وهما منظمتان رديفتان لحزب البعث». أما عندما تبلغ الشبيبة المرحلة الثانوية، فتوضع في مواجهة شكل تنظيمي أكثر اتساعاً يحمل قدراً أكبر من المسؤولية والالتزام المستقبليين. ذلك في وقت لا يزال فيه الناشئ غير متمتع بمقدار كاف من الوعي والثقافة اللذين يؤهلانه لاختيار اتجاه سياسي أو تنظيمي أو فكري، وكانت في السابق توزع طلبات الانتساب لحزب البعث أثناء الدوام الرسمي من قبل إدارة المدرسة، حيث يملأ الطالب استمارة تؤهله للانتساب إلى الحزب «كعضو نصير».
ومن ثم ينتقل الطالب بعد إنهائه المرحلة الثانوية إلى الجامعة ليجد نفسه في جو خالٍ تماماً من أشكال العمل السياسي المفترضة، ومنسب للاتحاد الوطني لطلبة سورية، المعني الوحيد بجميع النشاطات الطلابية «المؤتمرات الطلابية، الهيئات الإدارية...».
وبعيداً عن الانتماءات المنظمة للشباب السوري، يمكن تصنيف توجهاتهم الفكرية السائدة ابتداء من اليسار الماركسي، يضاف لصفوفهم بعض المثاليين الاشتراكيين المؤمنين بنظريات اشتراكية تعلموها في صفوف حزب البعث، وأعادوا صياغتها، أما التيار الآخر الذي يستقطب العديد من الشباب فهو التيار القومي بتشعباته، يضاف لصفوفهم أنصار التجربة الناصرية المؤمنون بشكل غير مشروط بشخص عبد الناصر على اعتباره الزعيم النزيه للأمة العربية، أما الرافد الثالث للتيار القومي، فهو من يرى في سوريا الطبيعية «سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين، والبعض يشمل العراق أيضاً». ويبقى اليمين الذي يرفده الشباب المتدين وهو على نوعين: الشكل الأغلب هو الاتجاه الديني غير المسيس، والشكل الثاني هم أتباع المدرسة الوهابية السعودية، وهناك أيضاً أنصار الثورة الإسلامية في إيران الذين يرون فيها المثال الأنجح على تطبيق النظرة الإسلامية في الحكم.
هذه نظرة عامة على ميول ومشارب الشباب السوري السياسية والفكرية كما تعرف عليها الجميع أثناء دراسته المدرسية أو الجامعية أو حتى الشارع، واليوم ما الجديد بالحديث السياسي لدى الشباب وما هي اهتماماته غير السياسية، كشكل من أشكال التعبير عن ذواتهم ومكنونات أنفسهم، ورؤيتهم للأحزاب السياسية التي ترفد الحياة السياسية السورية.
خيبة أمل وحشر كما النقل الداخلي:
أغلق مقصف كلية الآداب القديم، وهذا الجديد مصنوع من الزجاج والخشب، فالطاولات تكاد تكون فوق بعضها البعض، والأهم هو تجمع الطلاب في مقصف الكلية بحسب المناطق والمحافظات التي ينتمون إليها، بحسب ملاحظة الطالب «مهند» سنة ثالثة أدب إنكليزي بحديثه غير المباشر والذي حصلت عليه بعد إقناعه أني لن أذكر اسم العائلة، حيث قال: (كنت أسمع من أقاربي ممن أكملوا تعليمهم الجامعي في هذه الكلية وغيرها من كليات جامعة دمشق، أن التجمعات الطلابية كانت بناء على الميول السياسية من شيوعيين وبعثيين وإسلاميين وغيرهم بعكس ما نرى اليوم حيث أن الطاولات تحجز بحسب المحافظات فالمقهى تحول إلى جغرافيا سورية صغرى).
بدأت بحديث جانبي آخر قد يوصلني إلى مبتغاي، متطفلاً على تقرير لجريدة رسمية حول زيارة الوفد الإعلامي الصيني وتقاطع التجربة الصينية مع التجربة السورية، (أي تقاطع، محطة تلفزيون الشام الخاصة أغلقت» بكلمة واحدة «شيل الفيش» دون سؤال أو جواب) كما جاء على لسان أحد مذيعيها كان موجوداً على طاولتنا وهو طالب في كلية الأدب الإنكليزي.
