آخر الأخبار

السيرة الشعبية للحلاج (3)

السجن يبتلع الحلاج

قال الراوي بإسناده: فلما فرغ حسين من شعره، وسمع شيخه منه هذا الكلام، دهش عقله، وطار لبه، وقال له: يا ولدي، يا حسين، أنت وصلت إلى هذه المنزلة؟ و إلى هذا المقام؟?.

فقال له: وصلت ببركة الله تعالى ورسوله، وبركتك يا شيخي.

وقام وصار يشطح في كلامه، يزيد، وينقص، فأتوا أهل بغداد إلى الشيخ، وقالوا له: يا شيخ قد أتعبنا مريدك حسين الحلاج، واشغلنا عن بيعنا وشرائنا?.

قال الشيخ: امسكوه، واحبسوه إلى غد حتى ننظر ما يكون من أمره، إما أن يرجع عما هو فيه، و إما ينفذ حكم الله فيه.

فقالوا له: يا شيخ نحن لم نقدر على مسكه.

فقال لهم: ولم ذلك؟.

فقالوا له: هذا ساعة يمشي على وجه الأرض، وساعة يمشي في الهوا?.

فقال لهم: قولوا له: يقول لك شيخك: ادخل في هذا المكان.

قال: فجاؤوا إليه، أخذوه، وأتوا به إلى باب السجن، فقالوا له: يا حسين، يقول لك شيخك: ادخل إلى هذا الحبس.

فلما سمع بذكر شيخه قام دخل إلى السجن، فلما دخل قفلوا عليه الباب، وذهبوا، وخلّوه. فلما دخل وجد في السجن خلقا كثيرا، فلما رآهم قال:

لا اله إلا الله، محمد رسول الله، وحده لا شريك له، له الملك، و له الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، يا معشر المسلمين، ما حَبَسَكم إلا ذنوبكم، وغفلة قلوبكم عن محبوبكم، وقد رغبتم في هذه الدنيا الدنيّة عن سيدكم ومطلوبكم، فلو رجعتم بقلوبكم إليه، لبكيتم بعيونكم عليه، وكان جعل لكم من أمركم فرجا و مخرجا، ولكن اسمعوا مني ما أقول، إن كان لكم معقول، وإلا قعادكم في هذا الحبس يطول.

قال: فعند ذلك قامت المحابيس، وجلسوا حوله، فقام بكى بكاء شديدا، وأنشد يقول شعرا:

ادر الكاسات في جنح الظـــــلام
واسقني من خمرة تشفي السقـام
خمرة في دنـــها قد عتـــــقت
قد سقيها كل صب مستهــام
خمرة المصطفى خير الـــــــورى
وقد صفت والاوليا فيها هيــام
فسقيها سيدي أبو الوفــــــــا
فبقي من سكرها فيها إمـــام
وسقيها الشيخ عبد (القـــــادري)
فرقي منها إلى أعلى مقـــام
وكذا ابن الرفــاعي أحمــــــد
من سقيها هام فيها كالهيــام
ورجال الله منها قد سقـــــــوا
شربة هاموا وقاموا في الظــلام
فهم السادات من بـــــين الورى
هجروا في حبه طيب المنـــام
يا رجال الله هذا حبّكــــــــم
قد أتاكم كلكم قوموا قيـــام
واشربوا من صرف صـــــاف فبه
شربة يصفو لكم هـــذا المقام
فنظرنا سيدا مـــــا مثلــــه
فرآه قــد تجلّــى منعــــــما
كاملا هو (ذات) وصفٍ في الأنام
ثم (جانا) بفضل و ســــلام
فسقانا شربة في حـــضـــــرة
مذ تجلى في لييلات الصيـــام
هذه خمرتـــنا يــا فقيــــري
من خمور المصطفى بدر التمــام
ومــحـــمـد سيد هو سنـــد
اسألوا يشفع لنا يوم الزحـــام

قال الراوي بإسناده: فلما فرغ حسين من شعره قام وأذن العشاء، وصلى بالمحابيس العشاء الأخير، فلما فرغ حسين من صلاته جلس يذكر الله تعالى وهم يذكرون الله معه إلى الصباح، فقام وصلى بهم صلاة الصبح، فلما فرغ من صلاته قام وخط في أرض السجن خطا، وعمل فيه صفة مركب، وجلس وسطها، وقال: يا فقرا من أراد منكم النجاة لنفسه، و الخلاص من السجن، فليقم يجلس معي في (هذه) المركب، مركب النجاة، فعند ذلك قامت المحابيس، وجلسوا معه وسط المركب، فقام وقال لهم: يا فقرا حركوا مركبكم بذكر الله، واذكروه بالصدق و المحبة، وقولوا كلكم معي عدلا مخلصا: لا اله إلا الله، محمد رسول الله،صلى الله عليه وسلّم.

