عيد الجلاء عام 1955
شعرت بجو ضاغط غير مألوف في الفترة التي سبقت السابع عشر من نيسان، وكانت الاحزاب والكتل السياسية تتسابق وتتبارى للاشتراك باحتفالات عيد الجلاء، فاقترحت قيادة البعث أن يقيم الحزب احتفالات بالمناسبة في جميع أنحاء سورية وأن يقيم فرع دمشق مهرجانا كبيرا أكون والاستاذ ميشيل خطيبين فيه.
لم أكن في قرارة نفسي موافقا على ذلك، كما لم أكن مرتاحا لاشتراك الحزب في مهرجانات الجلاء بصورة عامة لسببين :
1- كنت أخشى أن يتخذ الاستاذ ميشيل من اجتماع دمشق مناسبة للغمز واللمز من الموقف السياسي والعقائدي للحزب، وقد كنت مقدرا ان خطابه مهما كان غامضا فلا بد أن يشف عن التباين بين رأيينا، وكنت حريصا ألا يظهر خلافنا علنا لئلا يتخذه الخصوم في ذلك الظرف العصيب سلاحا للدس والوقيعة في صفوف الحزب، فقد وجه الحكم الرجعي في العراق للاستاذ ميشيل دعوة لحضور حفلة تسليم القاعدتين في الحبانية والشعيبة مع عدد كبير من أركان سياسته في سورية أمثال حسن الحكيم وعدنان الأتاسي وعبد الرحمن الكيالي وميخائيل ليان وعفيف الصلح وبدوي الجبل، وقد اعتذر الاستاذ ميشيل عفلق، بعد استشهاد المالكي عن حضور الاحتفال.
2- كنت أشعر شعورا غامضا بأن جو البلاد ينذر بالخطر، ولكن لم تكن لدي دلائل ملموسة، فلم أكن أرى من المصلحة أن تقام المهرجانات في مثل هذا الجو، ولكن لم تكن لدي الحجة المقنعة لرفض اقتراح القيادة فوافقت على مضض.
كنت أشعر بالاختناق دون أسباب واضحة محددة فلم أتمكن من كتابة كلمة واحدة من الخطاب الذي كلفت بإلقائه في مهرجانات الحزب وأصبحت أشعر وأنا في دمشق وكأنني في إحدى زنزانات سجن المزة.
وعندما سألني الاستاذ علي عدي فيما إذا كنت قد أعددت خطابي وقد كان مهتما لأنه كان مقدرا لما سيتضمنه خطاب الاستاذ ميشيل ، وكان يريده خطابا محكما مدروسا يتلافى اي مضاعفات يمكن أن تحدث في صفوف الحزب، وقد بحت له بحقيقة مشاعري وتوجسي من هذه الاجتماعات، وانني لم أتمكن من كتابة سطر واحد، وانني غير قادر على البقاء في دمشق، بل انني اشعر وكأن حبلا يشتد على عنقي ساعة بعد ساعة، وانني اعتزم الاعتذار عن القاء الخطاب ورجوته أن ينوب عني بإلقائه، وقد حاول اقناعي بالعدول عن رأيي ولكن دون جدوى، فقد افهمته بأنني مصر على عدم حضور المهرجان، وانني أنوي السفر في فترة عيد الجلاء الى بيروت ، ثم ناقشته في جميع الافكار التي يجب أن تحويها الكلمة وطلبت منه صياغتها ليلقيها باسمي معتذرا عني للمجتمعين.
