آخر الأخبار

سورية وحطام المراكب المتعثرة(4)

محاضرة عفلق الشهيرة ذكري الرسول العربي هي صيغ لفظية فيها ماهو تقدمي وما هو رجعي
تسليم انطوان سعادة نذالة.. وحسني الزعيم رجل مشبوه ولا يختلف في سلوكه عن الرعاع أبدا
صقر ابو فخر
في خضم الاضطراب العميم الذي شهدته سورية، ولا سيما بعد استقلالها في سنة 1943، كان نبيل الشويري شاهداً علي بعض جوانب هذا الاضطراب. فهو، منذ يفاعته الأولي، عرف ميشال عفلق كسـاحر وقديس معاً. وتدرج في مدارج السياسة وفي معارج الفكر السياسي علي يديه، وتفتح وعيه علي القومية العربية شبه العلمانية التي صاغها عفلق، ثم تمرد عليه وأسقط هالة القداسة عنه، وانحاز إلي أكرم الحوراني، ثم لم يلبث أن انخرط في التآمر السياسي والانقلابات العسكرية مع سليم حاطوم وبدر جمعة، وحُكم بالإعدام. وقادته مصائره اللاحقة في المنفي البيروتي، والباريسي، إلي إدارة الظهر للسياسة كلها، ثم راح، بهدوء، يعيد النظر في تجربته الشخصية، وأسلم عقله لحقبة من التفكير النقدي الهاديء. ولعل نبيل الشويري كان شبه مرآة عكست البعث نفسه وتجربته العاتية في الاضطراب السياسي والبلبلة الفكرية والتآمر وانقلاب الأحوال والأخطاء القاتلة، فضلاً عن النزوع الرومانسي إلي صوغ مشروع مستقبلي لدولة قوية موهومة.
لم يكن لنبيل الشويري أي شأن مباشر في سلطة البعث التي انبثقت في 8 آذار 1963، ولم يشارك في صنع الأحداث العاصفة التي شهدتها سورية منذ ذلك التاريخ فصاعداً، ولم يكن له أي دور في المصائر التي انتهي إليها البعث بشظاياه الكثيرة، إنما كان شاهداً راصداً لتجربة البعث في سورية، وكان، إلي ذلك، مناضلاً في ذلك الحزب إبان صعوده، ثم راقب بحسرة انحداره وتطايره في جميع الاتجاهات. وهذا الحوار هو خلاصة هذه التجربة. ومهما يكن الأمر، فإن أهمية هذا الحـوار لا تكمن في أنه يؤرخ لحقبة من التاريخ المعاصر لسورية، بل في محاولة إعادة قراءة الأحداث في ضوء التجربة الشخصية.

الإخوان المسلمون.
عندما أسس (الإخوان المسلمون) تنظيمهم في الأربعينات حازوا تأييداً جيداً في المدن. قبل ذلك كان جمهور المدن يؤيد الوجهاء من الملاكين والموظفين الكبار المتحالفين مع المشايخ ورجال الدين.
هل كان لهزيمة حـركة رشيد عالي الكيلاني في العراق فـي سنة 1941 أي أثر في نشوء حزب البعث، ولا سيما أن جميعة نصرة العراق أسسها ميشيل عفلق؟
نعم. كانت مجالاً للعمل السياسي المباشر، ومهدت السبيل أمام حركة الإحياء العربي.
أفكار القومية العربية التي كان ميشيل عفلق يدعـو إليها تبدو ساذجة مقارنة بأفكار قسطنطين زريق. هل كـان المؤسسون الأوائل غير مطلعين كفاية علي فكـر زريق العلماني والديمقراطي؟
سؤال مهم جداً. في أول اجتماع تأسيسي عقد في منزل ميشيل عفلق، حضره 13 شخصاً، نعم 13 بالتحديد، كان بينهم فؤاد الصواف وشبلي العيسمي.
هل كنت حاضراً ذلك الاجتماع؟
كلا. كنت ولداً حينذاك.
