في مدينة القاهرة عاصمة الدولة المصرية، دُفن المفكر الإصلاحي عبد الرحمن الكواكبي الحلبي أحد زعماء تيار الإصلاح في العالم الإسلامي في (6 ربيع الأول 1320هـ - 15 حزيران 1902م). وعبد الرحمن هو ابن الشيخ بهاء الدين أحمد أفندي ابن محمد مسعود الكواكبي، ولد بمدينة حلب الشهباء، حي "جلوم الصغرى" في ( 23 شوال 1271هـ - 9 تموز 1855م) لأسرة ميسورة الحال يرجع نسبها إلى "آل البيت"، عريقة في العلم والأدب والسياسة. تُوفيت أمُّه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية.
تعلم الكواكبي التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة "الكواكبية" المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى.
عندما قدم "محمد أبو يحيى الكواكبي"، أحد أسلاف عبد الرحمن، من إيران إلى حلب؛ بنى جامعاً في حي جلوم الصغرى وبنى بجانبه مدرسة راح يدرس فيها العلوم الدينية والفقهية واللغة والتفسير. فلما توفي (897هـ - 1419م) دُفن في جامعه الذي بناه ثم صار يدفن فيه أفراد أسرته من عقبه إلى غاية العشرينيات من القرن العشرين. وقد وافق السلطان العثماني عبد الحميد الثاني وبناءً على طلب مجلس ولاية حلب على تعيين "الفتى" حينذاك، عبد الرحمن الكواكبي، إماماً وخطيباً في ذلك الجامع عام (1294هـ - 1877م) بعد نجاحه في الامتحان الذي أجرته الجهة المختصة وأقرت أهليته وكفاءته.
بدأ الكواكبي حياته الأدبية كاتباً في الصحافة، وأطلق على نفسه لقب "السيد الفراتي" ثم عُين محرراً في جريدة "الفرا" التي كانت تصدر في حلب، وقد عُرف الكواكبي بمقالاته التي تفضح فساد الولاة، ويرجح حفيده "سعد زغلول الكواكبي" أن جده عمل في صحيفة الفرات الرسمية سنتين تقريباً.
ويعد الكواكبي أحد مؤسسي الفكر القومي العربي وعَلماً من أعلام تيار الإصلاح في العالم الإسلامي خلال العصر الحديث، وكانت معركته الكبرى مع الاستبداد السياسي الذي سخّر حياته وقلمه وفكره لمحاربته والتوعية بأخطاره، وقاسى في سبيل ذلك الكثير من آلام الغربة والهجرة ووحشة السجن وعذاب الاضطهاد.
انتهج المنهج الإسلامي الإصلاحي في معالجته الفساد السياسي فالتمس أصول الإصلاح وفلسفاته وقوانينه من "الإسلامية" ومن التجارب التاريخية لتطبيقاتها في الاجتماع الإسلامي.
ويلخص الكواكبي رؤيته للحرية ومشكلات الاستبداد بقوله إن الهدف من الديمقراطية والحرية والعدالة هو خدمة المجموع وسعادته، وهو لا يقصد فقط الحرية السياسية بل كان يرى للديمقراطية مضمونا اجتماعيا، ويراها التزاما للإنسان إزاء قومه ومجتمعه بقدر ما هي تحرير لهذا الإنسان.
وكان الكواكبي قد بدأ مسيرته الوظيفية عام (1295هـ - 1878م) عندما عمل كاتباً فخرياً للجنة المعارف التي تأسست في حلب، ثم عمل محرراً للمقاولات (مسجل المحكمة) ثم مأمور الإجراء (رئيس دائرة التنفيذ العدلية)، ثم عُيّن عضواً فخرياً في لجنة امتحان المحامين، وفي ربيع الأول سنة (1298هـ - 1880م) عُين مديراً لمطبعة الولاية الرسمية، ثم رئيساً فخرياً للجنة النافعة، ثم عُين عضواً في المحكمة التجارية بولاية حلب، وفي رجب سنة ( 1310هـ - 1892م) عُين رئيساً للبلدية.
عبد الرحمن "الثائر"
عام (1304هـ – 1886م) تصدى عبد الرحمن الكواكبي مع مجموعة من رفاقه السياسيين (حسام الدين أفندي وعابدين بك ونافع أفندي ونصري أفندي وأحمد بك الداغستاني) لمحاولة والي حلب "جميل باشا" التلاعب بأوقاف مدينة حلب، والاستيلاء على بعض الأملاك الخاصة وشهّروا بالوالي وأظهروا للناس فساد غايته، فألقى القبض عليهم ليلاً وهم في منازلهم لم يبرحوا منها على حين غفلة ، فأودعوا السجن. بيد أن رئيس العسكر "شاكر بك" أخلى سبيل المحبوسين وتلطف بهم.
