انحبس المطر في الأشهر القليلة الماضية ,وبات يطل كالضيف العزيز ..خجلا مترددا وكأنه يسقط للمرة الأولى..أوأنه يتعلم السقوط من جديد .
وأصبح كانون الذي من المفترض أن يكن المجنون في بيته به, مشمسا . حتى أن الأزهارقد خدعت وزهّّّّّّر الجربان باكرا ..وبدا وكأن الطبيعة تعاقبنا.
تمادينا في التعدي عليها ,وتلويثها واستنزاف مواردها بطريقة جائرة , تتفاجىء بالأرقام ,آلاف الأطنان من أكاسيد الكربون والغازات السامة تطلق في الجو(يتم ضخ ثلاثة أضعاف كمية ثنائي أكسيد الكربون أسرع مما يمكن للمحيطات واليابسة امتصاصه) نفايات نووية تدفن في البحار وفي الصحارى .
الأنهار لم تعد صافية ,بل أصبحت تشكل خطرا على الصحة العامة ,وبؤرا آسنة تتجمع وتحيا على أطرافها الحشرات المؤذية ,وتتصاعد منها الروائح الكريهة.
والينابيع تلوثت (نبع ديفة والدريكيش هذا العام) , والهواء ضاق بمخلفات آلاف السيارات والمعامل والمصافي والكسارات.
لم يبق إلا أن يفسد الملح ,وإذا فسد فبأي شيء نملح ..
-2-
في طفولتنا كان في القرية في أسفل الوادي نهر يمد في الشتاء ويقطع الطريق وكان صوت هدير مياهة يوقظ الناس ليلا .
كان بالإمكان رؤية مئات الأحجار البيضاء الملساء والمختلفة الأحجام تملأ مجرى نهر "القصب ".وكان يوجد على مجرى هذا النهر طاحون لبيت جدي تدار بقوة المياه المتدفقة .
أي نهر كان يمر هنا .. وأية قوة كانت لتلك المياه ..لكي تدحرج وتصقل تلك الجلاميد الصخرية..وتدير الطواحين وتنحت في الصخر دوارات ومسارب ,كانت مسابحنا الأولى .
وكان يوجد شلالا على ارتفاع ثلاثة أمتار والذي لم نكن نستطيع تحمل الوقوف تحت مياهة المنهمرة إلا لثوان.
وكل ذلك كان في بداية السبعينيات..
والآن ..لا يزال كل شيء كما كان ...الأحجار البيض والدوارات والمسارب الصخرية ...وحجر الطاحون الأسود الثقيل,لكن ليست هناك أية مياه تجري.
-3-
انتشر على الموبايل منذ مدة ,مقطع صغير لفيديو عنوانه :شبيح يمسك ضبع.
يظهر فيه صيادا يشرح كيف أمسك بالضبع الذي كان يطارد جقلا ..فأمسك هذا بالإثنين.
بدا الضبع وادعا مستكينا لمصيره ..ينقل نظراته اليائسه بين الصياد والرجل الذي يصوره .
ولا يبدو أنه هو ذلك الوحش ,الذي كان يأكل النساء ويرعب الرجال ويؤلف مادة خصبة لحكايات الليل, (من الحكايات التي تروى عنه , أنه يشل ضحيته إذا نظر مباشرة إليه وأنه يرافق الضحية , وينتظر غفلتها ليغدر بها ,وكان المثل يضرب بقوة فكه ,ويقال: ضبعة وعلّقت, وأنه يميز النساء عن الرجال ويفضل أن تكون الضحية امرأة , حتى أن بعض النساء كن يحملن سجائر إذا رغبن بالتنقل ليلا, وكن إذا أحسسن بالخطر يشعلن سيجارة (كم هي ثقيلة نون النسوة هذة) ..وبذا ينخدع الضبع ويظن أن القادم رجلا فيولي الأدبار..وربما كان ذلك من أسباب تعلم بعض النساء التدخين .
لقد أبدنا الغزلان وأوقعنا الطيور في الشراك وجرفنا السمك ..طوّبنا الجبال والأنهار والروابي والشواطىء البحرية ..وها نحن نمسك الآن بآخر ضبع في البرية.
-4-
عندما كنا نخرج لزيارة أحد الأصدقاء في أطراف جبلة أو نخرج للتنزه ,كنا نحسب حسابا لكلاب البدو والكلاب الشاردة حيث كانت تستقبلنا حتى قبل أن ترانا وتودعنا حتى بعد أن نجتازها بمسافة .
خرجت في نزهة قصيرة مصطحبا ابنتي الصغيرة إلى منطقة النقعة أو ما تبقى منها ,حيث تحولت الآن إلى ضواحي سكنية , ووصلنا إلى تجمع صغير للغنم ترعى على أطراف شوادر للبدو..
بدا الكلب حارس القطيع , متمددا مسترخيا تحت أشعة الشمس .وبجانبه صاحب القطيع .
كانت ابنتي سعيدة وهي ترى تلك الغنمات التي اعتادت رؤيتها على التلفزيون أو في الرسمات .
لكن لم ينبح الكلب..
,كان الشيخ البدوي ينكش التراب بقضيب طويل في يده بحركات عبثية ..
وكانت نظرته المتثاقلة تومي باتجاهه وهي تشي :حتى الكلاب لم تعد تنبح.!