بينما التقرير يتحدث عن ألاف الصحف والمجلات ومئات المحطات التلفزيونية الصينية، وعندها تمنى «عدنان» سنة رابعة علم اجتماع (إعادة نشر التقرير، دون تعليق في سائر المواقع الإلكترونية) ومن هنا بدأ حديث الشباب السياسي يزداد نمواً بعد تجمد دام أكثر من ساعة ونحن نتعرف ونتبادل النكات كما العادة السورية، حوار صغير بين عدنان ومهند حول جمعيات حقوق الإنسان والتمويل الخارجي، الأول يدافع عن بعض المنظمات الحقوقية ويقول إنه مجرد شك والثاني يؤكد على ضرورة فتح الموضوع، يبدو الحوار رائعاً مع امتلاك الطرفين قدرة على إدارته دون الوصول إلى الجدار، وهذا يؤكد أنها ليست المرة الأولى التي يتحدثون بها في مثل هذه الموضوعات، إذن من قال أن الشباب السوري ما بيحكي بالسياسة؟
ما هي أوجه الشبه بين السياسة والحب؟!
الكلام السياسي يخضع الحديث فيه لضوابط ذاتية فهو حديث المقربين باعتقاد «نغم» خريجة الأدب الإنكليزي: (التعاطي بالسياسة هو بين الأصدقاء كأسرار الحب) وتبرر نغم ذلك بأننا: (منذ الطفولة لم نتعلم الجرأة لا بالسياسة ولا غيرها) ويؤكد ذلك «عمار ديوب» خريج كلية التربية وأستاذ في إحدى مدارس دمشق حيث يشير إلى أن: (المنزل لا يعلم أبداً الحوار السياسي ويوصي بالابتعاد عن الموضوع، بسبب الظروف الضاغطة، بالإضافة إلى المستوى المعيشي الضيق).
«يستر عرضك، اسم حركي»:
هذا ما أراده غالبية طلاب الجامعة كي يتحدثوا في حواراتهم السياسية، مما يؤكد وجهة النظر السابقة بأن المنزل لا يعلم الجرأة على الحوار وخاصة بالسياسة و يترسخ ذلك الخوف مع المنع الواضح بالمدرسة لأي نشاط سياسي يخرج عن إطار منظمة (الشبيبة) مع التركيز على عدم تناول هذا النوع من الموضوعات إلا من خلال المواد التوجيهية كالتربية الاجتماعية في المرحلة الابتدائية والتربية القومية بالمرحلة الإعدادية والثانوية وكذلك الجامعة، وغالباً لا تدور الأحاديث السياسية العلنية إلا في قاعات شبيبة الثورة أو حزب البعث وتكون في غالبها قراءة نظرية لمنطلقات الحزب ومجلته المناضل.
ويعود الأستاذ ديوب إلى التأكيد بأن: (المدارس والإداريين القائمين على المدارس كما المنزل يوصون بعدم الكلام بالمواضيع السياسية لا من قريب ولا من بعيد، وهنا توجد قوانين تمنع السياسة في التعليم) و يعود هذا إلى بداية أواخر الخمسينيات (الوحدة بين سورية ومصر - 1958)، ولكن لا بد من وجود تمرد كما العادة السورية على قوانين العائلة والمدرسة، يتمثل بالأحاديث الجانبية التي يتداولها غالبية الشعب السوري من المثقفين وغيرهم، أهمها الأحاديث في حرم الجامعة وتكون حول المواضيع الوطنية كالقضية الفلسطينية والعراق بمجرد الشعارات أو العناوين العريضة دون الدخول بالتفاصيل، أما الحديث بالسياسة الداخلية كما أشار الطالب «مهند» يدور حول مواضيع مثل: (المعارضة السورية وانقسامها إلى قسمين الأول هو معارضة مرتزقة تمول وتعمل لصالح الخارج وتحمل أجندة خارجية والثاني معارضة من الداخل بحاجة إلى مجلات وإعلام خاص بها كي تأخذ دوراً أوسع بالعمل السياسي وتشارك في النهج الإصلاحي، وأن تحظى باحترام الحكومة).
