوقف عن القتال
والانسحاب. وفي بغداد المدينة، صدرت اوامر مماثلة للقوات المتمركزة عند
الجسور وعلى مفترقات الطرق وامام المباني الحساسة، ولكنها كانت اوامر اقل
صخبا واقرب إلى الهمس.
وفي الصباح المشهود، لم تكن هناك اية مقاومة تذكر في وجه طوفان الدبابات
والمدرعات الاميركية التي راحت تتغلغل كالسرطان المحموم في كل ارجاء بغداد!