1950: اغتيال العقيد محمد ناصر
بعد ان فشلت محاولة تعريض البلاد للاضطرابات حاول الاستعمار دفع الجيش للانقسام الطائفي فكان وراء اغتيال العقيد محمد ناصر آمر سلاح الطيران السوري، ولكن حادثة الاغتيال هذه سبقتها جريمة قتل غامضة في نادي الصفا.
كان نادي الصفا ناديا معروفا في دمشق، يقع في حي عرنوس في منزل شامي قديم له باحة تظللها الاشجار وتحيط بها احواض الاغراس والورود، وتمر بها ساقية قديمة متفرعة من نهر بردى لري بساتين تلك المنطقة وبيوتها.
بعد عصر يوم 2 تموز 1950، بينما كان احد خدم النادي ينظف الساقية من الحشائش فوجىء بوجود جثة امرأة موضوعة في كيس قنب ومرمية بالساقية، فأبلغ الحادث للشرطة.
ولم تهتم الصحف السورية بهذا الحادث كثيرا، ما عدا جريدة النصر التي أبدت اهتماما بالغا بالموضوع، وراحت تنشر على صفحاتها الاولى في كل يوم صورا وروايات تستثير بها الناس للمساعدة على كشف هوية المرأة المخنوقة المجهولة ومعرفة الفاعلين، وبعد ان نشرت الصورة الفوتوغرافية لوجه المرأة القتيلة، ثابرت الصحيفة على ملاحقة التحقيق خطوة خطوة، وذات ليلة، عندما عاد الاستاذ وديع الصيداوي صاحب الجريدة الى منزله رن عليه الجرس شخصان مسلحان وطلبا منه ان يخرج لمقابلة اديب العقاد رئيس الشعبة السياسية بالشرطة وحين رفض اعتديا عليه ثم تركاه واختطفا سائق سيارته، فضرباه ضربا مبرحا ثم هربا، وسرعان ما سرى الهمس بأن المكتب الثاني (مخابرات الجيش) كان وراء هذا الاعتداء لمنع جريدة النصر من الاستمرار بملاحقة جريمة المرأة المخنوقة والكشف عن ملابساتها، وامتلأت دمشق بالشائعات التي تردد ان القتيلة كانت على علاقة بالعقيد ابراهيم الحسيني رئيس المخابرات وعميلة لاحد اجهزة المخابرات الاجنبية، ولم تعرف الاسباب الحقيقية لارتكاب هذه الجريمة، ولم اذكر هذا الحادث الا لانه كان فاتحة لجريمة اخرى تأكدت علاقة ابراهيم الحسيني رئيس المكتب الثاني بها.
اغتيال العقيد محمد ناصر:
"برقية من المفوضية العراقية بدمشق الى الخارجية ببغداد.
"التاريخ 15 شباط 1950
"زارني اليوم حسني البرازي واخبرني عن حصول اختلاف بين العقيد محمد ناصر والعقيد عزيز عبد الكريم والضباط العلويين من جهة، وبين جماعة الشيشكلي من جهة اخرى. وذكر بأنه بلغه بصورة موثوقة عن استعداد الأولين للتقرب الينا اذا ما استميلوا بالمال، يرى لزوم وضع خطة للعمل في حالة اصطدام الجيش السوري بالمجلس التأسيسي، يؤكد ضرورة تخصيص مبالغ مناسبة لتسهيل العمل"
ان هذه الوثيقة (1) التي نشرت بعد ثمان سنوات من مصرع العقيد محمد ناصر تكشف التقاء الاستعمارين البريطاني والاميركي في محاولة استغلال الطائفية.
ففي يوم الثلاثاء 1/8/1950 اذاع راديو دمشق ما يلي: "وقع اعتداء اثيم في الساعة العاشرة والنصف من مساء الاثنين الواقع في 31/7/1950، ذهب ضحيته امر سلاح الجو السوري محمد ناصر، اذ هاجمه مجهولون يمتطون سيارة واطلقوا عليه عيارات نارية وذلك بالقرب من مفرق كيوان، وقد نقل الى المستشفى العسكري حيث اجريت له عملية جراحية توفي على اثرها في الساعة الثالثة والنصف من صباح الثلاثاء، وقد تولى القضاء العسكري التحقيق في هذه الجريمة.
وفي صبيحة اليوم الثاني شاع بأن العقيد ناصر، عندما نقل الى المستشفى كان لا يزال حيا، وعندما سأله المحقق العسكري عن قاتليه كتب بخط مضطرب اسم المقدم ابراهيم الحسيني والملازم عبد الغني قنوت، اذ لم يكن قادرا على النطق لان لسانه ايضا كان مصابا بطلقة نارية.