في أي سنة حصل هذا الاجتماع؟
لا أدري بالضبط. ربما في أوائل سنة 1944. فؤاد الصواف رجل متحمس جداً وقريب من الناس. وآل الصواف في الشام عددهم كبير في القيمرية، وهو درس في الجامعة الأميركية في بيروت، وكان قريباً من قسطنطين زريق. وفؤاد الصواف هذا كان يروج لضرورة تطوير الإسلام من داخله، وإلاّ فلن يحصل أي تقدم. وكـان يقول، في جملة أفكاره الطريفة، إنه إذا عاد النبي محمد فإنه سيحلل الويسـكي، لأن الويسكي ليس عرق التمر الذي إذا شرب منه المسلمون سكروا تماماً ولا يعودون قادرين علي معرفة طريقهم. يروي فؤاد الصواف لصلاح البيطار علي مسمع مني وفي منزل صـلاح البيطار نفسه الحادثة التالية: كنا في الجامعة الأميركية معجبين بقسطنطين زريق، ومن حوارييه وتلامذته. ولكن كان دائماً في قلبنا أمر ما مغلق لا نستطيع معرفة ما هو. وعندما عدنا إلي الشام وتعرفنا إلي ميشيل عفلق، واسـتمعنا إلي حديثه، فُتح قلبنا واكتشفنا ما الذي كان اغلق علي قلبنا عند قسطنطين زريق. يا أستاذ هل عرفت ما هو؟
الاسلام؟
الإسلام. الإسلام غير موجود عند قسطنطين زريق، لكنه موجود عند ميشيل عفلق، وبالتحديد في محاضرته المشهورة ذكري الرسول العربي التي قامت ضجة كبيرة عليها. كان الشباب معه لأنهم وجدوا فيه بديلاً من الإخوان المسلمين، بينما وقف التقليديون ضده ولسان حالهم يقول: ما علاقته بالإسلام وهو رجل نصراني؟ أجاء هذا المسيحي ليعلمنا الإسلام؟ في أي حال فإن هذه المحاضرة، علي شهرتها، عبارة عن صيغ لفظية عامة، مثل جراب الكردي يمكنك أن تجد فيه ما هو تقدمي وما هو رجعي.
حمّال أوجه.
حمال أوجه ومدعاة للهروب من إعادة النظر في تاريخنا. اليهود أسسوا دولة في سنة 1948، وقبل مرور 50 عاماً علي هذه الدولة انبثقت لديهم جماعة المؤرخون الجدد الذين أخذوا علي عاتقهم مهمة إعـادة قراءة التاريخ المعاصر للصهيونية ولدولة إسرائيل. أما نحن، فبعد 1200 سنة، ما زالت الفتنة الكبري جاثمة في بيوتنا. هذا شيعي وهذا سني، هذا علوي وهذا درزي وذاك إسماعيلي، ولا أحد يرغب في الكلام علي هذه الأمور. واحد ينتقد معاوية فيعتبرونه شيطاناً رجيماً لأن معاوية من الصحابة. وآخر يؤلّه علياً. ما هذه الدوامة؟
ألم يحاول مفكرو البعث نقد التاريخ العربي والإسلامي، وإعادة صوغ هذا التاريخ في ضوء مناهج العلم الحديثة؟
ظل الأمر علي شاكلة صيغ لفظية مثل العروبة جسـد روحه الإسلام . أي إسلام بالتحديد؟ لا جواب. البعث دار ضمن الفهم التقليدي للإسلام وللدولة الإسلامية.
هل كان لدي الحزب، في ذاك الوقت، موقف صريح من العلمانية؟
هيك وهيك.
علي طريقة ميشيل عفلق؟
في لبنان مع العلمانية. في دمشق كان الجو التقدمي مع العلمانية، بينما شعور الجماهير ضد العلمانية، لذلك كان عفلق متقلباً. سأروي لك حادثة وقعت سنة 1955 في برمانا. جاء بيار الجميل إلي عفلق زائراً وطلب إليه عقد اجتماعات بين عفلق وبعض أعضاء المكتب السياسي لحزب الكتائب للتحاور. وبالفعل عقدوا عدداً من الجلسات، وكان أعضاء المكتب السياسي للحزب برئاسة بيار الجميل يجلسون في جهة، وفي الجهة المقابلة يجلس ميشيل عفلق ومعه بعض البعثيين اللبنانيين. والحقيقة ان ميشيل عفلق رجل مثقف وقادر علي الاستماع، فهو طويل البال في النقاش، ومقدرته الفكرية والكلامية كبيرة جداً ولا مجال لمقارنته ببيار الجميل. والفكر القومي عند ميشيل عفلق لا يوجد فيه فارق بين مسلم ومسيحي. بينما حزب الكتائب ليس ضد الإسلام كإسلام ولا ضد العروبة كعروبة إنما يريد المحافظة علي حقوق المسيحيين وأن يضمن ألاّ يصبح لبنان مثل بقية الدول العربية. ولأن ميشيل عفلق كان يتحدث بكلام قابل للصرف عند المسيحيين، ولا مقدرة لبيار الجميل علي مجاراته في المناقشات، فقد حسم بيار الجميل النقاش في آخر جلسة وقال له: اسمع يا أستاذ ميشـال نريد التحدث بكلام واضح وصريح. أنا أوافقك علي هذا الكـلام مئة في المئة. ولكن لا تبدأ في لبنان، بل اجعل دولة عربية واحدة تسلك هذا السلوك الذي تتحدث عنه، وتعال بعد ذلك إلي لبنان، وسأكون جنديا يؤدي لك التحية ويسير خلفك.
