آخر الأخبار

مواقف حزب البعث من مسألة الوحدة أو الاتحاد

-1-

من المؤكد ان قادة حزب البعث وقفوا في مسألة الوحدة او الاتحاد موقفين مختلفين: الأول سنة 1958، والثاني سنة 1962.

أ- سنة 1958:

عقب 14 تموز/ يوليو سنة 1958 في العراق، ذهب ميشال عفلق إلى بغداد، مع جماعة من رجال الفكر والسياسة المنتسبين إلى عدة أقطار عربية.

وعندما دار الحديث بينهم عن الوحدة أو الاتحاد، رفع عفلق صوته بأداء حاسم وبتار، فقال:

- إما وحدة، إما بلاش.

ثم، عندما جلس في بهو " الاوتيل "، كرر رأيه في هذه القضية، أمام جمع من " رجال الثقافة والصحافة، ودعمه بالبراهين التالية:

- لا شك في أن القوى الاستعمارية ستبذل كل جهدها للقضاء على هذه الوحدة الجديدة.. فإذا صارت الرابطة بين العراق وبين الجمهورية العربية المتحدة ضعيفة ورخوة- مثل الروابط الاتحادية- استطاع الاستعمار أن يفصمها بسهولة . فيجب أن تكون الرابطة قوية- مثل رابطة الوحدة- لكي تستطيع أن تصمد أمام هجمات الاستعمار، فلا تنفصم بفعل ضرباته المتوالية.

ومعلوم أن بيانات ميشال عفلق صارت- في حينها- موضوع مناقشات حادة، في المحافل وفي الجرائد العراقية.

ب- سنة 1962:

أصدرت " القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي "- خلال شهر أيار/ مايو 1962- بياناً، قدمت فيه مشروعاً لإعادة الوحدة بين مصر وسوريا على أسس جديدة.

وكان المشروع يدعو إلى " الإتحاد " وإن كان يسمي ذلك باسم " الوحدة الإتحادية "، حتى انه كان يجعل الاتحاد ضعيفاً إلى حد منح كل واحد من الاقليمين " حق التشريع في الحريات العامة " كما شرحت ذلك في بحثي السابق.

على كل حال، كان المشروع يعني " إتحاداً ، لا وحدة " ويناقض بذلك فكرة " إما وحدة، وإما بلاش " مناقضة تامة. -2-

ولكن- بعد الاطلاع على هذين الموقفين الصريحين- يجدر بنا أن نتساءل: ماذا كان موقف حزب البعث من الوحدة أو الاتحاد قبل سنة 1958؟

إن هذا السؤال، يوصلنا إلى روايتين متضاربتين: صدرت الأولى عن ميشال عفلق، والثانية عن صلاح الدين البيطار.

أ- ما رواه ميشال عفلق:

قال ميشال عفلق في حديث أدلى به إلى محرر جريدة " لوموند " الإفرنسية: انه كان أعد مشروعاً فدرالياً منذ سنة 1956، ولكنه اضطر إلى التخلي عنه، نزولاً عند رغبة جمال عبد الناصر الذي كان يلتزم الوحدة. والجريدة نشرت حديثه في عددها الصادر في اليوم الحادي والعشرين من شهر آذار/ مارس سنة 1963، أي : بعد ثورتي سوريا والعراق .

يلاحظ أن هذا القول يتألف من شطرين :

الشطر الأول يفيد بأن ميشال عفلق كان أعد مشروعاً للاتحاد الفدرالي منذ سنة 1956

والشطر الثاني يفيد بأن جمال عبد الناصر كان معارضاً للفدرالية، وميشال عفلق تخلى عن فكرته الأصلية، ووافق على قيام الوحدة، بسبب إصرار جمال عبد الناصر.

ولكني عندما قرأت حديث ميشال عفلق في الجريدة المذكورة، لم أستطع أن أمنع نفسي من الشك في صحة رواياته هذه.

وقد شككت في صحة ما جاء في الشطر الأول، لأن المقالات المنشورة في كتابه " في سبيل البعث " لم تتطرق إلى بحث الوحدة أو الاتحاد، من قريب أو بعيد، فضلاً عن أن الشعار الذي أطلقه في بغداد كان يناقض فكرة الفدرالية مناقضة تامة.

وفضلأ عن أنه كان كتب في كتابه " معركة المصير الواحد " ما يلي :

" قبل شهرين من الزمن وضع في سوريا ميثاق قومي بين الأحزاب. وكان حزبنا يطالب بالاتحاد التام مع مصر. وقد رفضت ذلك الأحزاب الأخرى بدون استثناء . [ عفلق ، في سبيل البعث ، ص 46 ] .

وقد شككت في صحة ما جاء في الشطر الثاني أيضاً ، لأني لم أسمع ولم أقرأ - قبلاً- أي حديث يدل على أن مسألة الوحدة أو الاتحاد صارت موضوع مناقشة في القاهرة سنة 1958، بل بعكس ذلك، كنت علمت- كما علم الجميع- أن جمال عبد الناصر كان يتردد في الوحدة وكان يرى وجوب الاعداد لها مدة خمس سنوات، فضلاً عن اني كنت قرأت حديثاً لميشال عفلق نفسه، يذكر فيه تردد جمال عبد الناصر، ويفتخر بأنه هو الذي استطاع ان يقنعه بإقامة الوحدة بدون تأخير.

إن هذه الشكوك التي ساورتني عند مطالعة حديث ميشال عفلق المنشور في الجريدة الفرنسية، تحولت- بعدئذ- إلى يقين، وذلك عندما اطلعت على رواية صلاح الدين البيطار.

