آخر الأخبار

ثقافة الهزيمة

كان ابن خلدون ـ رحمه الله ـ أول من لفت إلى أن ثقافة الهزيمة لها لغة ومفردات ومصطلحات، تتجلى في ممارسات النخبة التي تكون عادة شديدة التماس مع كل ما هو فكري أو ثقافي أو سياسي. واعتبر التطبيع الثقافي من أبرز تجليات العلاقة بين الغالب والمغلوب ، سيما في مفردات الحياة اليومية: المأكل والمشرب والملبس، وطريقة الكلام والتفكير، والعقائد والفلسفات، وهي علاقة ليست حوارية مؤسسة على المثاقفة ، وإنما علاقة تبعية وتقليد وإذعان، وهي المحطة الأخيرة في سلسلة الانكساريات المتتالية أمام الغالب، التي تبدأ بالهزيمة العسكرية، لتنتهي بالتسليم بالهزيمة الثقافية. ويرجع ذلك ابن خلدون، إلى أن المغلوب عادة ما يعتقد الكمال في الغالب المنتصر .
بعد الحملة الفرنسية على مصر (1798 ـ 1801 ) ثم هزيمة أحمد عرابي (1841 ـ 1911 ) عسكريا و احتلال بريطانيا لمصر عام 1882، كانت بعض النخب السياسية والفكرية المصرية النشطة والمتنفذة في دوائر التأثير على الرأي العام، البيئة التي تلقت الهزيمة، ليس باعتبارها حدثا عدوانيا وإنما باعتبارها منحة إلهية ، تحمل البشارة بالانعتاق الثقافي من أسر ظلمات العصور الوسطى !!. وتدفقت التفسيرات التي عزت الهزيمة، إلى تمسك العرب والمسلمين - ليس بالتقاليد والأعراف الجاهلية الدخيلة على الإسلام- وإنما بمرجعيتهم الدينية، حتى وإن كانت في صيغتها النقية، باعتبارها شرا لا خير فيها لولوج الأمة آفاق النهضة. ولعلنا نتذكر ما كتبه قاسم أمين ( 1863 ـ 1908 )، في بداية القرن الماضي، عندما تساءل قائلا: هل يظن المصريون .. أن أولئك القوم ـ يقصد الأوربيين ـ بعد أن بلغوا من كمال العقل والشعور مبلغا مكنهم من اكتشاف قوة البخار والكهرباء، يتركون الحجاب بعد تمكنه عندهم لو رأوا فيه خيرا؟ كلا! ، وفي الوقت الذي كان فيه المصريون، يرسلون أطفالهم إلى المدارس القرآنية الكتاتيب لتلقي علوم القرآن، أحضر قاسم أمين لطفلته الأولى زينب مربية فرنسية وللثانية جلنس مربية إنجليزية، وهو مثل انتقيناه من المشهد الثقافي المصري آنذاك، الذي كان في سبيله إلى تدشين أكبر عملية لتغيير هويته الحضارية، لتماثل في معمارها الثقافي والحضاري، ثقافة وحضارة الغالب المنتصر، حتى بات شعار عميد الأدب العربي طه حسين (1889 ـ 1973 )، في مؤلفه الشهير مستقبل الثقافة في مصر .. هو أن نحذو حذو أوربا في حلوها ومرها، خيرها وشرها .
