آخر الأخبار

تصورنا عن الكون

ستيفين هوكنج


في محاضرة عامة عن علم الفلك ألقاها أحد العلماء المشهورين (البعض يقول إنه برتراند راسل) وصف هذا العالم كيف أن الأرض تدور حول الشمس. وكيف أن الشمس بدورها تدور حول محور مجموعة كبيرة من النجوم المسماة مجرتنا. في نهاية المحاضرة نهضت سيدة عجوز في آخر القاعة وقالت: " ليس ما قلته لنا سوى هراء. العالم في حقيقته هو صفيحة مسطحة مرتكزة على ظهر سلحفاة عملاقة". ابتسم العالم ابتسامة كبيرة وسألها: "وعلى ماذا تقف السلحفاة؟" أجابته العجوز: "أنت ذكي جدا أيها الشاب، لكنها سلاحف تتلاحق حتى تصل إلى الأسفل!". قد يجد معظم الناس ان من السخف تصور الكون وكأنه برج غير متناه من السلاحف، ولكن لماذا نعتقد أن معرفتنا أفضل؟ ما الذي نعرفه عن الكون وكيف؟ من أين جاء الكون والى أين هو ذاهب؟ هل كان للكون بداية، وإن كان كذلك، ما الذي كان قبل تلك البداية؟ ما هي طبيعة الزمن؟ هل له نهاية؟ إن آخر مكتشفات الفيزياء، والتي أصبحت ممكنة بفضل التكنولوجيا الحديثة، تقترح إجابات لبعض من هذه الأسئلة، ويوماً ما ستصبح هذه الإجابات بديهية لنا مثل حقيقة دوران الأرض حول الشمس، أو ربما سخيفة مثل فكرة برج السلاحف. فقط إنه الزمن (بغض النظر عن ماهيته) الذي يستطيع التحديد. في كتابه "عن السماوات" (On the Heavens) استطاع الفيلسوف اليوناني أرسطو (340 ق.م.) أن يقدم اثنتين من المحاججات الداعمة لحقيقة أن الأرض هي كرة مستديرة أكثر منها سطحاً منبسطاً. فقد أدرك أولاً أن كسوف القمر هو عبارة عن وضعية وجود الأرض أرض بين الشمس والقمر. إن خيال الأرض المنطبع على سطح القمر كان دائماً مستديراً، الأمر الذي لا يمكنه أن يكون صحيحاً إلا إذا كانت الأرض كروية. فلو كانت الأرض مسطحة لكان خيالها مطولا واهليلجياً[1]، إلا إذا كان الكسوف يحدث دائماً في الوقت الذي تكون فيه الشمس عمودية على مركز الأرض. ثانياً، لقد عرف اليونان من خلال رحلاتهم أن النجم الشمالي يظهر، حين النظر إليه من الجنوب، أقرب (أقل ارتفاعاً) منه حين النظر إليه من المناطق الشمالية. (بما أن موقع النجم الشمالي هو فوق القطب الشمالي، فهو يظهر وكأنه تماماً فوق الناظر إليه في القطب الشمالي، لكن بالنسبة لناظر إليه من خط الاستواء، فيظهر وكأنه عند الأفق). ومن الاختلاف بين الموقعين المرئيين للنجم الشمالي من مصر ومن اليونان، فقد قدر أرسطو المسافة المحيطة بالأرض بــ 400 ألف ستاديا[2]. ورغم انه لم يكن معروفاً على وجه الدقة ما هو طول الستاديا، إلا انه يمكن تقديره بحوالي 200 ياردةً، الأمر الذي يجعل حساب أرسطو حوالي ضعف الحساب المتعارف عليه حالياً. إضافة إلى ذلك، فقد قدم اليونان محاججة ثالثة تدعم فكرة كروية الأرض: فالأرض لا بد لها أن تكون مستديرة، وإلا فلماذا نرى أولاً شراع السفينة الآتية من الأفق، ونرى هيكلها فقط بعد ذلك؟ اعتقد أرسطو أن الأرض ساكنة وأن الشمس، القمر، الكواكب والنجوم تتحرك في مسارات دائرية حول الأرض. لقد اعتقد ذلك لأنه أحس، لأسباب غامضة، أن الأرض هي مركز الكون وأن الحركة الدائرية هي الحركة المثالية. هذه الفكرة طورها بطليموس في القرن الثاني لتصبح نموذجاً كونياً كاملاً. فالأرض تقع في المركز محاطة بثمانية مسارات دائرية للقمر، الشمس، النجوم، والخمسة كواكب التي كانت معروفة في حينه: عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل (الشكل 1). وتتحرك هذه الكواكب على دوائر أصغر تتصل بمساراتها الخاصة وذلك حتى يتم حساب حركتها المعقدة في السماء. والدوائر الخارجية تحمل ما يسمى النجوم الثابتة، والتي تبقى في أماكنها بالنسبة لبعضها البعض ولكنها تدور معاً عبر السماء. ماذا كان يوجد خلف آخر دائرة؟ أبداً لم يكن واضحاً لكنه حتماً لم يكن جزءاً من كون الإنسان المدرَك. شكل 1 لقد وفرَّ نموذج بطليموس نظاماً دقيقاً للتنبؤ بمواقع الأجسام السماوية في السماء.ولكن لغرض التنبؤ الصحيح بهذه المواقع، كان على بطليموس أن يفترض أن القمر يتبع مساراً يجعله أحياناً أقرب إلى الأرض ضعف المرات الأخرى، مما يجعل القمر يبدو في بعض الأحيان أكبر من حجمه بمقدار الضعف! ورغم أن بطليموس أدرك هذا الخلل، إلا أن نموذجه كان بصفة عامة، وإن لم يكن دائماً، مقبولاً. وقد تم تبنيه من قبل الكنيسة الكاثوليكية على انه صورة للكون تتوافق مع الكتاب المقدس حيث ان لديه الامتياز الكبير في انه ترك مساحة كبيرة خارج دائرة النجوم الثابتة للجنة والنار. وفي عام 1514 تم تقديم نموذج أبسط من قبل الكاهن البولندي نيكولاس كوبرنيكوس (Nicholas Copernicus). (في البداية، وربما بسبب الخوف من أن يوسم بالهرطقة من قبل الكنيسة، نشر كوبرنيكوس نموذجه دون تعريف باسمه). فكرته كانت أن الشمس ساكنة في المركز وأن الأرض والكواكب تتحرك حولها بمسارات دائرية. ومرّ ما يقارب القرن قبل أن أُخذت فكرته بجدية . ثم جاء بعد ذلك عالما الفلك: الألماني يوهانز كبلر (Johannes Kepler)، والإيطالي جاليليو جاليلي (Galilio Galilei)، وبدءا علناً بتأييد النظرية الكوبيرنيكية، رغم حقيقة أن المدارات التي تنبأ بها لا تطابق تلك المرصودة. وجاءت الضربة القاضية للنظرية الأرسطية-البطليمية في عام 1609. في تلك السنة بدأ جاليليو بمراقبة السماء ليلاً بتلسكوب تم اختراعه حديثاً. وعندما شاهد جاليليو كوكب المشتري وجد أن عدة توابع أو أقمار ترافقه وتدور حوله. هذا يتضمن أن الأشياء ليس ضرورة أن تدور حول الأرض كما اعتقد ارسطو وبطليموس. (بالطبع، كان ما زال بالإمكان الاعتقاد بأن الأرض هي في مركز الكون وأن أقمار المشتري تتحرك في مسارات معقدة حول الأرض بحيث تظهر وكأنها تدور حول المشتري. لكن نظرية كوبيرنيكوس كانت أكثر سهولة). وفي نفس الوقت عدل كبلر نظرية كوبيرنيكوس حين اقترح أن الكواكب تتحرك ليس بشكل دوائر وإنما بشكل اهليلجي والآن أصبحت التنبؤات تطابق ما تم رصده. بالقدر الذي كان كبلر مساهماً، كانت المدارات الاهليلجية مجرد نظرية منشأة لغرض خاص، وحتى إنها كانت غير محببة لأنه كان من الواضح ان الاهليلجات أقل كمالاً من الدوائر. فعند اكتشافه، عن طريق الصدفة تقريباً، ان المدارات الاهليلجية تتوافق وملاحظاته، لم يستطع أن يوفق بين هذا الاكتشاف وبين فكرته القائلة إن الكواكب موجودة لتدور حول الشمس بقوى مغناطيسية، وقد جاء التفسير لهذه الظاهرة بعد ذلك بفترة طويلة في عام 1687، حين أصدر السير اسحق نيوتن كتابه عن فلسفة الرياضيات الطبيعية ومبادئها (Philosophiae Naturalis