كان الاستاذ عبد الفتاح الزلط على معرفة بما أعانيه من ضيق، فسافرنا سوية إلى بيروت، وفي يوم الجلاء كنت في نزهة معه على طريق مطار بيروت الدولي نستمع إلى إذاعة دمشق التي كانت تفوح من برامجها وكلماتها وأناشيدها رائحة السوريين القوميين بشكل مفضوح وكأن انقلابا سوريا قوميا قد حدث أو يوشك أن يحدث ، قلت لعبد الفتاح :
إن موظفي الإذاعة من السوريين القوميين مسعورون وكأن بهم مسا من جنون فما هو السر ؟ ثم أضفت قائلا : انهم تغلغلوا بالاذاعة السورية منذ عهد أديب الشيشكلي وأصبحوا شيئا فشيئا مسيطرين عليها سيطرة تامة وفي مقدمتهم المذيعة عبلة الخوري (التي اصبحت بعد فرارها من سورية مذيعة في محطة لندن). لقد حيرني جنون الإذاعة في ذلك اليوم ولم استطع أن أجد له تعليلا واضحا سوى هوس المذيعين الحزبيين، إذ انه لم يكن للسوريين القوميين أثر يذكر في الشعب أو الجيش.
أوينا إلى الفراش مساء 17-4-55 دون أن تمر في مخيلتنا أية شكوك أو ريبة حول ما جرى في احتفالات عيد الجلاء، ولكن أمرا واحدا كان يزعجني، هو عدم اقتناع المحتفلين -كما ذكرت مقدرا - باعتذاري عن حضور مهرجان دمشق. نمنا تلك الليلة نوما هادئا عميقا أيقظني منه فجأة صوت الباب وهو يفتح .. وعندما شاهدت إحسان حصنى وعلي عدي ورفاقا لنا آخرين سألتهم على الفور: هل قتل أخي واصل!
قالوا : لا إنه جرح في اصطدام وقع بين الحزب وجماعة من حركة التحرير، لقد أطلق عليه ابن اختك غالب الشيشكلي الرصاص فأصابه في خاصرته ، أما غالب فقد قتله المتظاهرون.
رجعت الى دمشق ولم أذهب في الأيام الثلاثة التالية إلى حماه أو إلى حلب، حيث نقل أخي إلى مستشفى الدكتور (فرشو) وقد طمأنني الاطباء تلفونيا عن نجاح العملية التي أجريت له.
كان بقائي في دمشق ضروريا للأسباب التالية :
1- لم يكن حادث حماه حادثا عفويا وإنما كان حادثا مدبرا حلقة من مؤامرة كبرى أعدت للبلاد وكان مجيئ صلاح الشيشكلي إلى حماه جزءا من هذه المؤامرة.
2- كان جو البلاد ينذر بشر مستطير تنم عنه تحديات العملاء في كل مكان، وشعرت أن وجودي في دمشق ضروري لرصد هذا التآمر وإحباطه إذا أمكن.
3- لم أشأ أن أذهب إلى حماه فور إصابة أخي واصل لأنني خشيت أن تؤدي الزيارة الى هياج ووقوع مصادمات دامية، وقد شددت على قادة الفرع في حماه بوجوب التزام الهدوء الكامل ومجابهة التحديات بأعصاب باردة، وقد تمكنت المدينة أن تضبط أعصابها بالرغم مما رافق تشييع جنازة ابن اختي غالب من تحديات فلول حركة التحرير وقوى الاقطاع والرجعية.
لقد حاولت جهدي أن أقنع الحكومة بضرورة الاهتمام بالحادث، لا لصلته بي بل لأنه - كما كان يبدو لي - حلقة من مؤامرة كبرى على البلاد وليس حادثا عارضا، وان تآمر الحكومة السابقة بالعفو عن صلاح الشيشكلي وسماح الحكومة الحالية له بدخول البلاد قد سبب هذه الفاجعة، وان أي إهمال سيجر البلاد إلى أمور لا تحمد عاقبتها، وقد ذهبت كل تحذيراتي وتنبيهاتي السابقة صرخات في واد.
الجريمة مدروسة
كانت تهيئة الجريمة ووضعها في إطار عائلي أمرا مدروسا بشكل دقيق، فقد كان غالب شابا ينقصه التوازن، ولكنه كان شجاعا وفي عام 1948 التحق بنا في فلسطين، وفي إحدى المرات أهاجه رفاقه بمزاحهم - وهم لا يعرفون طباعه- فكاد يطلق عليهم الرصاص وهم يضحكون.
