قصة الهندسة - الجزء الثاني
سبق و أوضحت أن أول الفلاسفة الإغريق كان تاليس الميلطي، و أن أول خلفائه كان أناكسيماندر. ثاني الخلفاء كان أناكسيميناس و ثالثهم كان أناكساغوراس . و قد انتقل أناكساغوراس من ميلطة
لأثينا حيث قام بتدريس سقراط ، ثم إن سقراط قام بتدريس أفلاطون الذي تلقفها تلقف الكرة فتحولت
الفلسفة اليونانية على يده لملك عضوض.
يحلو للبعض أن يصف اليونان القديمة بأنهاكانت تنقسم للمدينة العسكرية، اسبارطة، و لمدينةالثقافة و الفكرإلا أن الواقع كان غير ذلك:
فمن ناحية، كانت أثينا تمتلك جيشا ككل المدن اليونانية، و معظم، إن لم نقل كل، الحروب التي قامت بها اسبارطة كانت بالتحالف مع أثينا، هذا من
ناحية...
و من ناحية أخرى، ففيما يخص الفلسفة الأثينية، إن استثنينا أناكساغوراس و سقراط، فنظرنا لأفلاطون ، لوجدنا العجب .
ففي كتابه "الجمهورية" نجد أفلاطون يقدم وصف للمدينة الفاضلة، فيقترح أن يحكمها مجلس من الفلاسفة، يعني الحكماء! فنسأل: طيب و من سيقرر أن
هؤلاء حكماء؟ أهو الشعب؟
بالطبع لا! فبالنسبة لأفلاطون الفلاسفة هم من يقرر من يجب أن يكون فيلسوفا! تماما كما في الأنظمة الدينية ، حيث يقرر رجال الدين من هو "الفقيه" و يقررون "حكم الفقيه" فيتلقفونها تلقف الكرة،والشعب
سامع مطيع!
في الحقيقة، أفلاطون استلهم نموذجا لجمهوريته الفاضلة مدينة اسبارطة بنظامها الفاشي، و "مجلس الفلاسفة" الذين يرغب بوضعه على قمة مدينته الفاضلة هو نسخة عن مجلس الأعيان الذي كان يمتلك السلطة
الحقيقية في اسبارطة، مع الفرق:
يعني على الأقل مجلس الأعيان في اسبارطة كان مؤلفا من الأغنياء، يعني على الأقل كان هناك شيء يسمح بتقييم إن كان أحدهم يمكن له الدخول لمجلس
الأعيان أم لا: ثروته...
أما مجلس الفلاسفة الذي يرغب به أفلاطون فهو لا يمتلك حتى هذه الميزة!
و بالإضافة لكون أفلاطون مدافعا عن النظام الفاشي، فإنه كان مدافعا عن الخرافات و الغيبيات و من ألد أعداء الفلاسفة الماديين (*)، كما يشهد
على ذلك عداءه ل أناكساغوراس ...
إذن فإن أناكساغوراس ترك ميلطة و ذهب لأثينا فأدخل الفلسفة إليها، فكان أول فيلسوف أثيني. كان من بين طلاب أناكساغوراس طالبين يتوجب علينا ذكرهما: سقراط، الفيلسوف، و بيركليس، السياسي البارع الذي سرعان ما أصبح حاكم أثينا و باني ديمقراطيتها.
إليكم بعضا من أفكار أناكساغوراس:
- لا شيء يفنى و لا شيء يخلق من العدم، لكن الأشياء تتحول.هذا المبدأ الذي اعتمده أناكساغوراس كمبدأ فلسفي، مادي، تم إثبات صحته بعد ذلك بألفي عام بواسطة أعمال العالم الفرنسي لافوازييه.
- الإنسان يفكر لأنه يمتلك يدا
و ما يثير متعة الإنسان أن هذه الفكرة تنطبق حرفيا على ما استنتجه العلم المعاصر: أحد أهم الأسباب لرقي الإنسان و تفوقه هو امتلاكه ليد ذات إبهام اتجاهه معاكس لاتجاه بقية الأصابع، مما يمكنه من استخدام، و صنع، الأداة. و بالتالي الحضارة.
طبعا نحن لا نحمل الكلام أكثر مما يحتمل، فنحن لا نبحث عن "الإعجاز العلمي في كلام أناكساغوراس". فقط نلفت النظر لهذه النقطة بهدف الإستمتاع.
- لكن أهم ادعاءات أناكساغوراس، و هي التي قادته للمحكمة، هو ادعاءه أن القمر هو مجرد حجر يسير في السماء. و أن الشمس أيضا هي حجر، لكنها حجر
مشتعل. و فسر كسوف الشمس بمرور القمر أمامها. ثم اضاف أن النجوم هي كالشمس: حجارة مشتعلة. و إن كنا لا نشعر بحرارتها فالسبب بسيط: لأنهابعيدة جدا.