Principia Mathematica) والذي ربما يكون أهم عمل فردي أصدر في العلوم الفيزيائية. لم يقدم نيوتن في كتابه هذا نظرية يشرح فيها حركة الأجسام في المكان والزمان فحسب، ولكنه أيضاً طور المعادلات اللازمة لتحليل هذه التحركات. إضافة لذلك فقد أوجد نيوتن قانون الجاذبية العام الذي يكون بموجبه كل جسم في الكون منجذباً لكل جسم آخر بقوة تزداد بازدياد كتل الأجسام وبازدياد اقترابها من بعضها البعض. هذه القوى هي نفسها التي تسبب سقوط الأجسام على الأرض. (والقصة التي تقول إن نيوتن قد ألهم من تفاحة سقطت على رأسه مشكوك في صحتها، فكل ما قاله نيوتن هو إن "فكرة الجاذبية جاءت إليه وهو جالس يتأمل وتزامن ذلك مع سقوط تفاحة"). وتابع نيوتن بحثه ليثبت، حسب قانونه، إن الجاذبية هي التي تجعل القمر يتحرك في مدار اهليلجي حول الأرض، وتسبب أيضاً دوران الأرض والكواكب حول الشمس في مدار اهليلجي. لقد استطاع النموذج الكوبيرنيكي ان يتخلص من فكرة الدوائر السماوية البطليموسية ومعها فكرة أن للكون حدوده الطبيعية.
ولأنه لم يظهر أن "النجوم الثابتة" تغير مواقعها، باستثناء دورتها عبر السماء والتي تنبع عن دوران الأرض حول محورها، فقد أصبح من الطبيعي الافتراض بأن النجوم الثابتة هي أجسام تشبه الشمس لكنها أبعد بكثير. تبين لنيوتن، حسب نظريته للجاذبية، أنه لا بد للنجوم من أن تتجاذب مع بعضها البعض، ولذا لا يمكنها أن تبقى بدون حركة. ألن تسقط جميعها في لحظة ما؟ وفي رسالة بعثها نيوتن إلى ريتشارد بنتلي (Richard Bentley)، أحد رواد الفكر في عصره، عام 1691، جادل نيوتن أن ذلك لن يحدث إلا إذا كان هناك عدد منتهي من النجوم موزعة على منطقة محدودة في الفضاء. إلا أنه تبعاً للمنطق من ناحية أخرى، فبوجود عدد غير منتهي من النجوم الموزعة بانتظام في فضاء لا متناه، لن يسقط أي نجم، وذلك لعدم وجود أية نقطة مركزية لسقوط النجوم فيها. يعتبر هذا الجدال مثالاً للشراك التي من الممكن ان يواجهها الشخص عند حديثه عن اللامنتهي، ففي كونٍ لا نهائي يمكن اعتبار أية نقطةٍ نقطةً مركزية لأن كل نقطة لها عدد غير منتهي من النجوم على جوانبها. وفقط بعد مرور الكثير من الوقت، تبين أن التوجه الصحيح يكمن في اعتبار وضع نهائي حيث تصطف النجوم فوق بعضها البعض. ومن ثم الإجابة على السؤال: كيف يمكن للأمور أن تتغير في حالة إضافة مفاجئة لنجوم موزعة بشكل منتظم خارج تلك المنطقة؟ حسب قانون نيوتن، فإن النجوم الإضافية لن تؤثر بشكل عام على النجوم الأصلية وإنما ستتساقط بنفس السرعة.فنحن نستطيع إضافة أي عدد من النجوم نريده ولكنها جميعاً ستنهار وستضمحل. ونعلم الآن انه من المستحيل الحصول على نموذج ساكن ولا نهائي لكونٍ تقوم فيه الجاذبية دائماً بجذب ما حولها. انه انعكاس شيق للأجواء العامة للتفكير السائد قبل القرن العشرين كيف ان أحداً لم يقترح أن الكون يتوسع أو يتقلص. لقد كان مقبولاً وصف الكون بإحدى صفتين؛ إما انه موجود للأبد على حالة دون أن يطرأ عليه أي تغيير أو أنه خلق في وقت محدد في الماضي على حال يشبه ما هو عليه الآن. ويعزى هذا إلى ميل الناس إلى الإيمان بالحقائق المطلقة وإلى احتياجهم لفكرة انه رغم حقيقة تقدمهم في السن وفنائهم، فإن الكون ابدي وغير متغير. حتى هؤلاء الذين أدركوا أن نظرية نيوتن في الجاذبية تظهر أن الكون لا يمكنه أن يكون ساكناً، لم يفكروا في اقتراح إمكانية توسع الكون. بالمقابل فقد حاولوا تعديل النظرية بحيث تتحول قوى الجذب إلى قوى تنافر في المسافات البعيدة. ولم يؤثر ذلك بشكل ملحوظ على تنبؤاتهم حول حركة الكواكب، لكنه سمح بتوزيع لا نهائي للنجوم بحيث تبقى في حالة توازن، توازن قوى الجذب من النجوم القريبة مع قوى التنافر من النجوم البعيدة.