ذكي بيار الجميل. كان يعلم أن من الصعب أو من شبه المحال تطوير طراز من العلمانية في العالم العربي.
لا تستطيع إقناع المسلمين بالعلمانية والعـدالة الاجتماعية إلاّ إذا بنيت علاقة معاصرة بين العروبة والإسلام. الاسلام جزء من تراثي وثقافتي كعربي. هل هناك دولة عربية بلا مسلمين؟ وقبل الإسلام هل كان ثمة دولة عربية؟ من وحّد العرب غير الإسلام؟ ومـن فرط عقدهم غير انحطاط الإسـلام؟ الآن، بل منذ أقـل من نصف قرن، بدأت تظهر إرهاصات في هذا السياق أمثال محمد أركون وهشام شرابي ومحمد عابد الجابري وهشام جعيط وأدونيس ومحمد شحرور. وفي مصر نصر حامد أبو زيد وغيره. ولعل هذه الأفكار تؤدي إلي حركة سياسية نهضوية مقبلة. أما حرق المراحل والقفز من الفهم التقليدي للإسلام إلي العلمانية مباشرة، فلن ينجح ذلك أبداً.
المحاولات بدأت قبل أكثر من مئة سنة ولكنها أُجهضت. منصـور فهمي، مثلاً، في كتابه أحوال المرأة في الإسلام لم يستطع نشر هذا الكتاب في مصـر. طه حسين في الشعر الجاهلي قامت عليه قيامة العالم القديم كله. عبد الله العلايلي في كتابه أين الخطأ؟ الذي أباح فيه زواج المسـلمة من مسيحي أبيح دمه. أي أن المحاولات كانت موجـودة باستمرار ولم تتوقف أبداً، هذا إذا استثنينا الأفكار التنويرية لشبلي الشميل وفرح أنطون وسـلامة موسي وحتي لويس عوض كلها أُجهضت، وتراجع العديد من المفكرين عن أفكاره لأن الإسلام التقليدي كان ذا سطـوة عالية جداً(. وفضلاً عن ذلك ظهرت حركات سياسية علمانية تماماً وبشرت بالعلمانية والوحـدة القومية والعدالة الاجتماعية مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي وأنطون سعادة الذي أتناوله هنا كمفكر خطير لا كسياسي مظلوم.
الحزب السوري القومي الاجتماعي وانطون سعادة هذا صحيح. لكن انطون سعادة عاد إلي التاريخ البابلي والآشوري والكلداني والآرامي ليقول ليس الإسلام وحده هو مكون الحضارة العربية.
هذا أمر صحيح وعلمي. فتاريخ المنطقة العربية، أي تاريخنا، لا يبدأ بالإسلام بل منذ ما قبل الإسلام.
ولكن الإسلام جاء ليطبعه بطابعه. هل تستطيع قول عكس ذلك؟ هذا الكلام أين يمشي؟
التعريب والأسلمة كانا قويين جداً بلا ريب. ولكن قبل 500 سنة فقط، وربما أقل، كان الكثير من مدن لبنان وسورية ما زالت تتكلم السريانية. يعني أن التاريخ العربي ـ المسيحي قبل الإسلام ظل قائماً وموجوداً في بعض مناطق العراق وسورية ولبنان. ليس له علاقة بحركة المجتمع العامة انها مجرد جزر منعزلة.