ولم يكن غير ابن عمه صلاح الشيشكلي وصهره محمد الباكير البرازي قادرين على استثارته ودفعه في هذه الطريق، لقد جعله أديب الشيشكلي نائبا بالتزكية عن حماه لاستخدامه ضد حركتنا، وكان انهيارديكتاتورية أديب الشيشكلي فاجعة كبيرة بالنسبة له. يضاف إلى ذلك عواطف الثأر لمقتل ابن عمه فايز السالم الشيشكلي خلال مظاهرات الابتهاج عند اعلان الثورة في حلب على الحكم الديكتاتوري وقد ذكرت ذلك في حينه.
كانت أجهزة المخابرات العربية والاجنبية دقيقة وذكية باختيار الأداة القادرة على أن توجه للحزب في حماه بصورة خاصة الضربة التي يمكنها أن تحول النضال الشعبي العربي التحرري إلى معارك جانبية وثارات شخصية عائلية.
ولكن ضبط النفس، والترفع عن العصبيات الجاهلية، والايمان بالقيم الاخلاقية والدينية والانسانية فوت على الاعداء مقاصدهم المجرمة. وقد يتساءل القارئ :
هل اشترك صلاح الشيشكلي في هذه المؤامرة لحساب السوريين القوميين ومن وراءهم؟ إن الموضوع أكثر تعقيدا مما قد يبدو للقارئ، فلم يكن صلاح رغم صلته بالسوريين القوميين حرا في أن يتآمر معهم دون موافقة بعض الأنظمة العربية التي كان هو وأخوه مرتبطين بها آنذاك.
وقد كانت عودة أديب الشيشكلي بنظر أجهزة المخابرات الأميركية إلى حكم سورية مفضلة عن عودة شكري القوتلي إذا تمكنت من ذلك . كما تضافر في هذا الظرف نشاط أجهزة المخابرات الأميركية والبريطانية وما يتبعهما من المعسكرات العربية ضد حزب البعث العربي الاشتراكي ولا سيما بعد أن أخفقت مساعي السعودية بالتلويح لخالد العظم برئاسة الجمهورية لقاء تخليه عن التحالف مع الحزب، وكانت نقطة الالتقاء بين الاستعماريين الأمريكي والبريطاني في سورية هي القضاء على الحركة الجماهيرية الواسعة التي تتجه بوعي وثبات نحو التحرر السياسي والاجتماعي والتي كان دعامتها حزب البعث في الشعب وعدنان المالكي والقوى الملتفة حوله في الجيش.
كيف قتل أخي واصل :
قيل لي من أوثق المصادر أن الاتفاق كان بين الحكومة (وزارة الداخلية) وبين من سعوا لعودة صلاح الشيشكلي، أن يدخل إلى سورية سرا وأن يتوجه من المطار رأسا لقريته في محافظة حماه، ولكن صلاح أعلن عن وصوله إلى دمشق بسلسلة من التصريحات التي أدت إلى إثارة موضوع دخوله البلاد في المجلس النيابي، وقد أعد له الاقطاعيون والرجعيون الموتورون من إخفاقهم في انتخابات حماه عام 1954 وفلول حركة التحرير استقبالا حافلا خارج المدينة اتخذ شكل مظاهرات استفزازية، ولكن الجماهير التزمت بتعليماتي لضبط النفس ففشلت هذه المحاولة المتعمدة إثارة الفتنة، وفي صبيحة يوم الجلاء وزع (الحركيون) منشورات مثيرة رسمت عليها صورة لأديب الشيشكلي ، فلم يقابل الحزبيون توزيعها بأي رد فعل كما كانوا ينتظرون.