وفي وسط هذا المناخ المكتظ بمشاعر الهزيمة الحضارية أمام الغرب، بات الخطاب السياسي والثقافي العربي، مصدرا يقذف العقل العربي، بحممه الاصطلاحية، والتي كانت في حينها جديدة على الرأي العام، مثل الوطنية القومية (بتجلياتها المختلفة: الأشورية، البابلية، الفرعونية، الفينيقية)، والتنوير .. إلخ. ولم تكن محض مصطلحات وإنما كانت دعوات وحركات وأحزابا وروابط، استقت مفاهيمها ورؤاها من منطلق محاكاة أوربا باعتبارها مركز العالم وقبلته في ذلك الوقت، واعتقادا بان التاريخ قد اكتمل، وبلغ نهايته بانتصار النموذج الأوروبي بأسسه المادية على حضارة الشرق الروحية. ما يعني أن تلك المصطلحات والدعوات، كانت في حقيقتها إحدى تجليات الشعور بالدونية، و التسليم بالهزيمة الحضارية أمام الغرب، فالتنوير لغة وحركة وسياقا تاريخيا، صناعة باريسية، اخترعته باريس المنتصرة على العالم العربي، التي دكت جيوشها قاهرة المعز عام 1798، وبالت خيولها و جنودها في باحة الأزهر الشريف، واحتلت عددا من الدول العربية. وعلى الجانب العربي كان عنوانا كبيرا من عناوين ثقافة الهزيمة، إذ كان في صيغته العربية، حركة اقصائية، لم تكتف بالتطبيع الثقافي مع الغرب، و إنما تجاوزت ذلك إلى ما هو أبعد، حيث دعت إلى إقصاء الثقافة العربية لصالح الثقافة الغربية، بحيث يحل فولتير، روسو ومنتسيكيو، محل ابن رشد وسيبويه والشافعي وعبد القاهر الجرجاني!!. فالتنوير الذي طرح آنذاك ـ ولا يزال حتى الآن حيا بالأتباع والمريدين ـ كان مؤسسا على المحاكاة وليس على الإبداع ، والمسافة بين الأولى والثانية، تعادل الفارق بين التبعية و الاستقلال . ولما كانت ثقافة الهزيمة، تستند في التنظير لمشروعيتها على نزعة استغلالية، تستغل حالة الشعور العام بفقدان الثقة في قدرة الأمة على الصمود وتجاوز المحنة أو إعادة إحيائها من جديد، فإنها تؤسس لحضورها -
في واقع لم يألف هذا الحضور من قبل- على إحداثيات عدة، أهمها المراوغة والتبرير والتشهير والإرهاب، إنها لا تستطيع محاججة ثقافة المقاومة إلا من خلال هذه الأبعاد الرخيصة : فالدعوة إلى الوطنية بمضمونها الانعزالي المغلق، استغلت تحمل الشعوب العربية أعباء سداد فاتورة المواجهات العسكرية العربية في حروب التحرير من الاستعمار في القرنين: التاسع عشر وأوائل العشرين أولا ثم مع إسرائيل لاحقا، لتجد مبرراتها في الاتكاء على مبدأ المصلحة ، إذ جعلت من الأخيرة معيارها الأساسي في تأطير شكل ومضمون وشرعية العلاقة مع العالم بما فيه العالم العربي والإسلامي، بتنويعاتها المختلفة ابتداء من التنصل من أي نص دستوري يشير ضمنا أو صراحة إلى الانتماء العربي، وصولا إلى رفض أي شكل من أشكال المساندة المباشرة أو الغير مباشرة للشعوب العربية أو الإسلامية في كفاحها ضد ما يتهددها من أخطار.
إن الوطنية على هذا النحو المتطرف، كانت تطبيعا مع المخطط الغربي، الرامي إلى تفتيت العالم العربي، وتوزيعه إلى مناطق نفوذ بين القوى التي هزمته عسكريا من جهة، وتنصلا من أعباء المقاومة وانتصارا لثقافة الهزيمة من جهة أخرى. ولما كانت ثقافة الهزيمة، تعتمد على لغة مراوغة، وتفتقر في الوقت ذاته إلى منطق التاريخ و الحق والجغرافيا، فضلا عن أنها سليلة سياق تاريخي غريب وطارئ، فإنه سريعا ما تتبدى قامتها القزمية، أمام منطق الحق الحاضن لحركات وثقافة المقاومة، ما يجعلها دعوة تغريرية ، تغرر بأصحابها لاعتماد خطاب دعائي عصبي يعتمد على التشهير بالخصوم و إرهابهم واغتيالهم فكريا ومعنويا: فكل من عارض التنوير بصيغته الانهزامية، فهو ظلامي.. رجعي .. متخلف !!. و من انتقد الوطنية في تقوقعها نحو الداخل، فهو عميل لهذا النظام أو لذاك !!