سورية في العهود المضطربة

لنعد إلي البعث. فبعد تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي من أربع كتل، هل شهد هذا الحزب صراعات مكشوفة، أم أن هذا التأسيس تمكن من خلق كتلة واحدة متجانسة نوعاً ما؟
لا أذكر أن صراعات مكشوفة حدثت وقتذاك. ولعل السبب كامن في أن الحزب لم يكن تنظيما جديا، بل كان كل واحد من المؤسسين يعمل علي هواه. إن أول انقسام جدي حدث في سنة 1949، بعد رسالة ميشيل عفلق إلي حسني الزعيم. كانت قيادة الحزب مؤلفة من عميد الحزب ميشيل عفلق، والأمين العام صلاح البيطار، واللجنة التنفيذية من وهيب الغانم وجلال السيد وأحيانا مدحت البيطار. وقد أعلن ميشيل عفلق ترشيح نفسه للانتخابات النيابية في سنة 1947. ونشب خلاف بين شكري القوتلي وجميل مردم الذي لم يكن يريد التجديد لشكري القوتلي لأنه كان راغبا في أن يكون هو نفسه رئيسا للجمهورية. وفي هذه الأجواء تحولت معركة الانتخابات إلي معركة جدية، وكان شكري القوتلي يستعد للتمديد مثلما حصل في لبنان مع بشارة الخوري. وكانت الكتلة الوطنية خائفة من الإخوان المسلمين ومن انشقاق جميل مردم. وبالتدريج صار شكري القوتلي تحت عباءة الملاكين المذعورين من أكرم الحوراني. وتبين أن القوتلي ما عاد قادرا علي القيام بتعهداته للمشايخ. وكان من نتيجة ذلك ابتعاد المشايخ والإخوان المسلمين عن شكري القوتلي. والذي أعرفه شخصيا من ميشيل عفلق نفسه ومن صلاح البيطار أيضا أن جميل مردم أعلن أن الانتخابات ستكون حيادية ونزيهة. لم يدرس البعثيون الوضع بدقة، ولم يكتشفوا أن خوف الكتلة الوطنية ليس منهم بل من الإخوان المسلمين. وعندما بدأت نتائج الانتخابات في الدورة الأولي تظهر، قرر شكري القوتلي وجماعته رغم أنف جميل مردم سيقومون بعملية تزوير للانتخابات. ونزل الجنود بالألبسة المدنية ليضغطوا علي المراكز الانتخابية. وكان أحمد الشراباتي وزيرا للدفاع حينذاك. أما التزوير فكان ضد الإخوان المسلمين بالدرجة الأولي وضد المشايخ، بينما جرت في الكثير من الأقلام التي كان للبعثيين فيها حضور قوي تسويات مع الحزب الوطني، وحصل التزوير لمصلحة ميشيل عفلق.
لمصلحة ميشيل عفلق؟ هذا يبدو غريبا.
هناك مراكز كانت محسوبة ضد ميشيل عفلق، لكن الفرز أظهر أن ميشيل عفلق كان أقرب إلي النجاح وأن حبيب كحالة منافسه وصاحب مجلة المضحك المبكي أقرب إلي الخسران. وذهب كحالة إلي بيته وقد أيقن أنه خسر المعركة. لكن، في الليل قلبت الأصوات تماماً. وحصل التزوير وجري إعلان فوز حبيب كحالة منافس ميشيل عفلق. كذلك تمكنت السلطة من إنجاح ثلاثة أرباع مرشحي الكتلة الوطنية بالتزوير لكن ضد الإخوان المسلمين لا ضد التقدميين كما أشاع حزب البعث. أما في اللاذقية فكاد مرشحو الحزب أن ينجحوا. فشل وهيب الغانم، أما أكرم حوراني فقد نجح نجاحا ساحقا في حماة ضد الإقطاعيين وضد الإخوان المسلمين معا. وكاد جـلال السـيد أن ينجح في دير الزور. وهذا يدل علي أن الحـزب بدأ يكتسب حضورا سياسيا. لكن دمشـق رفضت صلاح البيطار وميشيل عفلق، وكذلك فعلت حمص بالبعثيين وحلـب أيضا وحتي اللاذقيـة. وهنا حاول الحزب إعادة تنظيم صفوفه، لكن القتال اندلع في فلسطين، وتطوع بعض البعثيين في جيش الإنقاذ، وذهب أفراد منه لتغطية أخبار الحرب، أي كصحافيين، وكانوا يرسلون أخبار المعارك إلي جريدة البعث . وكان الحكم مشغولا في تلك الفترة بتعديل الدستور وإعادة انتخاب شكري القوتلي وفي هذا السياق ثمة قصة تروي عن فلسطين واندونيسيا.