كان الحزب قد قرر أن تكون ساحة العاصي ملتقى الجماهير للاحتفال بعيد الجلاء، فبدأت جماهير الأحياء تتوافد بالآلاف الى مكان الاحتفال، وكان لا بد لأخي واصل وأبناء حينا من المرور في شارع المحالبة أثناء ذهابهم إلى ساحة العاصي، فتعرض لهم غالب الشيشكلي هو وأنصاره بالسباب والشتائم، ولكن أخي واصل منع رفاقه من الرد عليهم بالمثل وتابع مسيرته إلى ساحة العاصي، وفي أثناء الاحتفال هاجم آل الوتار من حركة التحرير المحتفلين وأطلقوا عليهم النار والمتفجرات ثم هربوا بعد وقوع جريحين، وتابع المجتمعون احتفالهم وعند انتهائه غادرت الجماهير متجهة إلى أحيائها فكمن غالب وأفراد عائلته وأنصاره في منازلهم. وعلى جانبي شارع المحالبة، وعندما مرت وفود الفلاحين العائدين الى قراهم أطلقوا عليهم الرصاص ولكنم تمكنوا من الافلات دون وقوع اصابات، وحينما بلغ أخي واصل مع جمهور المحتفلين من أبناء حينا هذا الشارع أمطروهم بوابل من الرصاص من المفارق ونوافذ المنازل واسطحتها ولكنهم تابعوا سيرهم وتمكنوا من اجتياز منتصف الشارع دون إصابات، عندئذ خرج غالب وأخذ يطلق رصاص مسدسه على أخي واصل الذي كان ناهيا ومستثيرا فيه صلات الدم والخؤولة، ولكن غالبا تابع اطلاق الرصاص، فلم يشأ واصل أن يقابله بالمثل، وانما تناول كرسيا قريبا ورماه به فلم يصبه، فتلطى غالب في أحد المنعطفات حيث عبأ مسدسه من جديد، ثم عاد لإطلاق النار على واصل فأصابه في خاصرته وعندما سقط صريعا صوب الجمهور رصاصه إلى غالب فأرداه قتيلا، وحمل واصل إلى مستشفى الدكتور فيصل الركبي الذي أوصى بإرساله فورا الى مستشفى فروشو في حلب.
وهكذا تمكن العملاء والمحرضون من ارتكاب هذه الجريمة البشعة في مدينة حماه بالذات حيث لا تزال تسود التقاليد العربية الأصيلة التي تجعل الأخوال أعز من الوالدين وأغلى، وحيث لا يزال عربها الرحل ينتخون في معاركهم منادين "وين الخال يشوف ابن اخته".
كنت أفكر دوما بمصيبة أختي بولدها وأخيها فكنت أرثي لها اكثر مما أرثي لنفسي أو لأمي المفجوعة وكان عزائي الوحيد أن تكون دماء غالب وواصل في خدمة القضية التي نذرنا أنفسنا لها.
اثناء وجودي في دمشق وقبل سفري إلى حلب لزيارة أخي واصل بعد إجراء العملية الجراحية له، اطلعت على نص الخطاب الذي ألقاه الاستاذ ميشيل في مهرجان دمشق. لم يكن الخطاب سيئا بقدر ما تصورت، ولكنه كان متناقضا اكثر مما تصورت ، وكان فيه بعض الانحرافات الفكرية التي كلفت الحزب والبلاد غاليا.
جاء في خطاب عفلق :
"بعد مرور تسع سنوات على الجلاء نرى أن حكومات سورية لم تفعل شيئا لنجدة الشعب العربي المناضل ضد الاحتلال والطغيان، وان حكومات سورية كانت طوال هذه السنين أكبر أداة في أيدي أعداء الوحدة ومستغلي القطعية والتجزئة".