هذا الكلام أثار غيظ الأثينيين الذين رأوا فيه اعتداء على "مقدساتهم"،ذلك أن الأثينيين كانوا يرون أن وضع الحجارة في السماء -و هي مسكن الآلهة- هو كفر و اعتداء غير مقبول على المقدسات. و عبثا حاول
أناكساغوراس أن يدافع عن وجهة نظره مستشهدا بنيزك كان قد سقط قبيل ذلك الوقت بقليل فحكم على أناكساغوراس بالإعدام... لكن تلميذه السابق -و حاكم أثينا وقتها، بيركليس، دبر له الهروب من السجن. و عاش أناكساغوراس بقية حياته منفيا مشردا.
دعني الآن أضف نقطة ممتعة: فلمحاكمة أناكساغوراس اضطر الأثينيون لاختراع قانون يعاقب من يتطاول على المقدسات، و كان من بين من وافقوا على هذا القانون سقراط نفسه، تلميذ أناكساغوراس...
و بهذا القانون تمت، أيضا، محاكمة سقراط، و حكم عليه بالموت، فتجرع السم!
فنصل لأفلاطون
في كتابه المسمى "فيدون" (يعني: عن الروح) هناك
مقطع يتحدث فيه أفلاطون عن أناكساغوراس .
فهاكم موجزا لما يقول -اعتمادا على ذاكرتي
يقول أفلاطون (ما موجزه):
"وقع في يدي كتاب منسوب لأناكساغوراس، و هو من يقال عنه أنه يرى أن العقل يحكم العالم و يفسره. سعدت بالحصول على هذا الكتاب و تشوقت لقراءته: فأنا أيضا أعتقد أن الروح مبدأ اساسي!
"و لكن و بقرائتي لهذا الكتاب بدأت أمالي تخيب! فهذا الشخص الذي يدعي أن الروح تحكم الكون، تجده حين يحاول تفسير حوادث الكون يلجأ لتأثير حركات بعض الأشياء من نوع الهواء و الماء و ما إلى ذلك من ترهات!
"و حين يريد تفسير أفعال الإنسان فإنه يلجأ لوصف العظام و العضلات التي تربط بينها و الجلد الذي يحيط بها!
"فمثله كمثل رجل يقول أن سقراط حين حوكم لم يحكم عليه لأن شعب أثينا قدقرر أنه يستحق الإعدام، لكن لأن عضلات و عظام و جلود شعب اثينا تحركت بطريقة ما فحكمت عليه بالإعدام،"و سقراط حين تجرع السم، فهو لم يفعل ذلك لأنه اعتبر ذلك خير و أفضل من الهرب و الإختفاء، لكن لأن عظامه و عضلاته تحركت بهذا الشكل!"
انتهى إيجازي لنص أفلاطون.
دعونا ننظر لهذا النص...
1- فحين يقرر أناكساغوراس، مثله في ذلك كمثل كل الفلاسفة الماديين، أن العقل يحكم الكون و أن الأسباب المادية هي التي تفسر ما يحصل فيه و أن
عقل الإنسان قادر على اكتشاف أسرار الكون، كل ذلك نوجزه بجملة "العقل يحكم الكون"، نجد أفلاطون، يظن أن الحديث هو عن "الروح" التي تحكم الكون!
2- و لاحظ سخريته مما يقرره أناكساغوراس من أن العضلات هي ما يحرك الجسم! وددنا لو أن أفلاطون و أمثاله تفضلوا فمزقوا عضلاتهم ثم أرونا كيف سيتحركون بقدرة "روحهم"، كي نرى!
3- ثم لاحظ غمزه من قناة أناكساغوراس حين يسخر من هربه من وجه "العدالة" الأثينية، (!).
نعم، و بكل صفاقة، أفلاطون يدعي أنه فيلسوف لكنه لا يرى غضاضة في استعمال قمع السلطة و سيف العسس لإخماد صوت الفلاسفة الذين لا يتفق و إياهم، ثم يروح يسخر من معاناتهم و بكل صفاقة.
4- ثم لاحظ تملقه للرعاع من أهل أثينا، هؤلاءالذين حكموابالإعدام ، فتجد أفلاطون يتحدث عن محكمة "شعب
أثينا" كما لو كانت محكمة عادلة..
يبقى أن أفلاطون، و رغم كل ذلك، لعب دورا أساسيا في تطور الهندسة...
و هو ما سأتحدث عنه في مقالي المقبل...
-------------------------
(*) للأحبة الذين لا يعلمون ما هو تعريف الفلسفة المادية، و عكسها
الفلسفة المثالية، أوضح بإيجاز:
الفلسفة المادية لا تعني "التكالب على الشهوات المادية"، و لا الفلسفة
المثالية تعني "التعلق بالمثل العليا"، لا، ابدا! بل العكس هو الأصح!
الفلسفة المثالية هي فلسفة تزعم وجود فكر سابق على
المادة و خالق لها. أما المادية فهي لا تعترف إلا بالمادة، لا سابق لها
و لا خالق.