قصة فلسطين واندونيسيا

فلسطين واندونيسيا؟
نعم. كانت لجنة الطلاب تتظاهر من أجل أن تقوم الجيوش العربية بنجدة شعب فلسطين. وكانت الإضرابات تعم مدينة دمشق. لكن شكري القوتلي لم يستطع تصديق أن من الممكن أن تعصي دمشق أمره وتتمرد عليه. وكان متهما أنه والحكم في سورية يواليان الإنكليز، وأنهم وقفوا إلي جانب قرار تقسيم فلسطين. واتُهم جميل مردم ورياض الصلح بأنهما أقنعا الملك فاروق بوضع قيادة القوات العربية تحت إمرة الملك عبد الله لضمان تنفيذ خطة التقسيم. وعندما حاصر الطلاب السوريون المتظاهرون القصر الجمهوري خرج إليهم شكري القوتلي وألقي فيهم خطبة قال فيها: أنا زعيمكم، أنا رئيسكم، عودوا إلي صفوفكم، فبلادكم في أيد أمينة . وعندما راحت الهتافات تفصـح عن عدائها له شعر بأن المسألة جدية، فطلب أن يختار الطلاب لجنة منهم ليتحدث إليها. وتألفت اللجنة التي سمّوها لجنة الإضراب ، وفي الاجتماع مع شكري القوتلي، طالبوه بالإسراع في إرسال الجيش السوري إلي فلسطين. فأجابهم: ليست فلسطين وحدها بل اندونيسيا أيضا. أخي الذي كان شاهد عيان علي هذه الرواية جاء إلينا ويكاد ينفتل عقله وقال: ما علاقة اندونيسيا بفلسطين؟ الحقيقة أن قضية اندونيسيا كانت موجودة في الشارع السوري، وأحمد سوكارنو كان ذائع الصيت في سورية، والإخوان المسلمون يريدون ليس تحرير فلسطين من الصهيونية فقط، بل تحرير اندونيسيا من هولندا. هنا التقط شكري القوتلي الخيط عندما عرف أن بين لجنة الطلاب أعضاء من الإخوان المسلمين. وبهذه الإشارة ما عاد أحد يستنكر الموقف السوري. وهنا بدأت الضغوط الداخلية علي المعارضة، وتألف حزب فيصل العسلي كحزب إرهابي لفرض سلطة شكري القوتلي علي البلاد.

انقلاب حسني الزعيم

هنا قطع انقلاب حسني الزعيم السياق العام في سورية في تلك الفترة. البعض يفسر هذا الانقلاب علي أنه انقلاب أمريكي خالص هدفه توقيع اتفاق النفط مع شركة تابلاين . والبعض الآخر يفسره علي أنه انقلاب فرنسي ـ أمريكي لمواجهة مشروع الاتحاد السوري ـ العراقي. كيف تفسّر أنت هذا الانقلاب بعد هذا الزمن الطويل؟
في عهـد حسني الزعيم حصلت أمـور كثيرة مهمة جدا. قبل انقلاب حسني الزعيم كانت الأجـواء السياسية في سـورية شـديدة التوتر، ولا سيما بعـد سقوط فلسطين في أيدي الصهيونية وفشل الجيوش العربية في إنقاذها. النكبة الفلسـطينية هزت الأمة العربية كلها، وكان شكري القوتلي في سـورية قد عدّل الدستور وجـدد رئاسته. لكن شعبية هذا الحكم باتت في الحضيض، والمظاهرات تكاد لا يخلو منها حي من أحياء دمشـق، وتحـول الشـارع الدمشـقي في اتجاه مناوئ لشكري القوتلي. وهنا اضطر القوتلي إلي الاستعانة بالجيش لقمع التظاهرات، فالدرك ما عاد كافيا لقمعها. وحتي المجلس النيابي صار خائفا من الشارع لأن النواب يريدون إعادة انتخابهم ولا يستطيعون الوقوف ضد هذا الشارع. وبالتدريج صارت الديمقراطية البرلمانية في عهد القوتلي فاسدة من وجهة نظر الناس، وفي الوقت نفسه صار النظام الديمقراطي، من وجهة نظر أصحاب الشأن الدولي من فرنسيين وإنكليز وأمريكيين، غير قادر علي القيام بما يريده هؤلاء. وكان ثمة مشروع التابلاين أي مد الأنابيب من السعودية إلي صيدا في لبنان عبر الأراضي السورية. كان الأمريكيون والملك عبد العزيز يضغطان علي الحكم في سورية لتنفيذ هذا المشروع. لبنان كان وافق سلفاً، والأردن أيضا، ولم يبقَ إلا سورية. وكذلك كانت اتفاقية النقد مع فرنسا متعثرة. ولا شك في أن انقلاب حسني الزعيم مصنوع بتوافق أمريكي ـ فرنسي. لم يستطع الأمريكيون تمرير اتفاق التابلاين، ولم يستطع الفرنسيون تمرير اتفاقية النقد، وكانت الهدنة مع إسرائيل متعثرة أيضا بعد أن وقعت جميع الدول العربيـة اتفاقات الهدنة ما عدا سورية. أنا أؤكد أن انقلاب حسني الزعيم جاء لينفذ هذه النقاط العالقة، وقام بذلك فعلا فور وصوله إلي الحكم أما الضباط المساكين الذين كانوا يرغبون في الخلاص من عهد شكري القوتلي فقد خاب أملهم. الضباط كانوا يأملون أن يأتي حكم جديد نظيف، لكنهم اكتشفوا أن حسني الزعيم جاء لينفذ ما عجز عن تنفيذه شكري القوتلي. في أي حال لم يعش هذا الانقلاب غير أربعة أشهر تقريبا، وقتل حسني الزعيم علي خلفية تسليمه الزعيم أنطون سعادة إلي السلطات اللبنانية التي أعدمته فورا.