لكننا الآن نعرف أن مثل هذا التوازن غير مستقر؛ ففي حال اقتراب النجوم قليلاً من بعضها البعض، فان قوى الجذب ستصبح أقوى وتهيمن على قوى التنافر بحيث تستمر النجوم في السقوط باتجاه بعضها البعض. ومن الناحية الأخرى، فلو ابتعدت النجوم عن بعضها البعض قليلاً، فعندها ستطغى قوى التنافر وستبعدها أكثر وأكثر. اعتراض آخر ضد سكون ولا نهائية الكون ينسب إلى الفيلسوف الألماني هينريخ أولبرس (Heinrich Olbers) الذي كتب حول هذه النظرية عام 1823. في الحقيقة، إن عدداً من معاصري نيوتن قد أثاروا المشكلة ولم تكن مقالة اولبرس هي الأولى التي احتوت على جدالات معارضة معقولة، لكنها كانت الأولى التي أحرزت اهتماماً واسعاً. إن الصعوبة في سكون ولا نهائية الكون هو أن كل خط رؤية تقريبا سينتهي على سطح أحد النجوم، وبالتالي يتوقع الفرد أن تكون السماء جميعها مضيئة كالشمس حتى في الليل. أما فكرة اولبرس المقابلة، فكانت تقول إن الضوء المنبعث من النجوم البعيدة يخفت نتيجة امتصاصه من قبل مواد عازلة. ولكن إذا حدث هذا فإن هذه المواد العازلة ستسخن حتى تتوهج وتضيء كالنجوم. إن الطريقة الوحيدة لتجنب الاستنتاج أن كل سماء الليل يجب أن تكون مضيئة هي الافتراض بأن النجوم لم تكن مشعة منذ الأزل بل إنها بدأت تضيء في وقت محدد في الماضي. وفي هذه الحالة فإن المواد الممتصة إما أنها لم تسخن بعد أو أن ضوء النجوم البعيدة لم يصلنا بعد. هذا يوصلنا إلى السؤال حول الأسباب التي أدت إلى إضاءة النجوم في المقام الأول. بالطبع، إن بداية الكون قد تم نقاشها قبل ذلك بوقت طويل. فحسب آراء عدد من الفلكيين السابقين، والتقاليد اليهودية والمسيحية والإسلامية، فإن الكون بدا في زمان محدد ليس بالبعيد. إحدى الحجج لمثل هذه البداية هي الشعور بأهمية وجود "السبب الأول" لتفسير وجود الكون. (ضمن نطاق الكون، فإننا نفسر الحدث كمسبب من حدث سابق. إلا أن وجود الكون نفسه يمكن تفسيره بهذه الطريقة فقط إذا كانت له بدايات). حجة أخرى وضعها القديس اغسطين (St. Augustine) في كتابه "مدنية الله" حيث أشار إلى أن الحضارة هي تطور، ونحن نتذكر من أنجز عملاً ما أو من طور آلية ما، ولذا فقد يكون ان الإنسان وربما أيضاً الكون لم يوجدا من فترة طويلة. وقد قبل القديس اغسطين بـــ 5000 سنة تقريباً قبل الميلاد كتاريخ لخلق الكون وذلك حسب "سفر التكوين". (من الجدير ذكره أن هذا التقدير ليس بعيداً جداً عن نهاية العصر الجليدي حوالي 10.000 سنة ق.م.