في يوم من أيام شهر كانون الأول , من عام 2004قبل الميلاد أو بعده ..لا يهم, توفي لي أحد الأقرباء . قررت العائلة تقبل التعازي في منزل المتوفى الكائن في مدينة "لاواديسا". ولذلك عمد أبناؤها إلى التحضير لعملية الدفن أولاً ومن ثم التحضير للإجراءات اللازمة من أجل استقبال المعزين !
وليست هي إلا فترة وجيزة , حتى شاهدنا القائممقام وبعض معاونيه يصلون إلى المكان المقرر لتقبل التعازي للمشاركة و الإشراف على بعض نواحي المناسبة !
كانت الأيام باردة في تلك الآونة من ذاك العام مما اضطره إلى طلب المزيد من مناقل العرجون التي تم توزيعها في الخيمة المخصصة لتقبل التعازي !
إضافة إلى الأبناء و أبناء العموم و الأقرباء , والذين كنتُ واحداً منهم , جلس القائم الجليل و بعض معاونيه على المنصة المقابلة لجمهور المعزين لينضم إلينا في تقبل التعازي ..
لم يكن يفصلني عن مقعده سوى مقعد فارغ واحد . رأيته دائماً ينادي حاجبه :" يا فلان " . فيهرول فلان راكضاً وهو يردد :" نعم سيدي ".
ينحني الحاجب أمام سيده ليهمس الثاني في أذنه ببضع عبارات ثم يقول الحاجب :" أمرك سيدي " ويذهب مهرولاً مرة أخرى !
تأخر الحاجب قليلاً على ما يبدو فظهرت ملامح الغضب و التململ و التلوي و التقوقع و التدثر ولكن دون الإيحاء بالحاجة إلى قضاء إحدى الحاجات أو الإيماء إلى تنظيم إحدى الساحات .! اكتشفت الأمر عندما صرخ صاحبنا بصوت عالٍ و قال :" ولك وين المناقل يا ولد ؟ ..!!!" .
أسرع أبو سليم ( متعهد الأفراح و الأحزان) مُحضراً المزيد من مناقل العرجون ليضعها تحت قدمي القائمقام علّها تبعث فيهما المزيد من الدفء و الحرارة !
لقد كان البرد شديداً فعلاً لدرجة أن مناقل أبو سليم لم تف بالغرض المطلوب منها . مما دفعه إلى الاستعانة بعملية فرك الراحتين ببعضهما ومن ثم النفخ فيهما . ثم يعود لينظر إلى أحد معاونيه الذي كان يبعد عنه مسافة خمسة أو ستة مقاعد ليتبادلا أطراف الابتسامات الخجلة من عدم افتضاح أمريهما في جو العزاء و الموت !
ابتسامات تحمل في ثناياها عبارات لم يتسن لصاحبيها النطق بها علانية وجهارا .
و لكن البرد كان أكثر إصراراً و قوة وصبراً منهما بحيث استطاع كشف أمريهما بعدما بق صاحينا البحصة أخيراً عندما قال لمعاونه و هو يفرك مرة أخرى راحتيه وينفخ فيهما :
" ما حدا نفد غير أبو فلان !!!" . ( هو يقصد هنا شخصاً ثالثاً استطاع أن يتملص من تنفيذ المهمة الموكلة إليه ) .
وضحك بسخرية . هنا , هز المعاون رأسه إيجاباً ورد عليه قائلاً :
" أي والله يا سيدي ..... شو بدنا برد بيقص الضهر " !!!!!
نظرت إليه وكأنني أردت بذلك أن أتأكد من سماعي لهذه العبارات . عندها أدرك فقط بأن أمره قد افتضح . فلملم نفسه و تقاسيم وجهه و نظرات عينيه اللتين ظلتا ترمقانني طوال تلك الجلسة التي كانت أطول عليه من عمره كله !
لم تكن ردة فعله هذه إلا رداً انعكاسياً لذاته الباطنية التي أبت إلا أن تلتهم صاحبها في ساعة الصفر !
هو مكلف تكليفاً رسمياً بالإشراف على هذه المناسبة فحري به أن ينفذ ما يطلب منه بكل جدارة و ثقة و محبة .حتى ولو كان المتوفى أفقر إنسان لطالما كانت روح النص و التوجيه تقتضي ذلك . وليس عليه أن يوحي للحاضرين و للأقرباء بأنه مكلف بالإجبار وليس بالمحبة و الاختيار .
" تمنيت لو أنك لم تحضر أيها القائمقام,ولم تعرض نفسك للبرد ونظرات الانتقاد, إلى ذاك المقام لولا أن شأناً عظيماً دعاك للذهاب و الحضور ".
وكان صوتا يردد في داخلي :" أنك لم تكن على مستوى التمثيل و لا في مستوى التقدير ولن تكون في المستقبل للمركز الذي أنت مؤتمن عليه لطالما عاشت في ناموسك عناكب الجاهلية والرعونة وغابت في قاموسك مفردات الأمانة و الرجولة ...".