كان جو العاصمة في اليوم الثاني جوا قاتما، وقد اجتمع الزعيم فوزي سلو والعقيد اديب الشيشكلي مع ناظم القدسي اجتماعا سريا، ثم عقد مجلس الوزراء جلسة سرية مستعجلة.
احتفل بتشييع جثمان العقيد ناصر احتفالا عسكريا مهيبا، فسار وراء النعش مندوب رئيس الدولة، ورئيس الجمعية التأسيسية، ورئيس الحكومة والوزراء، وكبار ضباط الجيش والشرطة، وصلي على الجثمان في المسجد الاموي، والقى رئيس الحكومة كلمة تأبين بأسم رئيس الدولة، واشترك العقيد الشيشكلي في التشييع وتقبل التعازي.
لقد اعتقل بعد الاغتيال المقدم ابراهيم الحسيني رئيس المكتب الثاني والملازم عبد الغني قنوت الضابط في المكتب الثاني، كما صدرت المراسيم بتعيين راشد الكيلاني امرا لسلاح الطيران بالوكالة، وتعيين الرئيس بكري قوطرش رئيسا للمكتب الثاني بالوكالة ايضا، وكان لنبأ اعتقال المتهمين من قبل القضاء العسكري والتحقيق معهم ما يوحي بأن الشيشكلي يحاول ان يتنصل من تبعات هذه الجريمة النكراء، وعندما اصدرت الحكومة مرسوم تشكيل المحكمة الخاصة للنظر بهذه القضية لم تعين فيها سوى رئيس مدني للمحكمة هو القاضي اسماعيل قولي الى جانب عضوين عسكريين، وبعد شهور اصدرت المحكمة قرارها بالبراءة (2) مع مخالفة رئيسها اسماعيل قولي.
لقد سحبت هذه القضية آثارها السيئة على البلاد والجيش، اذ اصبحت الاثارة الطائفية مجالا لاستغلال العناصر الانتهازية في صفوف الجيش، ولا شك عندي بأن ابراهيم الحسيني كان عميلا للمخابرات المركزية، وانه استطاع اقناع اديب الشيشكلي بارتكاب هذه الجريمة النكراء، التي اعتقد ان السبب الرئيسي في ارتكابها هو التنافس الذي كان ما يزال قائما بين النفوذ البريطاني الذي كان يحاول التسرب الى سورية باسم الاتحاد، وبين النفوذ الفرنسي، والاميركي بصورة خاصة، الذي استسلم اديب الشيشكلي له اخيرا عندما قام بانقلابه على الحياة الديموقراطية في سورية بتاريخ 1951 وبتأثير مباشر من السعودية بعد يأسها من عودة شكري القوتلي الى سورية، وقد كان العقيد ابراهيم الحسيني رئيس مخابرات الجيش أنذاك رجل الولايات المتحدة في سورية، وبعد سقوط اديب الشيشكلي غادر البلاد الى المملكة العربية السعودية، حيث اصبح رئيسا ومسؤولا عن جهاز المخابرات فيها، ثم توفي فيما بعد بحادث سيارة غامض في روما.
وقد كان لهذا الاستغلال الاستعماري للطائفية، الذي تستفيد منه الصهيونية بلا شك، والذي جعل من مجموعة العقيد ناصر ومجموعة اديب الشيشكلي مجموعتين متنافستين على السلطة والنفوذ، سابقات خطيرة في سورية المحت اليها فيما سلف من هذه المذكرات.
الطائفية اخطر سلاح بيد الاستعمار والصهيونية
الى جانب الوثيقة التي تتعلق بالعقيد ناصر وباثارة الطائفية في الجيش السوري، كشف سقوط حلف بغداد عن وثيقة هامة اخرى اوردها الصحفي الهندي كرانجيا في كتاب عنوانه "خنجر اسرائيل"، وقبل التعرض الى هذه الوثيقة يجدر بنا ان نرجع قليلا الى الوراء، حيث دأبت الحركة الصهيونية منذ بداية الحرب العالمية الاولى على العمل لبث روح التفرقة الطائفية والعنصرية والمذهبية في سورية ولبنان خاصة والعالم العربي عامة وكانت وراء الانتداب الفرنسي في خطوته بتقسيم سورية الى دويلات طائفية وتشجيع الزعامات القبلية والاقطاعية والطائفية لتلك الدويلات.