ولئن كانت ثقافة الهزيمة ـ التي تتمثلها النخبة في دول الهامش ـ هي وليدة أوضاع دولية، تستأثر فيها قوة وحيدة بالسيطرة على العالم عسكريا وسياسيا و اقتصاديا وثقافيا (لاحظ فتور ثقافة الهزيمة في العالم العربي خلال الحرب الباردة ووجود قوتين تتنازعان الهيمنة على العالم )، فإنها تتبدل مصطلحاتها و تتلون مسمياتها، وفقا للخصوصية الثقافية والحضارية، لتلك القوة الوحيدة، التي رشحتها الشروط التاريخية في حينها، للهيمنة المباشرة أو غير المباشرة على العالم: فالعصر الإمبريالي الذي مثلت باريس و لندن معا ـ في القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين ـ سنامه وقوامه الأساسي، كانت له مصطلحاته، الفرعية ـ والتي ظهرت في العالم العربي وفي غيره أيضا ـ سواء في جانبها السياسي (مثل القومية والوطنية ) أو في جانبها الفكري (مثل التنوير والعلمانية)، داخل إطار اصطلاحي أوسع يعكس الخصائص الكونية لثقافة الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية مثل : الفرانكفونية و الانجلوسكسونية ، وعلى الرغم من أنها اصطلاحات أفرزتها تداعيات هزيمة العالم العربي عسكريا، إلا أن النخبة لم تخف سعادتها بانتمائها لهذه الثقافة أو لتلك ، حتى أن طه حسين لم يتحرج من التباهي بـ فرنكفونيته وكذلك عباس محمود العقاد لم يخف سعادته بـ انجلوسكسونيته .
بيد أن ثقافة الهزيمة بدلت مصطلحاتها، بعد أن حلت الولايات المتحدة محل أوروبا لزعامة العالم عقب نهاية الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن الماضي، ثم اختفاء الاتحاد السوفيتي في مطلع تسعينياته، واستبدل المثقفون العرب مفاهيم التنوير والحداثة والبنيوية الباريسية ( ثقافة الغالب القديم ) بـنظريات ما بعد الحداثة و التفكيكية الأمريكية (ثقافة الغالب الجديد)، بكل تجلياتها الانهزامية، إذ تراجعت الصرامة في قداسة الحدود السياسية و السيادة الوطنية للدول، لصالح مفهوم العالم ـ القرية ، واستبدال الإنسان الأيديولوجي بـ الإنسان الهلامي ، والتسليم بالعولمة (= أمركة العالم)، ليس باعتبارها حالة طارئة فرضها منطق القوة والتفوق التقني، وإنما باعتبارها، وعلى نحو ما ذهب إليه فوكوياما ، المحطة الأخيرة والنهائية في مسيرة التطور الإنساني، ولعل ذلك هو أصل محنة العالم العربي، إذ إنه يستقبل ما ينتجه الغالب ـ المنتصر من مصطلحات ومفاهيم تكون عادة مستبطنة تفوقه واستعلائه الحضاري من جهة، وانتصاره العسكري من جهة أخرى، ثم تستهلكها النخب الفكرية والسياسية العربية، باعتبارها استجابة طبيعية لـ الواقعية السياسية أو لـ العقلانية الفكرية ، رغم أن استهلاكها على هذا النحو الذي لا يقبل مراجعة و يغالي في قداستها، هو في واقع الحال عمل بالوكالة عن المنتصر لتجميل الهزيمة ودغدغة مشاعر المهزومين، ولعل اخطر ما في هذه الظاهرة، إنها ـ بتواتر تداولها في النصوص السياسية و الفكرية العربية ـ قد تكتسب في الضمير والوجدان الجمعيين قيمتها الواقعية، وربما تمسي بمضي الوقت ـ وهذا هو الأخطر ـ جزءا أصيلا من ثقافتنا الوطنية.