عن ابن قمع السوري(أعانه الله) أنه قد قال بأن "العزا والشحار" هي كلمات شعبية متداولة بكثرة هذه الأيام، للتدليل على حجم البؤس والتردي والسواد الذي يعيشه الإنسان. وفي القاموس الشعبي المتداول فإن كلمة "الشحار"، وفي رواية أخرى "الشحوار"، والله أعلم، هي أشد حالات السواد على الإطلاق. والمشحرون رغم أنهم جمع مواطن غير سالم وآمن من الدوريات، فإنهم لا يُرفعون أبداً، بل يجرجرون يوميا إلى مختلف الفروع والأقسام جرجرة، قطعاناً، وزرافات، وبدون لا "إحم ولا مشورة". وقد وردت في روائع الأستاذ وفيق حبيب حين خاطب حبيبته هاجر بالقول: و"هاجر يا ضو دياري، وإن غبت يا شحاري" في معلقته الشهيرة، للتعبير عن الحالة المزرية السوداء التي سيصير إليها لو جفته أم الهواجر والضياء.
وقد شاع استعمال الكلمة مؤخرا بدل كلمة يا ويلي، ويا سواد ليلي، التي كانت شائعة قبل عصر التشبيح والعزا والشحار. والتشحير، على وزن تفعيل، هو استمرار لحالة الشحار فوق رؤوس الأنام، وهي ما تميز الطقس السياسي في هذه الأيام من العام. وأصبحت لازمة "يا شحاري" شعاراً شعبيا مرفوعاً في هذه المرحلة الشحارية من تاريخ أمتنا المصيري، وتهتف بها حناجر جماهيرنا الأبية المشحّرة في أرجاء الوطن العزيز أمام الأفران والعرفاء، ومعابر الحدود، والمطارات، وحين تداهمهم الفواتير، والتصريحات، والدوريات.
وإذا نحينا جانباً كل تلك الأسباب "المعروفة" والواضحة وضوح الشمس، برغم التنكر لها من قبل بعض المجحفين الأكّالين النكّارين، والتي تدعو ليس للفخر والاعتزاز فقط، ولكن للانفجار والانشطار، وكثيرا ما تسمعونها في وسائل الإعلام، وبرامج المنظمات الشعبية، وتصريحات أئمة الفهلوة والشطارات، ولا داعي لتكرارها أبداً، لأن مجرد التذكير بها الآن قد يدخلكم في عالم من الشرود الذهني، والشحار العام، فلا بد، هنا، ومن باب أكاديمي بحت، وتوخيا للدقة والموضوعية والحياد، من التذكير أيضا بالأسباب الكثيرة التي تدعو للندب، والزعيق، واللطم، وشق الأثواب، والعزا والشحار.
فيا شحاري، مثلا، من الرضوخ للرشوة والابتزاز، لو دخلت باب أية محكمة، وغضب الله عليّ وعلقت بالقضاء، ولو راجعت أية دائرة حكومية، ولي فيها معاملة بسيطة ولو بناء كوخ صفيح أستر به أسرتي وأطفالي.
ويا شحاري، لو اقتربت من الأحياء الراقية، والمحلات الغالية، وفكرت أن أفسح عائلتي وأطفالي، وحاولنا أن ندخل إلى أي مطعم من المطاعم المصنفة في فصيلة البقوليات.
ويا شحاري من فواتير الماء، والكهرباء، والأجارات، والخوات، والأتاوات، والتليفونات العشوائية التي تقصم الظهر وتحيل الحياة إلى كابوس عام.
ويا شحاري، لو فكرت أن أتفرج على الفضائية وتابعت تلك التحف المحنطة المؤبدة القدرية، وهي تتنطع بالكلام، أو إذا لاح أحد المذيعين العابسين القرفانين المؤبدين، والمذيعات المخلدات، ليعيدوني جميعا إلى أربعينيات القرن الماضي أيام اختراع الشنكليش، وازدهار الفانوس، والسهرة على ضوء الكاز.