، وهو التاريخ الذي يحدده الجيولوجيون كبداية فعلية لحضارتنا.) أما بالنسبة إلى أرسطو وإلى معظم الفلاسفة الإغريق، فلم تعجبهم كثيراً فكرة الخلق التي يميزها كثير من التدخل الإلهي. فهم يؤمنون بأن الجنس البشري والعالم من حوله وجدا ويستمران في الوجود إلى الأبد. فقد درس القدماء فكرة التطور المذكورة سابقاً وكانت إجاباتهم تتلخص بالإشارة إلى الفيضانات المتكررة أو الكوارث المتعددة والتي تعيد باستمرار الجنس البشري إلى بدايات الحضارة. لقد عالج الفيلسوف عمانوئيل كانط (Immanuel Kant) بإسهاب الأسئلة حول بدايات الكون في زمن معين، وما إذا كان الكون محدوداً في مساحته. وذلك في كتابه الهام (والغامض أيضاً) "نقد العقل الخالص" الذي نشر عام 1781. وقد سمى كانط هذه الأسئلة بتناقضات (antinomies) العقل الخالص لأنه شعر بأنه يوجد قدر متساوٍ من الحجج لدعم نظرية أن للكون بداية والنظرية المعاكسة القائلة بأن الكون قد وجد منذ الأزل. حجته الداعمة للنظرية هي أنه لو لم يكن للكون بداية فسيكون هناك فترة لا نهائية من الزمن قبل أي حدث، وهذا اعتبره أمرا سخيفا. أما حجته الداعمة للنظرية المعاكسة فهي أنه إن لم يكن للكون بداية فيتطلب ذلك فترة زمنية لا نهائية قبل بداية الكون. فلماذا إذا يجب أن يبدأ الكون في زمن محدد؟ في الحقيقة، إن ما يقوله كانط كدعم للنظرية وللنظرية المعاكسة إنما هو حجة واحدة. فكلاهما يعتمدان على افتراض لم يفصح عنه مفاده أن الزمن مستمر في المسير خلفاً إلى الأبد سواء وجد الكون من الأزل أو لم يوجد. وكما سنرى فإن مفهوم الزمن ليس له معنى قبل بداية الكون. هذا ما وضحه القديس اغسطين عندما سئل: ماذا كان يفعل الله قبل خلق الكون؟ لم يجب القديس اغسطين: انه كان يجهز جهنم لمن يسأل مثل هذه الأسئلة، وإنما أجاب بأن الزمن هو ميزة من ميزات الكون الذي خلقه الله وأن الزمن لم يوجد قبل بداية الكون. عندما كان معظم الناس يؤمنون بأن الكون ساكن وغير متغير، وكان السؤال حول بداية الكون سؤالاً ميتافيزيقياً أو لاهوتياً. ونستطيع تفسير ما نراه بشكل جيد سواء اعتقدنا بنظرية وجود الكون منذ الأزل أو بنظرية أن الكون قد بدأ في زمن محدد ويبدو كأنه وجد منذ الأزل. لكن في عام 1929 لاحظ إدوين هابل (Edwin Hubble) أن المجرات البعيدة، كيفما تنظر إليها تجدها تبتعد بسرعة عن كوكبنا. وبكلمات أخرى: إن الكون يتوسع. وهذا يعني أنه في أوقات سابقة كانت جميع الأجسام مركزة في مكان واحد. وفي الحقيقة، يبدو أنه في وقت ما، قبل عشرة أو عشرين ألف مليون سنة، كانت جميع الأجسام في نفس المكان، وبالتالي كانت كثافة الكون لا نهائية. إن هذا الاكتشاف أدى إلى انتقال السؤال حول بداية الكون إلى حقل العلوم. إن مشاهدات هابل أدت إلى اقتراح وجود زمن اسمه "الانفجار الكبير" (Big Bang) الذي كان فيه الكون لا متناهياً في الصغر وكثافته عالية إلى ما لا نهاية. في هذه الظروف تنهار جميع قوانين العلوم، وتنهار بالتالي جميع الإمكانيات للتنبؤ بالمستقبل. وإذا كان هناك أحداث قبل ذلك الوقت، فإنها لا تستطيع أن تؤثر على ما يحدث في الوقت الحاضر. ويمكن إهمال وجودها لأنه لا يوجد له تبعات يمكن ملاحظتها. ويمكننا القول بأن الزمن بدأ عند الانفجار الكبير، بمعنى أن الزمن السابق لذلك لا يمكن تعريفه. ويجب التشديد هنا على أن هذه البداية في الزمن تختلف كثيراً عن تلك التي درست سابقاً. ففي كونٍ لا يتغير، البداية في الزمن هي أمر يجب فرضه من قبل أحد أو شيء خارج نطاق هذا الكون لأنه لا