وثيقة سجن الكواكبي ورفاقه (من وثائق الأرشيف العثماني- تحقيق وبحث أحمد السلامة القيسي)
وفي عام (1309هـ - 1891م)، كان "عارف باشا" والياً على حلب منذ (1307هـ - 1889م)، وأساء هو الآخر التصرف بأملاك الأوقاف وحاول الاستيلاء على بعضها، فجابهه عبد الرحمن ومنعه من ذلك، فأمر عارف باشا بحبس عبدالرحمن وإحالته للقضاء، فرفع وقتها عبد الرحمن كتاباً للرئاسة في الأستانة وبين حال المشكلة والقضية فأبرأته المحكمة من التهم الموجهة إليه.
وفي السنة نفسها (1309هـ - 1891م) جرت حادثة جسيمة حيث قام عبد الرحمن مع مجموعة من الشباب بالتظاهر أمام القنصليات الأجنبية بحلب (القنصلية الإيطالية والفرنسية والإنكليزية) ورددوا عبارات مناهضة لهم وللاستبداد الحاصل من قبل الدولة، ثم رشقوها بالحجارة فأصابت أحد القناصل، والسبب كما وضحت الوثيقة أن تلك القنصليات تعمل على توهين عزيمة المسلمين والطعن بمعتقداتهم، وكان فيما قبل مما أوغل صدور الشباب المتحمس هو إنشاء تلك القنصليات مدارس تبشيرية دون أخذ الرخصة من الدولة، فعد المتظاهرون عمل القنصليات مدروس ومقصود.
قبض عارف باشا والي حلب على المتظاهرين وعلى رأسهم عبد الرحمن الكواكبي وأودعهم السجن ثم أحالهم إلى القضاء مباشرة واقتحموا منزله وصادروا جميع كتبه وأوراقه. أصدر قاضي محكمة حلب الحكم بالإعدام قابلاً للاستئناف ثم للتمييز، طلب على إثرها عبد الرحمن أن تكون محاكمته في بيروت لتحيد المحكمة عن ضغوطات الوالي، وتم له ذلك، وأرسل القنصل الإيطالي إلى محكمة بيروت بأن عبد الرحمن ليس له علاقة بحادثة رمي الحجارة، فبرأته محكمة بيروت مما اتهمه به والي حلب، فأطلق سراحه وعاد إلى حلب.
تكريم قاضي بغداد محمد نجم الدين الكواكبي برتبة مجيدية (من وثائق الأرشيف العثماني- تحقيق وبحث أحمد السلامة القيسي)استراحة وعودة إلى العمل الديني والوقفي
بعد الصراع المرير مع ولاة حلب قرر عبد الرحمن أخذ قسط من الراحة والعزلة عن العمل السياسي، فطلب تولية وقف مشهد الحسين (خارج حلب) ففوضته دائرة المشيخة الإسلامية في الأستانة بذلك وأرسلت له قرار إدارة العمل.
قرار تولية الكواكبي وقف مشهد الحسين (من وثائق الأرشيف العثماني- تحقيق وبحث أحمد السلامة القيسي)
في عام (1313هـ - 1894م) كرمت دائرة المشيخة بالأستانة الشيخ عبد الرحمن الكواكبي رئيس المحكمة الشرعية بنيشان عثماني درجة رابعة ( ترفيع زيادة راتب) لحسن أدائه الوظيفي.
تكريم الكواكبي بنيشان عثماني (من وثائق الأرشيف العثماني- تحقيق وبحث أحمد السلامة القيسي)
في عام (1313هـ - 1895م) استلم إدارة " شركة انحصار الريجي" لكنه لم يوفق وخسر فيها أمواله، وتضاعفت ديونه. ثم تحول إلى وظيفة رئيس كتاب المحكمة الشرعية.
في عام (1316هـ - 1898م) غادر حلب إلى مصر وطبع فيها كتابيه (أم القرى وطبائع الاستبداد) فأغضب رئاسة الدولة فأصدرت مذكرة بمنع دخولهما الممالك العثمانية. وبعد أن أقام في مصر مدة تجرد للسياحة فدخل اليمن والهند وإفريقيا ثم قصد عمان فالكويت ثم البصرة ومنها إلى حائل إلى المدينة المنورة ثم إلى مكة المكرمة.
