- ترتدي اليانا بارقيل الجينز الضيق وجزمة وسترة مبطنة بالفراء، وهي ملابس مناسبة لاتقاء البرد في جبال قلمون الى الشمال من دمشق. وهي تحب المسابقات التلفزيونية والافلام الاميركية وتستمتع بالسباحة. ولكن هذه المراهقة السورية المعاصرة تتعلم ايضا اللغة الآرامية، وهي اللغة التي تكلم بها المسيح.
وتشارك اليانا 15( عاما) في جهد استثنائي للمحافظة على اقدم لغة حية في العالم وانعاشها، وهي قريبة لما كانت ربما تبدو عليه اللغة في الجليل - في اسرائيل حاليا- عند اعتاب العصر المسيحي.
وقال الاستاذ عماد ريحان، أحد اعمدة اكاديمية اللغة الآرامية في قرية معلولا الخلابة التي تدرس فيها بارقيل: "في الناصرة عندما ولد المسيح كانوا يتكلمون تقريبا نفس اللغة التي نتكلم بها في معلولا اليوم".
"ايلي، ايلي لم شبقتني" (الهي الهي لماذا تخليت عني)- وهي العبارة التي انتحب بها المسيح على الصليب- وقد نطق بها كما هو معروف باللغة الآرامية.
والآرامية التي تعترف بها "يونيسكو" على انها "لغة مهددة بالانقراض تحديدا" يتكلمها 7000 شخص في معلولا التي اغالبية سكانها من الكاثوليك اليونان "الملكيين" وتسبق كنائسها وطقوسها بفترة طويلة ظهور الاسلام واللغة العربية.
أما الآرامية الحديثة الغربية اذا اردنا استخدام اسمها اللغوي المناسب فيتكلمها 8000 آخرون في قريتين مجاورتين احداهما الآن مسلمة بالكامل. وتسارع تدهور الآرامية الطويل مع انفتاح المنطقة في العشرينات عندما شقت السلطات الاستعمارية الفرنسية طريقا من دمشق الى حلب. وقلل التلفزيون والانترنت وذهاب الشباب الى العمل من عدد المتكلمين بهذه اللغة.
وفي الوقت الحاضر فان عددا كبيرا من السكان المحليين يسوقون الشاحنات المبردة الضخمة التي تعبر الصحراء الى السعودية. ومع ذلك فهناك بعض البقايا ما تزال موجودة : ففي صيدنايا المجاورة يتحدث المصلون في كنيسة سيدتنا العربية بلكنة آرامية واضحة.
الا ان الامور تدعو الآن للتفاؤل. فقد قال ميخائيل بخايل (وهو يقف وراء منضدة في متجر ابو جروج للتذكارات الواقع في الساحة الرئيسة ببلدة معلولا حيث تفرغ الحافلات حمولتها من السياح الزائرين لكنسية مار تقلا، وهو شهيد مسيحي قديم، في كهف على سفح الجبل المنحدر): "عندما كنت في المدرسة قبل اكثر من 30 عاما، لم يكن يسمح لنا بتكلم الآرامية، اما الآن وبفضل الرئيس الأسد، فان لدينا معهدا يعلم هذه اللغة".
ودور بخايل في القداس هو انشاد صلاة الرب بالآرامية. لكنه يثرثر بحرية مع اصدقائه مما يؤكد حقيقة ان اللغة حية وبحالة جيدة، وليست مجرد لغة طقوس.
سعادة سرحان، مديرة الأكاديمية اللغوية، تعلمت الآرامية وهي طفلة وهي الآن تعلمها لاطفالها، لكنها تشعر احيانا بالضغط الاجتماعي لتكلم العربية عندما يحضر متكلمو لغات غير الآرامية. وتقول: "التصرف خلاف ذلك فظ".
ومما يصعب تصديقه ان الآرامية تلقت دعما من خلال فيلم انتجته هوليوود وهو فيلم "آلام المسيح"- من بطولة ميل غيبسون- المثير للجدل الذي اطلق عام 2004 قبل انشاء الأكاديمية.
والأكاديمية التي اسستها جامعة دمشق بمساعدة الحكومة مزودة ببنك للحواسيب وكتب دراسية جديدة وطاقم تدريس من ستة اشخاص و85 طالبا في مراحل مختلفة. الياس تاجا واحد منهم: وهذا المتكلم بالآرامية الوطنية الذي تقاعد من عمله مدرساً للرياضيات أراد ان يتعلم كيف يكتب اللغة. وأوضح خلال جلسة لتناول القهوة المبهرة بالهال مع الاجاص المزروع محليا: "تكلمت مع زوجتي وابنتي ميلادي بالآرامية فقط رغم ان ابنتي تجيب احيانا بالعربية".
ميلادي(25 عاما) تزوجت في الآونة الاخيرة رجلا من صيدنايا لا يتكلم الآرامية. ويخشى تاجا من انها لن تستطيع نقل اللغة الى اولادها- احفاده.
وسوريا لكونها سوريا، فيها حساسيات سياسية، ليس اقلها ان التعريب هو مظهر مهم من السياسة التربوية الحكومية منذ ان تولى حزب البعث السلطة في الستينات. وقال ريحان: "في سوريا اقليات عديدة: الشركس والأرمن والاكراد والآشوريون، ولذلك فقد كان قرارا مهماً السماح بتدريس اللغات الاخرى في المدارس الحكومية. الا ان الحكومة مهتمة بالترويج للغة الآرامية لانها تمتد في اعماق تاريخ سوريا".
ويقول المراقبون ان فتح اكاديمية آرامية يظهر توجها واثقا ومطمئنا من جانب النظام. واهدى الباحث جورج رزق الله كتابه المدرسي بالآرامية عام 2007 "الى القائد العظيم وراعي العلوم والتربية الدكتور بشار الأسد". وهناك صورة ضخمة للرئيس معلقة في مكتب المدير، كما هو الحال في جيع المباني العامة بسوريا.
وبالنظر للعداوة المريرة بين سوريا واسرائيل التي ما تزال تحتل هضبة الجولان، فان من اللافت للنظر ان الأحرف الآرامية شبيهة جدا بالعبرية المستخدمة في النصوص الحاخامية، وهذا أحد الاسباب لوجود يافطة وحيدة بالآرامية في معلولا معلقة فوق الاكاديمية. وقال أحد الزوار القادمين من دمشق مازحا: "لو اختلف الأمر، فان الناس ربما يظنون ان بعض المباني في مستوطنات اسرائيلية".
يقول الخبراء اللغويون ان سوريا تحسن صنعا بتعزيز هذا الجانب من تراثها. وقال البروفسور جيوفري كاهن، الذي يدرس فقه اللغات السامية في جامعة كامبردج: "الآرامية بحالة صحية جيدة فعليا في معلولا. وهي من اللهجات الآرامية الشرقية في تركيا والعراق وايران المهددة بالانقراض بشكل حقيقي".
ريحان وزملاؤه كانوا مسرورين عندما حضر فريق من "يونيسكو" اخيراًا لزيارة الاكاديمية، وأعرب عن امله بتوفير مخصصات تسمح لهم بجمع الكلمات المهجورة وادخالها في المعاجم المناسبة، وفي هذه الأثناء يستمر التدريس.
بدأت اليانا الدراسة في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. وتقول: "يتحدث أبي بالآرامية ولا تتكلمها امي لانها من لبنان. انا اتحدثها بشكل جيد الآن لكني سأواصل دراستها لأنني اريد ان اتحدثها بطلاقة. لا اعرف الكثير عن اللغة الآرامية، لكن ما اعرفة انها قديمة".
القدس