فضل الله أبو منصور ومحسن الحكيم وعصام مريود شاركوا في إعدام حسني الزعيم. والطريف ان فضل الله أبو منصور درزي، ومحسن الحكيم اسماعيلي وعصام مريود سني.
العنف الذي حدث في انقلاب سامي الحناوي ضد حسني الزعيم لم تعهده سورية من قبل. لكن العنف في هذه الحال جاء ثأرا لمقتل أنطون سعادة. إن تسليم أنطون سعادة إلي السلطات اللبنانية فيه إهانة لسورية بكاملها.
هذا التسليم هو النذالة بعينها.
نذالة وعمل زعران وليس سلوك رجال دولة. سأروي لك قصة: في عهد حسني الزعيم سار الناس وراءه وكذلك الجيش والضباط الصغار وعلي رأسهم عدنان المالكي. ثم ظهر بسرعة أن الزعيم رجل مشبوه ولا يختلف في سلوكه عن الرعاع أبدا. ومن جملة الذين عارضوه سلطان الأطرش. وقبل مجيء حسني الزعيم إلي الحكم في انقلابه المشهور، كانت السلطة بدأت تخشي زعامة سلطان الأطرش في جبل الدروز وحركة أكرم الحوراني في حماة. أكرم الحوراني كان أمامه خصوم يقاتلون ضده عند الضرورة. أما سلطان الأطرش فحينما يهب، يهب معه مقاتلون أوفياء ويكسب إجماعا لا مثيل له في جبل الدروز. هنا لعب شكري القوتلي وجميل مردم لعبة تافهة. أرادوا إثارة الانقسام في جبل الدروز، واستغلوا الامتيازات الإقطاعية لآل الأطرش في جبل الدروز، والنقد الذي بدأ يظهر في صفوف المثقفين ضد آل الأطرش ومع أن الطرشان كانوا مؤيدين لشكري القوتلي، إلاّ أن القوتلي استغل هذه الأمور ووجهها ضد سلطان الأطرش لغاية وحيدة هي تفتيت الجبل. ولهذا السبب أيد سلطان الأطرش حسني الزعيم في البداية ببرقية أرسلها إليه. وأيده أيضا حزب البعث وفارس الخوري ونصف المجلس النيابي وحتي حزب الشعب.
روي سامي جمعة في كتابه أوراق من دفتر الوطن أن حسني الزعيم حينما كان مقيما في بيروت كان مقامرا وكذابا.
بعد شهر من الانقلاب اتضح أن الرجل قادم لتنفيذ مهمات خارجية. هنا بدأ حزب البعث يستعد ليصبح حزب معارضة، ولا سيما بعد أن أسفر حسني الزعيم عن وجهه، وتبين أن الحكم هو حكم عسكري خالص. ولم يكتف بذلك بل أصدر دستورا بحسب رغباته، وأراد أن يصبح رئيسا للجمهورية، ونصب نفسه مشيرا علي الجيش. وقر الرأي في حزب البعث علي أن يتقدم الحزب بمذكرة إلي حسني الزعيم يسحب فيها تأييده له، علي أن تكون المذكرة غير عدائية، واتفق علي أن يوقع المذكرة ميشيل عفلق. وفي ما بعد سمعت من ميشيل عفلق نفسه يقول انه اتفق مع قيادات الحزب علي الاختفاء بعد تقديم المذكرة. بعد هذه المذكرة بدأ الحزب يتحول إلي السرية، وصدر في الأثر منشور مطبوع علي الستانسل ليتم توزيعه علي أجهزة الحزب وعلي الناس. قررنا، في فرقة الحزب بحي القصاع، وكنا ثلاثة من المتحمسين، لا أن نوزعه علي الحزبيين والناس فقط بل إلصاقه علي أعمدة الكهرباء وعلي أبواب المحلات التجارية في الأسواق الرئيسية. واخترنا منتصف إحدي الليالي في حزيران (يونيو) 1949 وبدأنا عملية لصق المنشور في أحياء الجامع الأموي والحميدية والمرجة وشارع الملك فيصل حتي العمارة. وعندما نفد منا الغراء الذي كنا نستعمله لإلصاق المنشور، ذهبنا إلي أحد الأفران لنشتري عجينا، وكانت الساعة قاربت الثالثة بعد منتصف الليل، وإذا بأحد رجال التحري الذي يتتبع خطواتنا، يكتشف ماذا نفعل، فألقي القبض عليّ وعلي أحد رفاقي، واقتادنا إلي التوقيف، فيما فر الثالث. ومنذ ذلك التاريخ، أي منذ حزيران (يونيو) 1949 صار نبيل الشويري، في كل عهد عسكري أو ديكتاتوري، وما أكثرها في سورية، إما في السجن أو هارباً خارج سورية أو مختبئاً تحت الأرض.