يوجد للبداية ضرورة فيزيائية ونستطيع تخيل أن الله خلق الكون في أي زمن في الماضي. من جهة أخرى، إذا كان الكون يتسع، فيمكن وجود أسباب فيزيائية لضرورة وجود بداية. ويستطيع المرء أن يتخيل أن الله خلق الكون في نفس لحظة الانفجار الكبير، أو حتى بعد ذلك الانفجار بحيث يجعله يبدو كأنه كان هناك انفجار كبير. أما افتراض بدء الكون قبل هذا الانفجار فهو أمر لا معنى له. إن حقيقة أن الكون يتوسع لا تلغي وجود خالق، إلا أنها تحدد الوقت الذي يمكن ان يكون قد بدأ مهمته فيه! من أجل التحدث عن طبيعة الكون ومناقشة أسئلة حول بدايته أو نهايته، يجب أولاً توضيح معنى النظرية العلمية. سأتبنى الرؤية البسيطة القائلة ان النظرية هي عبارة عن نموذج للكون أو لجزء محدد منه، ومجموعة من القوانين التي تربط كميات معينة في النموذج مع ملاحظاتنا حول الكون. والنظرية العلمية توجد فقط في عقولنا وليس لها أي وجود حقيقي آخر(مهما كان ذلك يعني). والنظرية تعتبر نظرية جيدة إذا أوفت بشرطين: يجب أن تصف وصفاً دقيقاً مجموعة كبيرة من الملاحظات على أساس نموذج يحتوي عددا قليلا من العناصر الاعتباطية (arbitrary)[3]؛ ويجب أيضا أن تتنبأ بشكل دقيق بنتائج الملاحظات المستقبلية. على سبيل المثال، إن نظرية ارسطو التي تفترض أن جميع الأشياء مكونة من أربعة عناصر هي التراب والهواء والماء والنار كانت بسيطة لدرجة تؤهلها لتكون نظرية جيدة، لكنها لم تخرج باستنتاجات محددة. من جهة أخرى، فإن نظرية نيوتن في الجاذبية اعتمدت على نموذج أبسط وهو أن الأجسام تتجاذب مع بعضها البعض بقوى تتناسب طردياً مع الكتلة وتتناسب عكسياً مع مربع المسافة بينها. ومع ذلك فإن نظريته تنبأت بحركة الشمس والقمر والكواكب بدرجة عالية من الدقة. إن أية نظرية فيزيائية تعتبر شرطية، بمعنى أنها مجرد فرضية: أي لا يمكن إثباتها أبداً. فمهما كان عدد المرات التي تتفق بها نتائج التجارب مع النظرية، فلا يمكننا التأكد من أن نتيجة التجربة القادمة لن تناقض النظرية. من ناحية أخرى نستطيع دحض نظرية في حالة تعارض ملاحظة واحدة مع تنبؤاتها. وكما أكد الفيلسوف المختص بفلسفة العلم كارل بوبر (Karl Popper)، فإن النظرية الجيدة هي التي تتميز بحقيقة أنها توصلنا إلى تنبؤات يمكن دحضها أو تخطيئها بالملاحظة، ففي كل مرة تتفق فيها نتائج تجربة جديدة مع تنبؤات النظرية، فإن النظرية تستمر في الوجود وتزداد ثقتنا بها، ولكن إذا تعارضت إحدى الملاحظات الجديدة مع النظرية، فيجب علينا التخلي عنها أو تعديلها. على الأقل هذا ما هو مفروض أن يحدث، ولكن يمكن دائماً التشكيك في قدرة الشخص الذي أجرى الملاحظة. ما يحدث عادة بالممارسة هو أن النظرية الجديدة المبتكرة تكون امتدادا للنظرية السابقة. على سبيل المثال، كشفت المراقبة الدقيقة لكوكب عطارد عن فرق بسيط بين حركة الكوكب وبين تنبؤات نظرية نيوتن في الجاذبية. وجاءت النظرية النسبية العامة لاينشتاين لتتنبأ بهذا الفرق الطفيف في الحركة عما تفترضه نظرية نيوتن. إن حقيقة أن تنبؤات اينشتاين طابقت ما لوحظ، بينما لم تطابقه نظرية نيوتن، يؤكد صحة النظرية الجديدة. ورغم ذلك فنحن نستخدم نظرية نيوتن في الحالات التي نتعامل معها دائماً. (كما أن استخدام نظرية نيوتن أبسط بكثير من استخدام نظرية اينشتاين!) إن هدف العلم النهائي هو إيجاد نظرية واحدة تصف الكون بأكمله. لكن النهج الذي يتبعه معظم العلماء هو فصل المشكلة إلى جزئين. أولاً: توجد القوانين التي تصف لنا التغير الذي يطرأ على الكون مع مرور الوقت. (فإذا عرفنا كيف يكون الكون في وقت ما، فإن هذه القوانين الفيزيائية تخبرنا كيف سيبدو الكون في أي وقت لاحق). ثانياً: هناك سؤال حول حالة الكون البدائية (الأولى).  