في قاع الوادي المحفوف بالسنديان, وقف المئات وهم يصفقون استقبالاً لنصير شمّة.
كانت الساعة التاسعة والنصف من الليلة الثانية لمهرجان السنديان الثقافي في دورته التاسعة. ومنذ السابعة كان المئات قد أصغوا لقصائد محمد بنّيس (المغرب) ومحمد حلمي ريشة (فلسطين) وهالا محمد (سورية) وعبده وازن (لبنان) ومنذر مصري (سورية). وفي الليلة الأولي كان المئات قد أصغوا لقصائد سيف الرحبي (عُمان) ولينا الطيبي (سورية) وندي منزلجي (سورية) وحسين جلعاد (الأردن). وقد أعقب الأمسية الشعرية الأولي حوار مفتوح مع الجمهور, وسبقتها كلمة مطولة لوزير الإعلام السوري جاءت أشبه بمرثية لمؤسس المهرجان الشاعر الراحل محمد عمران.
ثم جاء مسك الختام مع نصير شمّة: أسطورة من العتمة والصمت وحواف الجبل وفرجة الهلال علي بهاء نصير ولهفة المئات و.. والموسيقي.
وبدأ نصير بمقطوعته (إشراق), ثم قدم لمقطوعة (الحرية ـ الموت) بكلمات عن سيرورة التحرر من الديكتاتور إلي بلوي الاحتلال الأمريكي. وكأنما لم يكن ينقص لهفة الذين توافدوا من قرية المهرجان (الملاجة) ومن القري الأخري ومن مراكز المحافظة (طرطوس) ومن اللاذقية وحمص والعاصمة و.. ومن العراقيين الذين يملأون الساحل السوري ومصايفه؛ كأنما لم يكن ينقص لهفة أولاء إلي موسيقي نصير شمّة إلا كلماته الأولي كي يؤخذوا بالأسطورة, ونصير يمضي بهم فيها مقطوعة تلو المقطوعة: طفولة ـ امرأة معاصرة ـ من آشور إلي زرياب ـ سلام إلي السودان ـ جولة في التراث العربي... وأخيراً: حدث في العامرية.
وعلي المرء أن يصدق إذن أنه لازالت الفسحة ممكنة لاتحاد البشر والشعر والطبيعة والموسيقي والفن التشكيلي الذي كان يقابل وجه نصير هناك, خلف الجمهور, في معرض للنحت ومعرض للكاريكاتير ومعرض للصور ومعرض للرسم.لقد بدأت الكتابة في هذه الزاوية منذ قرابة السنتين عن مهرجان السنديان الذي شهد منذ السنة الماضية تحولاً حاسماً، إذ غدا ليلتين، وملأهما من بين من ملأوهما أدونيس وعباس بيضون وقاسم حداد وشاعر فرنسي. وكان ـ ولم يزل ـ احتفائي بهذا المهرجان وما ماثله توكيداً علي إمكانيات المجتمع المدني في المبادرة والعمل, حتي في أدني الحدود المتوفرة, ورغم كل المعوقات الرسمية.علي أن التحوّل في مهرجان السنديان (مهرجان الملاّجة ـ مهرجان محمد عمران) لهذا العام كان في رعاية وزير الإعلام له. وإذا كان ذلك يذكر برعاية سابقة أدني, رسمية أو شبه رسمية, فهو ينذر من جهة بالتطويب الرسمي لمبادرة أهلية, ويؤكد من جهة علي أن انطلاق مبادرات المجتمع المدني وممارسته الأنشطة الثقافية أو سواها, ليس بالضرورة أو بالطبيعة صداماً مع الدولة, كما روّج منذ سنوات كثيرون من عتاة الأحادية وأعداء الديمقراطية والتعددية, والذين أدمنوا تطويب الدولة والمجتمع, وأدمنوا بالتالي التشكيك والخوف من أية مبادرة لا يفصّلونها تفصيلاً كما يفصّلون المسيرات الشعبية والمهرجانات الرسمية واللباس الجامعي والشعارات الطنانة.
وعلي الرغم من أن أولاء أينما التصقت أقضيتهم بالكراسي في الأحزاب أو المكاتب أو المنصّات أو الشاشات, قد ازدادوا تمترساً في السنوات الأخيرة, فقد اضطروا لأن يزوقوا تمترسهم بقليل أو أقلّ من وصفة البهارج السائدة: نقدٌ وآراء متعددة بل ومعارضة وما أدراك. والأهم هو أنه علي الرغم من تمترس أولاء ومن تزويقهم, فالمهرجانات السورية الصيفية غير الرسمية تتكاثر وتتنوع وتتطور. و في مدينة جبلة مهرجانها الذي بادر إليه فرع جمعية العاديات في المدينة, برعاية وزير الثقافة. وهذه الرعاية ـ وقبلها وزير الإعلام لمهرجان السنديان التاسع ـ لا تعني فقط المساهمة المالية في أعباء المهرجان, ولا تعني فقط الغطاء الرسمي (الضروري), بل تعني الإمكانية الكبيرة للتعاون بين أطر الدولة وبين مبادرات المجتمع المدني, حين لا يكون التطويب هدفاً, ولا التشكيك أسلوباً. والعبرة ـ الدلالة هنا كبيرة وبادية جداً, لدي المقارنة بين النشاط الثقافي لمهرجان المحبة الرسمي السنوي في اللاذقية, في دورته السادسة عشرة التي انقضت منذ أسبوعين, وبين النشاط الثقافي لمهرجان كمهرجان السنديان في دورته هذه السنة أو في دورته السابقة, وكذلك لدي المقارنة مع النشاط الثقافي لمهرجان جبلة في دورته الأولي التي استمرت خمسة أيام,. فالملايين التي يتكلفها مهرجان رسمي, والحملة الإعلامية التي ترافقه، لا تنجز غالباً ما ينجزه سواها بإمكانيات متواضعة وأدني بما لا يقاس. أما الحَكَم في ذلك فهو تلك القمرة من قاع وادي الملاّجة, وهو ذلك التفاعل الخصيب بين عود نصير شمّة وجمهوره. وأما سهرات الآلاف مع نانسي عجرم وأقرانها مثلاً, فحديث آخر يتردد من مهرجان المحبة ـ مثلاً ـ إلي مهرجان جرش ـ مثلاً، كما أن حديث قصيدة النثر في مهرجان السنديان أو في مهرجان جبلة ـ بل وفي أي مهرجان ـ حديث آخر، والمهم والأهم ألاّ يصخب حديث المهرجانات الصيفية الرسمية أو الأهلية في سورية, فيصير جعجعة بلا طحين. وفي الملاّجة وفي جبلة أنموذجان بهيان.
-الزمان.