أمضى الكواكبي حياته مصلحاً وداعياً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية وقد شكل النوادي الإصلاحية والجمعيات الخيرية التي تقوم بتوعية الناس وقد دعا المسلمين لتحرير عقولهم من الخرافات، ودعا الحكام إلى التحلي بمكارم الأخلاق لأنهم الموجهون للبشر.
توفي في القاهرة الموافق 13 حزيران 1902) ودفن عند جبل المقط. رثاه كبار رجال الفكر والشعر والأدب في سوريا ومصر.
استمرت التقارير ترفع إلى الأستانة حتى بعد وفاته بذريعة كتبه التي دخلت إلى المدارس والمكاتب الأدبية، ونذكر من تلك التقارير ما ورد في وثيقة مؤرخة عام 1904م، وهي مرسلة من بيروت إلى وزارة المعارف في الأستانة ومذيلة بتوقيع "مخبر صادق" وجاء في خلاصتها: "لا يخفى على دولتكم أن الشيخ عبد الرحمن الكواكبي الحلبي هو من أكبر أصدقاء مدير معارف بيروت عبد القادر أفندي القباني، ووكيل جريدة المذكور ثمرات الفنون في حلب الذي هرب إلى الديار المصرية ونشر كتب مضرة في جانب الدولة العثمانية ولها تعلق في مقام الخلافة العظمى، ومن أهم منشوراته الكتاب المسمى (أم القرى) الذي طبع أخيرًا منه أكثر من عشرين ألف نسخه، وذلك بالاتفاق مع مدير المعارف المومى إليه لغرض بنفسه، وبعد ذلك استأذن مدير المعارف وذهب إلى الديار المصرية، وجمع بعضا من الكتاب المذكور ليأتي به إلى بيروت وإن المدرس عبد الرحمن من المدرسة الإعدادية بيروت صادر كمية من الكتب المذكورة وهي صادرة من مكتبة (نخلة قلفا)، و(سليم ميداني) وسلّم الكتب المذكورة لمقام الولاية الجليلة، وقد أحيلت أوراق أصحاب الكتب إلى المحكمة؛ فحكم على نخلة قلفا مؤسس المكتبة بالحبس لمدة ثلاث سنوات، وعلى رفيقه سليم ميداني سنة واحدة فهذا أكبر دليل على أن مدير المعارف يغض النظر عن هذه الكتب كون أن الثمن مشترك بينه وبين الكواكبي... إلخ".
كتبت جريدة المقطم إبان وفاته: ".. ولو أردنا تعداد ما لقيه الفقيد من الأذى والاضطهاد لاستغرق كلامنا أعداداً عدة من المقطم الأغر فقد حبس بلا ذنب مراراً واتُهم بدسائس سياسية اختلقها عليه أحد ولاة مدينته لأنه ينصحه بالرجوع عن الظلم... وكان المرحوم فاضلاً في علمه راجحاً بعقله معتدلاً في رأيه، جلوداً، صبوراً، خبيراً بأحوال الدولة العثمانية ورجالها والأتراك وتاريخهم والشرق وأسقامه، وقد قضى الثلاث سنين الأخيرة سائحاً في بلاد العرب وشرق أفريقيا يستطلع أحوال أهلها وحكوماتها، وكانت أخص آماله أن يرى للأمة الإسلامية حكومة دستورية لا تحكم البلاد والعباد بالأهواء والأغراض".
رثاه أدباء وشعراء كثر، منهم الشيخ رشيد رضا وحافظ إبراهيم ومصطفى صادق الرافعي في مطلع قصيدته:
أحقاً رأيتَ الموتَ دامي المخالبِ وفي كلِّ نادٍ عصبةٌ حولَ نادبِ
وتحتَ ضلوعِ القومِ جمرٌ مؤججٌ تسعر ما بينَ الحشا والترائبِ
وفي كلِّ جفنٍ عبرةٌ حينَ أرسلتْ رأوا كيفَ تهمى مثقلاتُ السحائبِ
وكتب حافظ إبراهيم على قبره:
هنا رجل الدنيا، هنا مهبط التقى هنا خير مظلوم، هنا خير كاتبِ
قفوا واقرأوا أم الكتاب وسلّموا عليه، فهذا القبر قبر الكواكبي
كُتب ومؤلفات الكواكبي
مقالاته
نُشرت في:
أشهر رجالات آل الكواكبي