يشعر بعض الناس أن العلم يجب أن يهتم بالجزء الأول فقط؛ فهُم يتركون السؤال حول حالة الكون الأولى للميتافيزياء أو للدين. وما يقولونه إن الله، لكونه كلي القدرة، يستطيع أن يوجد الكون بأي طريقة يريدها. قد يكون هذا صحيحاً، ولكن في هذه الحالة أيضاً يستطيع أن يجعل الكون يتطور بطريقة كلياً عشوائية. ويبدو أن الله اختار أن يتطور الكون بطريقة منظمة وحسب قوانين معينة، ولهذا السبب يبدو الأمر منطقياً إذا افترضنا أن هناك قوانين تحكم الحالة الأولى. يتضح أنه من الصعب جداً إيجاد نظرية تصف الكون كله دفعة واحدة. وعوضاً عن ذلك، نلجأ إلى تقسيم المشكلة إلى أجزاء ونخترع عدداً من النظريات الجزئية. كل واحدة من هذه النظريات الجزئية تصف أو تتنبأ بمجموعة محددة من الملاحظات مهملةً آثار كتل أخرى عليها، أو أنها تمثلها بمجموعة بسيطة من الأرقام. يمكن أن يكون هذا النهج خاطئاً تماماً. فإذا كان شيء في الكون يعتمد على كل شيء بشكل أساسي. فقد يكون مستحيلاً التوصل إلى حل متكامل عن طريق البحث في أجزاء منفصلة من المشكلة. وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت تلك بالتأكيد، هي الطريقة التي حققنا من خلالها التقدم في الماضي. والمثال النموذجي مرة أخرى هو نظرية نيوتن في الجاذبية التي تنص على وجود قوى جذب بين كل جسمين يعتمد فقط على عدد واحد مرتبط بكل جسم وهو كتلة هذا الجسم التي تعتبر مستقلة عن المادة التي صنع منها. ورغم ذلك لا يتوجب علينا أيجاد نظرية لتركيب وتكوين الشمس والكواكب حتى نتمكن من حساب مداراتها. اليوم يصف العلماء الكون بواسطة نظريتين جزئيتين أساسيتين: النظرية النسبية العامة (general theory of relativity) ونظرية الميكانيكا الكوانتية (quantum mechanics). هاتان النظريتان تعتبران من أعظم الإنجازات الفكرية التي تمت في النصف الأول من هذا القرن. ان النظرية النسبية العامة تصف قوى الجاذبية والتركيب الواسع للكون، أي تركيب حجم الكون المرئي ابتداء من أميال قليلة وحتى مليون مليون مليون مليون ميل (1 وأمامه 24 صفراً). أما الميكانيكا الكوانتية بالمقابل فهي تتعامل مع ظواهر على مستويات غاية في الصغر مثل واحد في المليون من واحد في المليون من الانش. لكن لسوء الحظ، فإن هاتين النظريتين لا تتناسبان مع بعضهما البعض ولا تستطيعان أن تكونا صحيحتين في وقت واحد. فمن أهم ما يشغل علماء الفيزياء اليوم، وهو أيضا المبحث الأساسي لهذا الكتاب، هو البحث عن نظرية جديدة تجمع بين النظريتين- نظرية كوانتية للجاذبية. ليس لدينا بعد مثل هذه النظرية وقد نكون بعيدين جداً عن إيجاد مثل هذه النظرية، ولكننا على علم بكثير من الصفات التي يجب أن تتألف منها هذه النظرية. وسنرى في فصول لاحقة أننا نعلم قدراً لا بأس