من هو رفيقك الذي اعتقل معك، ومن هو الذي فر؟
الذي فر هو يوسف السالك، أما الذي اعتقل معي فهو توفيق رمان.
أَلم يكن بارزا في الحزب؟
كلا. كان شابا شجاعا ومناضلا. وبعد أن نال البكالوريا التحق بالوظيفة وظل عضوا في الحزب، لكن لم يعرف عنه شيء بعد ذلك. وعندما وصل خبر توقيفي إلي والدي من خلال زميلي الآخر الذي تمكن من الهرب، أرسل والدي إلي في نظارة التوقيف سروالا طويلا، لأنني كنت أرتدي سروالا قصيرا؛ فأنا ما زلت فتي في تلك المرحلة. ثم استنفر جميع أصدقائه وإمكاناته ليحميني من حسني الزعيم الذي لم يتورع عن القيام بإعدامات كثيرة لإرهاب الناس، وكان أول حكم عسكري تشهده سورية. وللمزيد أود أن أخبرك أن اثنين من أصدقاء والدي قابلوا حسني الزعيم شخصيا للتوسط من أجل إطلاق سراحي. والاثنان صديقان لحسني الزعيم ويعرفانه جيدا هما سهيل الخوري ابن فارس الخوري.
أبو كوليت الخوري.
نعم. والأمير حسن الأطرش الزوج السابق لأسمهان.
تزوج اسمهان في سنة 1933 وعاشت معه حتي سنة 1939 وأنجبت ابنة تدعي كاميليا ثم تزوج ليندا جنبلاط شقيقة كمال جنبلاط في ما بعد.
تماما. وهو زعيم حقيقي في جبل الدروز وله نفوذه الواسع ويستمع إليه حسني الزعيم بكل أدب. أما سهيل الخوري فهو ابن فارس الخوري الذي أيده في انقلابه. المهم ذهب الأمير حسن الأطرش وسهيل الخوري وتحدثا إلي حسني الزعيم بكلام من قبيل أن نبيل الشويري مجرد ولد، وربما لعب بعقله أحدهم، ويجوز أن يكون أغراه شخص ما بالمال ووالده صديقنا ... إلي ما هنالك من هذا الكلام. فصاح حسني الزعيم: ولد؟ تقولون ولد؟ وضغط الجرس، ثم استدعي رئيس الدائرة السياسيـة وقـال له: أحضر إضبارة نبيل الشويري. ويبدو أنه كان قرأ إفادتي، ثم وجه كلامه إلي حسن الأطرش وسهيل الخوري قائلا: هل هذا حكي أولاد؟ واكتشف الحاضرون أن إفادتي كانت في مضمونها أقوي من نص البيان الذي ضبطوه معي. وقال لهم: إنه يتحدث بعنف أكثر من المنشور الذي كان معه. ومع ذلك لم أتعرض إلي التعذيب ولم يحلق شعري.
لكنك بقيت في السجن؟
طبعا.
حتي الانقلاب المضاد؟
كلا، خرجت قبل ذلك. عندما أرسل ميشيل عفلق رسالته الذليلة المشهورة خرجنا كلنا. وللتاريخ، عندما كنا موقوفين في النظارة، جاء إلينا رئيس الدائرة السياسية في وزارة الداخلية وهو ملازم أول اسمه طلعت صدقي، أصبح لاحقا في مكتب جمال عبد الناصر، وهو صديق أخي الكبير وأخوه حكمت هو صديقنا جميعا. المهم، أنه جـاء لينبه شرطيا (لاحظ كيف كانت المعاملة في ذاك الوقت في سورية) ويقـول له: هؤلاء معتقلون سياسيون، أتفهم ماذا يعني ذلك؟ ضرب الشرطي قدمه بالأرض هاتفاً: أمرك سيدي . فكرر الضابط الكلام أتفهم ما يعني أنهم معتقلون سياسيون؟ يعني ليسوا من جماعة السكر والعربدة .
يريد أن يقول للشرطي: احترمهم.
أي عاملهم علي أنهم معتقلون سياسيون. بعد يومين تقريبا فتح الشرطي كوة الباب وقذف لنا منها جريدة وقال: خذوا. معلمكم شنق حاله.
كانت عن ميشيل عفلق.
