كان يبشرني وهو يعد القهوة في مطبخ صغير. أن ثمة مثل جميلة تستحق منا الحياة أن ندافع عنها. وفي حاكورة
منزله القديم جلسنا فوق العشب ومن حولنا ورود برية وشجيرات سفرجل وشجرة خوخ بجانب تينة قديمة وبينما كانت الحاكورة تعبق برائحة المرامية, وشذى نبتة النعناع الجاهزة لفنجان الشاي التقليدي المحلى بعسل نحلات حرمون . سكب فنجانين من القهوة في فنجانين بيض فارتعش قلبي
للون الأبيض. كما ترتعش عينا طفل شاهد ثلجا يزور كنزته الصوفية لأول مرة. ثم قال لي " أننا خلقنا لصياغة نشيد مختلف تماما عما ينشدون هنا فوق التلال القريبة من السماء."
فأرى أمامي وهو يحدثني منازل جديدة قد ملأت الهضاب وحقول من التفاح والكرز وفتيات صغيرات يعزفن على كمنجات
ونساء ورجال يرقصن علي إيقاع مطاردة الأطفال لفراشات الحقول .وأرى أنوارا قد طردت الظلام عن حافة عقلي. وصرت أحلم باني
أستطيع تغير العالم لمجرد أن عقلي أضأته أنوار وأن قلبي ملأه الحب.
كان يحدثني عن مضفر النواب وكيف نفاه الشعر من العراق فنفى بدوره نظام العباءات من العقول من البحر إلي
البحر. وعن محمود درويش حدثني كيف بالشعر فك عن بيروت الحصار .
كنت أراه مثل جيفارا واعدا ببناء الحلم. وفي الغابات متمردا وهو يترك إدارة البنوك في كوبا, حاملا الأمل
في حياة أقل بؤسا. حدثني كثيرا عن العواصم العربية وكيف أن في كل زقاق وشارع يتربص رجال الأمن
بالكتاب والشعراء الخارجين من المكتبات والمقاهي. وكيف أن اعتقال حكواتي علي أيدي البوليس السري
يساوي عنده زج الفجر في زنزانة.
وقبل أن أودعه حملني كتب وأسماء مثل محمد الماغوط وممدوح عدوان وسميح القاسم ومعين بسيسو
وأسماء أخرى لشعراء وكتاب منهم من رحل ومنهم مازال يشرب الحبر أكثر من الماء.
وكان لصفاء روحه يحب الكتاب المحليين. فأهدني رواية لمعتز, وقصصا لنضال, وشعرا لشادي ونزيه وليلى.
انصرفت عنه وأنا أتمنى أن أكون مثله. وعدت بعد سنين بعد أن قرأت كل ما طالت يداي راكبا فرسا
من المبادئ شاهرا سيفا من الزهر. أنبض بقلب يتسع حدائق وأنهر. باحثا عن الدرب الذي يؤدي لحاكورة النعناع والتين. لكني لم أجد لا الحاكورة ولا المنزل القديم . فشعرت بقلق يشوبه خوف ولفرط دهشتي
تساءلت محدثا نفسي " أين مبشري ؟.. هل أصابه مكروه؟ وأي نفوس ميتة وأيد دنيئة تطاولت وأزالت من الوجود نبتة النعناع وشجرة التين؟. ثم قفزت إلى رأسي فكرة مجنونة زادت من خوفي فركضت كي اسحق هذه الفكرة في ممر من الرخام يؤدي لقصر نوافذه مسورة بالحديد وستائره سميكة تمنع الهواء من الدخول. وطرقت باب خشبي بيد مرتبكة وبدقات سريعة غير منتظمة مثل دقات قلبي. حتى انفتح الباب ووقف أمامي رجلا يرتدي عباءة سوداء طويلة أكمامها . حدقت في الرجل الواقف أمامي بوجل وريبة ولم أرد على سؤاله الذي قاله بصوت خشن وبنبرة فضة " من أنت وماذا تريد ؟"حتى أدركت أن ما خشيته كان صحيحا.
كان الذي فتح الباب ليس إلا مبشري ذاته .. فأجبت بتلعثم صوت مخنوق " أنا .. أنا تلميذك .. وقد جئتك يا معلمي بهدية." وبينما كان القمر في الأعالي بدرا يتجول .
لاحظت أن عيني مبشري تزداد وهجا مثل نار وأن أسنانه تتحول لأنياب حادة. فتقدمت منه بعيون خائبة وجبين مكلل بالشوك وبيد ترتجف قدمت له هديتي, قدمت له كتاب "رأس المال لماركس" وانتظرت .
لكنه لف عباءته حول صدره ورمي جلدتي الكتاب واخذ رأس المال وانصرف.