ولا يخفى ان هذا الحكم على جميع الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال حتى ذلك الوقت غير صحيح ففي تلك الفترة التي حققت فيها سورية استقلالها كانت تدافع تجاه ما طرحه الاستعمار عليها من مشاريع مشبوهة كانت جميعها تهدف باسم الاتحاد إلى إقامة عرش لعبد الاله في سورية وإلى إدخالها في منطقة النفوذ البريطاني ثم كيف يجوز للاستاذ ميشيل أن يقول ذلك وقد كنا وزراء في بعض هذه الحكومات نمثل فيها حزبي البعث والعربي الاشتراكي؟
إن الاستاذ ميشيل لم يطلق هذا الحكم الصارم المجافي للحقيقة والواقع إلا للتعريض بحكومة صبري العسلي التي كان البعث مشتركا فيها آنذاك بقرار من القيادة بشخص الدكتور وهيب الغانم والتي كانت مهمتها الأساسية تحقيق مشروع الاتحاد العربي الجديد ومناهضة الأحلاف الاستعمارية والصلح مع اسرائيل. وقد كان الحزب يناضل داخل الحكومة وخارجها وفي المجلس النيابي وفي صفوف الشعب للدفاع عن استقلال البلاد وعن القضايا العربية التحريرية والتقدمية والوحدوية، ومن المؤلم حقا أن يرد في مقطع آخر ما يلي :
"وفي هذه الظاهرة ما يكفي لانهاء خدعة التذرع بالاجنبي وتحميله تبعة تآمر الحكومات على الاهداف القومية وفيها ما يكفي أيضا لوضع مشكلتنا الأساسية وضعا صحيحا فنقتنع بأن السبيل الوحيد الى تحرير الوطن العربي وتوحيده هو في إيصال الجماهير الشعبية إلى حكم البلاد واستلام مقدراتها".
وجاء في مقطع آخر :
فالبعث العربي إما أن يكون قوميا أو لا يكون مطلقا لأن قوميته ضمانة لانسانيته، وإن اعتماد حركة البعث على نضال الجماهير العربية المظلومة لا يصدر عن نظرية تؤمن بالطبقات ، بل يعني ايماننا بأن هذه الجماعة تمثل نتيجة لمعاناتها للظلم والاضطهاد حقيقة الأمة الصافية، كما أن فيها تكمن معظم قوى الأمة وكفاءاتها، فاشتراكيتنا بهذا المعنى هي وسيلة امتنا والباب الذي تدخل منه الأمة العربية الى التاريخ من جديد، واتجاهنا القومي يقي اشتراكيتنا شرور السلبية وكل ما يورثه الظلم في النفس من نقمة هدامة ومادية شرهة ليبقيها في جو الايجابية والعطاء وحمل الرسالة".
إن الاستاذ ميشيل يقول أنه لا يصدر عن نظرية تؤمن بالطبقات بل يقسم المجتمع الى ظالمين ومظلومين بينما الأمران في الحقيقة شيء واحد، وهو تارة يجعل الطبقة المظلومة تمثل حقيقة الأمة الصافية وقوى الأمة وكفاءاتها نتيجة لمعاناتها الظلم وتارة يتحدث عما يولده الظلم في النفس من شرور سلبية ونقمة هدامة ومادية شرهة، وتستطيع الدعوة القومية -كما يقول- أن تقينا هذه الشرور. ولكنه لا يبين لنا كيف يتم ذلك.
عندما قرأت هذا الخطاب تساءلت :
بأي عين يتوجه الاستاذ ميشيل إلى المظلومين الذين تكمن فيهم معظم قوى الأمة وكفاءاتها، وليس كالفلاحين فئة مظلومة في أوضاع بلادنا الاقطاعية، هذه الفئة التي لم يعترف الاستاذ ميشيل بوجودها بل كان يعتبر حركتها حركة غوغائية، فحاول باستمرار أن يحرم جماهيرها العريضة أن يكون لها أي شان في تقرير شؤون الحزب لأنه كان يعتبر المثقفين ولو كانوا من أبناء الأسر الظالمة هم الصفوة المختارة التي يجب أن يعتمد عليها الحزب بدعوته للمحافظة على نقائه وطهارته!