قال: فلما رفعوا أصواتهم بذكر الله تعالى، وإذ بذلك الخط تحرك وصار مركبا عظيما، وقد صار وسط البحر، فقال لهم: يا قوم، دوموا على ذكر الله. فقام وفر من المركب وصار واقفا على وجه الماء، وصار يجري المركب خلفه حتى وصله إلى البر، فعند ذلك نزلهم من المركب وقال لهم: سيروا إلى حال سبيلكم، فذهب كل واحد إلى سبيله، وقام حسين يمشي حتى دخل من باب بغداد، وهو يقول: يا قوم ظننتم إنكم فارقتم بيني و بين حبيبي، وزعمتم انه قد فاتني منه نصيبي، أما علمتم أنه معي في حضرتي ومغيبي، إن حضرت فهو قريبي، وإن غبت فهو حبيبي، و إن دعوته فهو مجيبي، وان مرضت فهو معيدي، وبكى بكاء شديدا، وأنشد يقول:

تجلى لي المحبوب في القلب (أخـلاه)
عن الغير حتى صار قلبي مثــواه
وقربني سرا، و للقلب قد هـــداه
وأولاني التوفيق مــولى هـو الله
وفك ختاما عن دنان مدامــــها
نجوم وأقمار وشمس و (ميـــاه)؟
وناولني كأسا كأن شـــــعاعه
كبرق و لا برق يحاكي محيـــاه
سقاني من أهواه كاسات حبـــه
شرابا قديما قُرْقُفًا جل معنـــاه
فأسكرني ذاك المدام فطاب لـــي
خطاب الذي أهواه بقولي ألا يا هو
وشاهدت من أهواه في حال سكرتي
فمحبوب (إثباتي)؟ وصحوي بمعناه
فمن كان ذا قلب يحب لحبّـــه
ومن كان ذا صدق يعز بلقيــاه
فكم من رجال شاهدوه فأصبحـوا
هياما سكرى?. كل من كان يهواه
قال الراوي بإسناده: فلما فرغ حسين من شعره، وإذا بالمؤذن قال:

الله أكبر ...... الله أكبر ......

فقال له حسين: تكذب ...!.

فلما سمعه الناس أنه قد كذب المؤذن، قاموا إليه، ومسكوه، وقد هموا يقتله، وقالوا: ما هذا الكلام الذي قلته! تكذب المؤذن ...! ومن كذب المؤذن كفر وحل هرق دمه في الأربع مذاهب. فقال لهم: أنا ما كذبته في المقال، وإنما كذبته في الصدق في الحال فلو قال: الله أكبر - بصدق الإشارة - ما حملته هذه المنارة، وتفتت من تحت أقدامه الحجارة?. وانتشر منهم، وهرب، فلحقوه، فهرب، ودخل في مدرسة، فقفلوا عليه أبوابها، وذهبوا إلى الخليفة، ثم أعلموه بذلك، وقالوا له: اعلم يا خليفة الله في أرضه، أن حسين الحلاج كان غايبا (وجا) فقال المؤذن: الله أكبر ... الله أكبر فقال له: تكذب. وما يكذّب المؤذن إلا من قد كفر، وحل هرق دمه، فقال الخليفة: أين هو؟.

فقالوا له: قد حبسناه في المدرسة، ويكون تحت علمك الشريف. قال: فلما سمع الخليفة من الناس هذا الكلام، قام من وقته، وهو (ممتزج) من الغيظ، وسار معه القوم إلى أن وصلوا إلى المدرسة فوجدوه قد خرج منها، وقد كبر حتى ما بقي يسعه مكان، فما قدر أحد أن يتقدم إليه منهم، ومن الهيئة؟ التي كانت عليه، فتركوه، وساروا، فلما أصبح الصباح، أتوا إليه فوجدوه يبكي بكاء شديدا، فلما رآهم حسين الحلاج أنشد يقول شعرا:

خذ القناعة من دنياك، وارض بها
وخذ لنفسك منها راحة البـــدن
وقل لمن ملك الدنيا بأجمعــها
هل راح منها سوى بالقطن و الكفن

قال الراوي: فلما فرغ حسين من شعره، سار وتركهم، ولم يقدروا عليه، فقالوا له: يا حسين... إن الخليفة يريد مناظرتك، ومجادلتك مع علماء بغداد، فسار إلى عند الخليفة، فرأى العلماء مجتمعين عند الخليفة، فبكى بكاء شديدا، وأنشد يقول شعرا:

لما ذكرت عذاب النار أزعجنــي
ذاك التذكر عن أهلي وأوطاني
وصرت في القفر أرعى الوحش منفردا
كما تراني على وجدي وأحزاني
وذا قليل على مثلي لجرمتــــه
فما عصى الله عبد مثل عصياني
نادوا علي، وقولوا في مجالسكــم
هذا المسيء وهذا المذنب الجاني

قال الراوي بإسناده: فلما فرغ حسين من شعره، قال له الخليفة: يا حسين.. إن أهل بغداد وعلماءها يريدون مناظرتك، ومجادلتك. فقال له: حبا وكرامة?. أحضرهم إلى بين يديك.

فأرسل الخليفة خلفهم، وأحضرهم، وأكرمهم غاية الإكرام، وقال لهم: هذا حسين قد أحضرناه بين أيديكم، فما تقولون فيه؟ قال له العلماء: يا حسين، أنت تكذب المؤذن، فما يكون عندك في هذا الكلام، وما يكذب المؤذن إلا من قد كفر، وحلّ هرق دمه، فما تقول في هذا الأمر؟ فقال لهم: لا تخذلوني بكلامكم.

فقالوا له: بيّن لنا ذلك.

فقال لهم: احفروا لي في هذا المكان حفرة، واملؤوها فحما ونارا، و أنا أبّين لكم ذلك.

فحفروها في الحال، وملؤوها فحما، ونارا?.

فقال: احضر يا أمير المؤمنين هاونا من نحاس، فأحضر أمير المؤمنين (هونا) من نحاس، وكان وزنه أربعون رطلا بغداديا، فلما أحضره، قام حسين، ألقاه في وسط النار، وصبر عليه حتى بقي جمرة، فقام حسين وجلس على (الهون) ووقف على رجليه في وسط النار على (الهون)، وقال لهم: يا علما!، و يا فقها!، و يا عامية!، و يا سوقية!، و يا أهل بغداد!، من كان منكم يريد مجادلتي، ومناظرتي (فليأتي)، ويجلس عندي في هذه النار على (الهون) حتى تحرق النار بدنه.

قال الراوي: فلما سمعوا من حسين هذا الكلام، ولوا الأدبار و (أركنوا) الكل إلى الفرار?.

فقال لهم حسين: يا ويلكم، تهربون من نار الدنيا، و لاتهربون من نار الآخرة، ومن أراد منكم أن ينجو من نار الآخرة، فلا يأكل الحرام، ولا يظلم الأيتام، ولا يترك الصلاة و الصيام. ثم إنه صار يحدثهم ويعظهم، وهو واقف على (الهون) وسط النار، فلما زاد به الغرام من العشق، حط إصبعه في أذنه، وقال: الله أكبر ... الله أكبر?.

فانطفت النار، وفرقع الهاون، وصار ستين قطعة?.

فقال حسين: يا أمير المؤمنين، لو قال المؤذن: الله أكبر?. بصدق الإشارة، لما حملته هذه المنارة، وكانت تفتتت من تحت أقدامه الحجارة?. أنا ما كذبته في المقال، ولكن كذبته في الكلام، وإني نظرت إلى ديك العرش.

فلما رأت أهل بغداد منه هذه الكرامات، ولوا الأدبار واركنوا إلى الفرار، وقالوا: ليس لنا طاقة?.

فذهب حسين إلى شيخه، وبات عنده تلك الليلة، وإذا برجل قد دخل على الخليفة، وكان اسمه خالد، وناوله ثمانين فتوى على حسين الحلاج بالكفر، وتلك الفتاوى من أربعة و ثمانين عالما من علماء بغداد، و علماء الشام، وعلما ء مصر بقتل حسين الحلاج! صلاحا للمسلمين.

فلما قراها الخليفة، وفهم مضامينها أرسل إلى الشيخ الجنيد يعلمه بالقضية من أولها إلى آخرها، وليس في الإعادة إفادة?.

وقال له: يا شيخ.. الأمر فوضناه إليك في قبض حسين الحلاج ... ترسله إلى عندي مكتوفا (حتى إننا) نقاصصه، بما يوجب عليه في شرع الله تعالى، لأنه زاد في كفره.

قال الراوي بإسناده: فلما سمع الشيخ من الخليفة هذا الكلام مسك حسين وكتفه، أرسله إلى الخليفة، وقال: إني قد امتثلت أمرك - يا أمير المؤمنين ?- فافعل به بما قدر الله تعالى عليه مما يوجبه الشرع.