به من التنبؤات التي يجب أن تؤدي إليها النظرية الكوانتية للجاذبية. إذا اعتقدنا الآن أن الكون ليس عشوائياً بل محكوم من قبل قوانين محددة فيجب علينا الجمع بين النظريات الجزئية بتشكيل نظرية موحدة متكاملة، تصف كل شيء في الكون. بيد ان هناك معضلة أساسية في إيجاد نظرية موحدة وشاملة من هذا النوع. إن الأفكار المقدمة أعلاه حول النظريات العلمية تفترض أننا بشر عقلانيون لدينا الحرية لمراقبة الكون كما نريد للتوصل إلى استنتاجات منطقية مما نراه حولنا.حسب هذه الخطة من المعقول جداً توقع أنه بالإمكان التقدم أكثر للتوصل إلى معرفة القوانين التي تحكم كوننا. وإذا ما وجدت حقاً تلك النظرية الموحدة المتكاملة فعلى الأرجح أنها ستحدد أعمالنا. وهكذا فإن النظرية نفسها ستحدد نتيجة البحث الذي نقوم به! ولماذا توصلنا النظرية إلى الاستنتاجات الصحيحة من الإثباتات المقدمة؟ ألا يمكن أن توصلنا، وبنفس الطريقة، إلى استنتاجات خاطئة؟ أو حتى تفضي بنا إلى عدم الوصول إلى أي استنتاجات؟ إن الإجابة الوحيدة التي أستطيع تقديمها لحل هذه المشكلة تعتمد على نظرية داروين (Darwin) في الانتخاب الطبيعي. الفكرة هي أنه في أي نسل يعيد إنتاج كائناته، يوجد تغييرات في المادة الجينية وتغييرات في تنشئه الأفراد المختلفين. هذه الاختلافات تعني أن بعض الأفراد سيكونون أفضل قدرة من غيرهم على التوصل لاستنتاجات صحيحة حول العالم من حولهم وان يتصرفوا حسب تلك الاستنتاجات. هؤلاء الأفراد سيكونون أقدر على البقاء والتكاثر حتى يسود نظام حياتهم وطريقة تفكيرهم. والصحيح أن ما كنا في الماضي ندعوه ذكاء واكتشافاً علمياً، قد أضاف ميزة جديدة للبقاء. ليس واضحاً إن كانت هذه هي القضية: اكتشافاتنا العلمية يمكنها جداً أن تدمرنا جميعاً، وحتى لو لم يكن الوضع كذلك فإن النظرية الموحدة المتكاملة قد لا تغير كثيراً من فرصنا في البقاء. وعلى أي حال، في حال أن الكون تطور بشكل منظم، يمكن أن نتوقع أن المنطقية التي زودنا بها الانتخاب الطبيعي قد تكون مفيدة في بحثنا عن النظرية الموحدة المتكاملة وبالتالي لن تقودنا إلى الاستنتاجات الخاطئة. وبسبب كون النظريات الجزئية المتوفرة حالياً كافية للتوصل إلى استنتاجات دقيقة في جميع الحالات باستثناء حالات خاصة، فإن عملية البحث عن النظرية النهائية للكون يصعب تبريرها على أسس علمية. (يجدر الذكر أن جدلاً مماثلاً كان يمكن سياقه ضد النظرية النسبية والنظرية الكوانتية، وأن هاتين النظريتين قدمتا لنا كلاً من الطاقة النووية والثورة المايكروالكترونية (microelectronics revolution) !) وعليه، فإن اكتشاف نظرية موحدة متكاملة قد لا يساعد في بقاء جنسنا، وحتى انها قد لا تؤثر في أسلوب حياتنا. ولكن ومنذ فجر الحضارة لم يستسغ الناس رؤية الأحداث غير مترابطة وغير قابلة للتفسير. وإنما شكلوا فهماً للنظام الذي يقوم عليه العالم. وما زلنا اليوم نتطلع لمعرفة لماذا نحن هنا، ومن أين أتينا. إن أعمق رغبة بشرية للمعرفة مبررة بشكل كاف لاستكمال رحلة البحث وهدفنا ليس غير

 

[1] الاهليلج هو الدائرة المطولة، أو الشكل البيضوي.[2] الستاديوم وجمعه ستاديا هو مقياس بعدي: شاخص مدرج يستخدم مع أداة مسامية لقياس الأبعاد.[3] غير مبرهن عليها.