أما شباب الشارع غير المتعلم فغالباً ما يتحدثون بالأحاديث العامة كتناقل الأخبار عن المجازر في بيت حانون مع نبرة حزن تكاد أن ترافقها الدموع، والإشاعات عن عودة صدام إلى الحكم بعد الحكم عليه بالإعدام، وتبقى بالعموم.
وبالرغم من هذا التمرد الصغير هنا وهناك لا بد من الاعتراف بنزع السياسة من المجتمع بدءاً من العام 1958، (حيث اشترط جمال عبد الناصر وجود هذا الوضع كي يوافق على إقامة دولة الوحدة) وانعدام المنظمات المتعددة التي تعبر عن ميول ورغبات الشباب، مما دفعهم لتبني ظواهر ثقافية غريبة مستوردة من الخارج في غالبها، أو العودة إلى أشكال التدين الطائفي الخطير، (يقول البعض إنها تقل هذه الأيام) بسبب الثقافة الاستهلاكية والموضة وحديث الموبايلات، لكن هناك أشكال من التدين المفاجئ في صفوف الشباب وبخاصة غير المتعلم أو متوسط المستوى، ما أطلق عليه بالآونة الأخيرة اسم الصحوة الدينية.
ومن الملاحظ، خاصة في مهرجان المسرح الأخير، بالرغم من الجو الديني السائد إلى حد ما، عودة الشباب بكثافة والحضور والاهتمام بالأنشطة الثقافية ولكن ضغط الحياة المادية يمنعهم من الاهتمام الجدي بالحياة الثقافية أو السياسية، وقد انعدم تقريباً هذا الاهتمام بالنسبة لطلاب الجامعات داخل قاعاتها، حيث أشار الطالب «عدنان» برأيه: (ما قبل عام 2003 كان اتحاد الطلبة ناشطاً في مجالات عدة كالمسرح والأمسيات الشعرية، لكن اليوم لا يوجد شيء ولا أعتقد أن المشكلة بالاتحاد بل بالأجيال الجديدة في الجامعة، فكل جيل مهمش أكثر من سابقه ويحمل في طياته ثقافة سخيفة لا لون لها ولا وزن!!).
عودة إلى مواقع الأحزاب في حياة الشباب نجد أن الشباب السوري لا يشعر بوجود هذه الأحزاب لا الحاكمة ولا المعارضة ولا مابين ذلك حيث يقول الطالب «مهند»: (لا نشعر بعمل الأحزاب داخل الجامعة).
دخان وقهوة خوف وسلبية الزواج والوظيفة:
نظرة «نكد» لابد منها دخان وقهوة في وقت الفراغ وما يزيد الطين بلة هو أنك عندما تريد الحديث بموضوع مهم كالسياسة تواجهك مشكلة الخوف وسلبية المجتمع بغالبه بحسب الطالب «مهند»، المرتبط برباط الخطبة وينوي الزواج، ويواجه كما الجميع من أبناء جيله ضغوطاً اقتصادية واجتماعية ودراسية متلاحقة كأمواج تضطرب في رأسه، من متطلبات الحياة المتزايدة، والتفكير بالمستقبل والعمل لإكمال التعليم الجامعي والتوفيق بين الطرفين حيث غالبية الشباب يعمل ويدرس بنفس الوقت بعكس أيام الثمانينيات والسبعينيات، وهذا العمل يجعلهم برأي الغالبية بعيدين عن السياسة أو النشاط العام حتى الثقافي.
حياة روتينية في الغالب، نظرة لبعض التجارب ما بعد الجامعة تجد أن الطريق واحد أمام الجميع، بدايته التخرج ومن ثم الوظيفة، وقد لا تكون بنفس الاختصاص، ومن ثم الزواج والأولاد ولا يبقى سوى نشرة الأخبار من حديث السياسة.
عدد 197
أبيض أسود