ب- رواية صلاح الدين البيطار

ويتبين مما جاء في محضر الجلسة الأولى من المرحلة الثانية من محادثات الوحدة في القاهرة ، ان صلاح الدين البيطار تطرق إلى فكرة الاتحاد بصورة عرضية. إذ قال فيما قاله :

"... شفت عبد المحسن.. وشفت محمود رياض.. وفهمت منهم.. بأنه كان فيه خوف من الجيش ذاته.. كيف نقيم وحدة وفي إمكانيات الجيش السوري أن يقوم بإنقلابات؟..

وأنا جمعتهم بالواقع- أحمد عبد الكريم وأمين النفوري بالذات.. وبينت لهم أن الموضوع.. هو عدم ثقة بضباط الجيش ضمن الوحدة إذا صارت.. فإذا حدث هذا فاعتقد أنا.. الشروط تكون في جانب قيام الوحدة.

وعلى هالأساس اجتمعوا كلهم وجاءوا وعلى رأسهم عفيف البزري، يريدون وحدة كاملة، بعد أن قدموا مذكرة.. وأنا كنت جايب مشروع وحدة إتحادية بالأصل.. وأرادوا أن يقيموهـا في 24 ساعة.. وأنا جئت معهم " [ صلاح الدين البيطار ، محاضر محادثات الوحدة ، ص 56 ] .

ويتضح من هذه الكلمات التي سردها صلاح الدين البيطار أمام أعضاء الوفود ، وبحضور ميشال عفلق:

انه عندما أتى إلى القاهرة مع قواد الجيش السوري كان يحمل مشروعاً للوحدة الاتحادية، غير انه ترك المشروع المذكور جانباً، بناء على إرادة قواد الجيش الذين كانوا يطلبون إقامة الوحدة الكاملة على الفور.

وغني عن البيان: إن ذلك يناقض مزاعم ميشال عفلق التي ذكرناها آنفاً ، وأظهرنا ارتيابنا في صحتها ارتياباً شديداً .

إذا أردنا أن نلخص ما جاء آنفاً ، نستطيع أن نقول:

أولاً : ان ما قاله ميشال عفلق عن " انه تخلى عن فكرة الاتحاد الفدرالي بناء على معارضة جمال عبد الناصر لهذه الفكرة " يخالف الحقائق الثابتة مخالفة كلية.

ثانياً : يظهر أن فكرة الفدرالية كانت تجول في خواطر البعض من قادة حزب البعث، ولكنها لم تصبح موضوع دراسة جدية وقرار صريح في الحزب. ولذلك أهملها صلاح الدين البيطار، مراعاة لإرادة قواد الجيش. وأما ميشال عفلق، فانه أطلق شعارا مضاداً للفدرالية، عندما قال: " إما وحدة، وإما بلاش.. ".

-3-

وإتماماً لهذا البحث، لا بد من ذكر مشروع آخر، ظهر من محافل حزب البعث، خلال شهر آذار/ مارس سنة 1963.

إن السيد علي صالح السعدي نائب رئيس وزراء العراق حمل إلى دمشق مشروعاً " للتعاون بين الدول العربية المتحررة "، أعلنه في مؤتمر صحافي ، بحضور رئيس وزراء سوريا السيد صلاح الدين البيطار.

ونص المشروع المذكور على ما يلي:

" أولاً- وضع مشروع بيان مشترك بين الشقيقة الكبرى الجمهورية العربية المتحدة ومع الشقيقات الجزائر واليمن وجمهورية سوريا، يخول الجيوش العربية في الدول المتحررة حق التدخل وإنزال الجنود وإجتياز حدود أي بلد من البلدان العربية المتحررة الخمسة عند تعرضه لأي عدوان خارجي أو مؤامرات داخلية إستعمارية أو رجعية تهدف إلى الاطاحة بالحكم التقدمي في البلدان الخمسة.

ثانياً: تشكيل قيادة عسكرية مشتركة والحاق ضباط إرتباط بهذه القيادة يمثلون دوائر الاركان العامة في الجيوش الخمسة، ووضع قوات مشتركة تحت أمرة هذه القيادة، ويكون من اختصاصات هذه القيادة وضع سياسة موحدة للتجهيز والتسليح والتدريب وتوحيد الأنظمة والمصطلحات العسكرية.

ثالثاً : تشكيل قيادة سياسية عليا للتخطيط السياسي في الدول الخمس ".

هذا، وقد حبذ صلاح الدين البيطار المشروع المذكور كما أن السيد طالب شبيب، وزير خارجية العراق، تولى مهمة عرضه على جمال عبد الناصر في القاهرة.

وبما أن السادة علي صالح السعدي وصلاح الدين البيطار وطالب شبيب كلهم من زعماء حزب البعث، نستطيع أن نقول: ان ما جاء فيه يدل على موقف من مواقف حزب البعث.

خلاصة المواقف

يتبين من كل ما سبق أن قادة حزب البعث، وقفوا ثلاثة مواقف مختلفة، خلال مدة تقل عن خمس سنوات:

إنهم قالوا أولاً : إما وحدة، واما بلاش؟

بعد ذلك قالوا: لا وحدة، بل إتحاد،

ثم قالوا: لا وحدة، ولا إتحاد، بل تعاون.

أعتقد أن هذه المواقف الثلاثة، مع ما بينها من اختلاف وتباين، تدل دلالة واضحة على سطحية التفكير السياسي.

إن قادة حزب البعث كثيراً ما يتباهون بقدم عهدهم في الكفاح من أجل الوحدة. ولكن كل شيء يدل على أن جهودهم استهدفت التنظيمات الحزبية أكثر مما تستهدف توضيح العقائد، ودرس الخطط ، وتقرير المشاريع.