وقد اشرنا سابقا الى الوثيقة التي تقدم بها بعض اعضاء المجلس التمثيلي لدولة العلويين بدافع من حاكمها الفرنسي الى حكومة ليون بلوم بمناسبة المفاوضات الجارية بين سورية وفرنسا لعقد معاهدة عام 1936.
وفي الوقت نفسه كان المطران مبارك وجماعته في لبنان يحملون لواء الدعوة لانشاء وطن قومي (3) مسيحي في لبنان اسوة بالوطن القومي اليهودي في فلسطين.
ولم يخف المسؤولون الاسرائيليون بعد ذلك استراتيجيتهم واغراضهم في المنطقة العربية لتحقيق اسرائيل الكبرى، فقبيل عدوان حزيران 1967 دعا ابا ايبان وزير خارجية اسرائيل علنا لتبديل خارطة الشرق الاوسط على اساس عنصري وطائفي ومذهبي.
وفيما يلي جزء من الوثيقة الاسرائيلية التي نشرها الصحفي الهندي كرانجيا وهو الجزء المتعلق بالاستراتيجية (4) الاسرائيلية الهادفة الى تمزيق المنطقة العربية وتحويلها الى دويلات طائفية وعنصرية:
"يجب من اجل تقويض الوحدة العربية بذر الشقاق الديني بين العرب واتخاذ التدابير لاقامة دول جديدة على اراضي البلاد العربية وهي:
1- دولة درزية تشمل المنطقة الصحراوية وتدمر.
2- دولة شيعية تشمل قسما من لبنان، منطقة جبل عامل ونواحيها .
3- دولة مارونية.
4- دولة علوية تشمل اللاذقية وحتى المنطقة الممتدة الى الحدود التركية.
5- دولة كردية في شمال العراق.
6- دولة قبطية في مصر او مناطق ذات استقلال ذاتي للاقباط.
اما المناطق العربية التالية فستقبقى على حالها: دمشق، جنوب العراق، مصر، المنطقة الوسطى والجنوبية من السعودية... ومن المرغوب فيه ايجاد ممرات واسعة غير عربية عبر هذه المناطق العربية".
______________________________________________________
(1) تليت هذه الوثيقة خلال محاكمة توفيق السويدي الذي كان وزيرا للخارجية عام 1950 وذلك بعد الإطاحة بحلف بغداد عام 1958 (كتاب محكمة الشعب - الطبعة الاولى - وزارة الدفاع العراقية - ص 2456)
(2) لقد سألت الملازم عبد الغني قنوت بعد صدور حكم البراءة عن علاقته بهذه القضية فأكد لي بأنه اشترك بنقل العقيد محمد ناصر الى المستشفى بعد وقوع الاغتيال.
(3) راجع كتاب ليفيا روكاخ "قراءة في مذكرات شاريت" الذي يتعرض لمشروع بن غوريون بانشاء وطن مسيحي ماروني في لبنان والى المناقشات والرسائل التي تبودلت بينه وبين موشى شاريت حول هذا الموضوع، ثم كيف بدى بتفيذ المشروع منذ عام 1955، ولكن العمل به توقف بسبب العلاقات مع فرنسا التي زودت اسرائيل بالمفاعل الذري والتي تزودها بالسلاح، ثم استأنف الاسرائيليون العمل بهذا المشروع منذ عام 1968 بعد حرب حزيران بسبب موقف دوغول من اسرائيل وامتناع فرنسا عن تزويدها بالسلاح مما جعلها تفك التحالف بينها وبين فرنسا وتستبدله بالتحالف الوثيق مع الولايات المتحدة. (ص47-57).
(4) كان حلف بغداد يؤلف العمود الفقري للمشاريع الغربية في الشرق الاوسط، وكانت اسرائيل متواطئة معه دائما، وان لم تعلن رسميا دخولها في هذا الحلف، وقد ظهر هذا التواطؤ جليا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ولا شك ان هذا الوضع كان يقتضي تبادل المعلومات مما ادى الى وجود الوثيقة الاسرائيلية بين وثائق حلف بغداد التي يقول الصحافي الهندي كرانجيا انها وصلت اليه من مصدر صديق موثوق، والذي يجعلنا نثق بصدق هذه الوثيقة هو الاحداث التي تؤيد محتوياتها، وقد نشرت الوثيقة عام 1958 في كتاب عنوانه "خنجر اسرائيل" من منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر - دمشق - ترجمة مروان الجابري - ص 77.