هببنا نحن الثلاثة: أنا وتوفيق رمّان ومطاع صفدي الذي كان مسؤولا عن فرقتنا. وفي التحقيق معنا كانت أجوبتنا واحدة. فعندما يسألوننا من أحضر لكم المنشور؟ نقول: مدحت البيطار. ومن طبعه؟ مدحت البيطار. كان مدحت البيطار مختفيا ولا يمكن الوصول إليه. وهكذا نقطع الحلقة. قصاري القول إننا قفزنا نحن الثلاثة واختطفنا الجريدة، وعلي الصفحة الأولي كان العنوان الكبير يقول إن ميشيل عفلق استسلم. قرأنا الخبر وكانت ردات أفعالنا مختلفة. أنا شعرت أن قلبي هبط من مكانه، وأصبت بإحباط شديد. فقد رأيت خطه، وأنا أعرف خطه وتوقيعه، وعلي الفور صدقت الخبر. أما مطاع صفدي الذي كان في صف البكالوريا فقال بكل خفّة إن هذه الرسالة من ميشيل عفلق تشير إلينا جميعا نحن الموجودين في السجن لنكتب مثلها كي نخرج من السجن، ونتقدم للامتحانات النهائية حتي لا تذهب سنتنا الدراسية هدرا. هنا هب توفيق رمان ليضربه، وراح يردد أن هذه الرسالة مزورة. إذن ثلاث ردات فعل فورية علي الرسالة. ثم، بعد ذلك، أخذونا إلي سجن المزة وبعد عدة أيام صدر العفو وخرجنا جميعاً، وكان ميشيل عفلق خرج فور نشر رسالته المشهورة، ولم يبق في السجن إلا فيصل العسلي وجماعته، والشيوعيون أيضا. وجاء والدي لاصطحابي من مقر الشرطة العسكرية، وكان إبراهيم الحسيني قائد الشرطة العسكرية موجودا، فقال الحسيني للعسكري المكلف بنا: هل أمضي التعهد؟ فأجابه العسكري: لا يا سيدي. فقال له: خذه ليمضي التعهد قبل إطلاقه. فنظرت إلي والدي وقلت له علي الفور: أنا سأعود إلي السجن. هنا سألني إبراهيم الحسيني: ما هو حزبك؟ فقلت: بعث. قال: بعثي؟ إذن مع السلامة. ونتيجة لهذه الرسالة المخيبة والمذلة ظهر في الحزب موقف متشدد دعا إلي عدم عودة ميشيل عفلق إلي سلطاته وإلي موقعه كعميد للحزب. جلال السيد وصلاح البيطار فكّر كل واحد منهما بأنه يستطيع وراثة زعامة ميشيل عفلق. لكن عفلق كان قادرا علي تبرير الرسالة، فراح يردد أنه بادر إلي كتابتها عندما ضربوا صلاح البيطار أمامه وحلقوا شعره، وعندما أسمعوه التعذيب النازل بالبعثيين، ثم عرضوا عليه قوائم المعتقلين من البعثيين. وطالما ردد أمام بعض أقاربي أنه عندما رأي اسم نبيل الشويري في قوائم المعتقلين حزن كثيرا، لأن نبيل ما زال فتي، واحسّ انه مسؤول عن الاضرار بشباب الحزب. والرسالة في الحقيقة مخجلة ولا تبرير لها، ومع ذلك ثمة امر غريب، فحينما عقد مؤتمر الحزب في اللاذقية...
في السنة نفسها؟
بعد سقوط حسني الزعيم. ربما في سنة 1950، لم يتأثر موقع ميشيل عفلق في الحزب قط. وهنا أود أن أقول التالي: عندما سقط حكم حسني الزعيم كلفوا هاشم الأتاسي بتأليف الوزارة، وكان ابن هاشم الأتاسي، عدنان الأتاسي، ورشدي الكيخيا الشخصين الرئيسيين لديه في الوزارة. تسلم رشدي الكيخيا زعيم حزب الشعب وزارة الداخلية، وتسلم أكرم الحوراني وزارة الزراعة، وتولي ميشيل عفلق وزارة المعارف. خرج ميشيل عفلق من السجن وبعد يومين صار وزيرا. أما الرسالة فلأنها حدثت في عهد حسني الزعيم حينما كان الكثير من رجال السياسة إما في السجون أو هاربين، فلم تحظ بأهمية كبيرة، ولم تنتقص من قيمة ميشيل عفلق.
لعل الوزارة أعادت إليه الاعتبار إلي حد بعيد.
نعم، لكن أداءه كوزير كان فالصو .
أعتقد أنه كان يمارس السياسة من خلال الوزارة، فهو وزير وليس تقنيا أو مختصا في المسائل التربوية.
أي نعم. سرح جميل صليبا وأرسل المقربين منه في بعثات إلي أوروبا..!! في أي حال بقي وزيرا لثلاثة أشهر فقط، وجرت الانتخابات النيابية وفشل فيها ثم استقال.