ويا شحاري، لو فكرت بالاستماع لأحد المتحذلقين، المتبجحين، والمتفلسفين الأذكياء، من مخلفات أكاديميات صربيا، وفلول جامعات تركمنستان، وهو ينظّر عن الإصلاح، والبناء، والفساد، ويضع الخطط والاستراتيجيات "البايتة" وفاقدة الصلاحية في عصر العولمة وغزو الفضاء، فإن الفالج، والصرع، والهذيان، ستكون عندها هي أبسط الأمراض العضال التي من الممكن أن تصاب بها حتى الأفيال والحيتان.
ويا شحاري، من قانون المطبوعات لو دخلت على النت وإذا قرأ هذا المقال أي واحد من "الشباب" "اللي بالكن منهم"، يا شباب. أو لو قرأت مقالاً عن التشحير، والتعتير، وسوء الأحوال وسمعوا بي جيراننا الأكابر في فرع عربستان.
ويا شحاري، من المرمطة والبهدلة فيما لو ركنت "البسكليت" المصفحة اليتيمة، التي خرجت بها من الدنيا، ومن وظيفتي خدمة للشأن العام، أمام وزارة الداخلية فستصبح عندها في خبر شبيحان.
ويا شحاري، لو صدر قانون الأحزاب بصيغته المقترحة فعلى الديمقراطية السلام وسيكون فعلا بداية العودة الجماعية لعصور "الصوبيات" والشحوار.
ويا شحار شحار المواطن، لو فتح فمه، وقال مجرد آخ عند طبيب الأسنان، وأووف من الزحمة، وتذمر من "قلة الملح" في طبخة أم العيال، واشتكى من البرد في "تشرين"، أو من الحر في شهر آذار.
ويا شحاري، لو فكرت أن أشتري سيارة و"أتبهنك" و"أتفشخر" بها أنا والمدام والأولاد مثل باقي خلق الله، وكم قرناً من التقتير، والريجيم، وشد الحزام سيلزمني لتسديد قيمتها، وكم من منظّر اقتصادي، من خريجي حلف وارسو الأبرار، سيدلي بدلوه في هذا البئر الذي يبدو أن ليس له قرار.
ويا شحاري، ماذا سيكفي هذا الراتب الهزيل أجاراً للبيت، وطعاماً وشراباً ودواء، ومصروفات فجائية، وضرائب قراقوشية ما أنزل الله بها سلطان، وما جاءت في أي كتاب.
ويا شحاري، إذا مرضت ودخلت إحدى المستشفيات، وبدأ الذبح، والتقصيب، والتشطيب بالأبدان، وإذا فكرت باقتناء موبايل، وحين أقف على مواقف الباصات، وأركب السرافيس وباصات النقل العام وأسافر على الطرقات، وأصل للحدود، وأقف على باب السفارات.
ويا شحاري،إذا لم أشارك بالمسيرات، وأطبل بالمبايعات، وأهتف بالمظاهرات، وأدبك وأزلغط وأتشخلع بالحفلات، وأبتسم بالاجتماعات، وأتغزل بالمسئولين والمدراء، وأبصم، وعلى عماها، بالعشرات.
ويا شحاري، لأنني في كل يوم أزداد بؤساً وفقراً وأتراجع أميالاً للوراء، وإذا استمرت الحالة على هذا الوضع والمنوال، بعون الله وهمّة "الشباب"، ستصبح حالة الشحار التي أنا فيها الآن مرحلة رومانسية، وناصعة البياض بكل مقاييس الشحار والاندحار.
ويا شحاري أخيراً، ألا يحق لنا التساؤل بعد كل هذه المنجزات، ما هذا؟ لماذا يحب هذا الشعب "النق" والثرثرة والنكد؟ ولماذا لا يعتزّ، ويعتدّ ويزهو بنفسه، وكل هذا الازدهار، والرخاء، والرفاهية "تشرشر" شرشرة، وتخرخر خرخرة، في أرجاء هذه الربوع العامرة بالشحورة؟ ولِمَ تستقبل كل تلك الدعوات للفخر والاعتزاز بالنفس بكل هذا الإجحاف، والتنكر والتجاهل الظالم؟ ولم كل هذا التجهم، والعبوس، والقرف، والإحباط، في أرجاء تغمرها كل هذه البحبوحة، والهناءة، والانشراح؟