وقصارى القول أن تنظير الاستاذ ميشيل كان انحرافا عن مبادئ حزب تقدمي، فإنكار وجود الطبقات في مجتمع متخلف إقطاعي تنظير يتجاهل الواقع الملموس، ولا شك أن المجتمعات الاقطاعية القائمة على الاستغلال هي بطبيعتها مجتمعات ظالمة تترك آثارها السلبية وغير الانسانية على المواطنين جميعا، إذ تنسحب هذه الآثار على المستغلين والمستغلين، الظالمين والمظلومين، وإن خلاص هذه "الجماعة" التي يقول عنها الاستاذ ميشيل "انها تمثل بنتيجة معاناتها للظلم والاضطهاد حقيقة الأمة الصافية" هو بالاعتماد على الصراع الطبقي للقضاء على الوضع الاقطاعي والاستغلال الطبقي.
إن نضال المظلومين الطبقي ضد الاستغلال بكل أنواعه هو الذي يشفي الشعوب من أمراضها الموروثة ويزيل العوائق والسدود أمام تقدمها وارتقائها، والظاهر أن الاستاذ ميشيل كان يتوهم بأن الاعتراف بوجود الطبقات والصراع الطبقي أمر يخرج الحزب عن صفته القومية إلى صفة الأممية الشيوعية.
لقد كشف الاستاذ ميشيل بقوله هذا رسميا للناس الخلافات الايديولوجية التي كانت تعصف بالحزب وتعرض وحدته للتمزق، فزود الخصوم في ذلك الظرف العصيب بسلاح الدس والوقيعة مما كان يضعف موقف البلاد في تلك المعركة القاسية التي كانت تخوضها ضد الاقطاعية وضد الاستعمار ومشاريعه وأحلافه.
لم يكن موضوع جدل أو خلاف مسؤولية الطبقة الحاكمة بأخطائها وانحرافاتها وعجزها، ولكنه لأمر خطير في تلك الفترة التي بلغ فيها التآمر الاستعماري على البلاد ذروته أن يطالب أمين البعث العربي الاشتراكي بإنهاء خدعة التذرع بالاجنبي وتحميله تبعات تآمر الحكومات على الاهداف القومية، فهل كانت الحكومات تتآمر هواية وحبا وتطوعا أم ان الاستعمار كان يعمل جاهدا لاستخدامها كأداة لتحقيق أغراضه؟
بعد عدة أيام من هذا الخطاب، اغتيل العقيد عدنان المالكي، وكان اغتياله حلقة من سلسلة مؤامرات استعمارية تعرضت لها سورية ولكن الشعب احبطها جميعا بوعيه ونضاله الباسل العنيد.
وقد نشر الخطاب كاملا في جريدة الرأي العام تاريخ 19/4/55، ثم نشرت مقاطع منه بعد عام في جريدة البعث بتاريخ 20/4/56 ومن بين ما حذف المقطع الذي يتحدث عن خدعة التذرع بالأجنبي والاستعمار.
ولتكتمل صورة الاتجاهين في الحزب آنذاك لا بد لي من أن أثبت بعض مقاطع الخطاب الذي وضعت خطوطه وحددت أفكاره ليلقيه الاستاذ على عدي في ذلك الاحتفال :
"وبالرغم من تكالب القوى الرجعية وتدخل الحكومات العربية، توجهها مطامع البيوت المالكة والدول الأجنبية فإن بلادنا بعد هذه السلسلة من التجارب القاسية قد صانت استقلالها وحققت خطوات تقدمية في حقل الاقتصاد والتشريع ونموا في الجيش والقوات المسلحة، ووعيا عظيما سياسيا واجتماعيا، فقد رسخت في اذهان ابناء البلاد جيشا وشعبا بعد الاطاحة بعهد ديكتاتورية أديب الشيشكلي، بأنه لا وسيلة إلا الحرية لتحقيق أهداف الشعب الانقلابية، وأن أية مغامرة عسكرية هي خيانة بحق الشعب وإفساح لمجال تدخل الدول الاجنبية عن طريق الحكومات العربية الرجعية لتحقيق أغراضها ومطامعها الاستعمارية ، وان الحكم البرلماني الديموقراطي مهما كان أعرجا أو كسيحا فلا بد له أن يستقيم بالمزيد من الحرية، وانه الحكم الذي يضع حدا للتآمر الخارجي وانه السبيل الوحيد لتحقيق مطالب الشعب العربي بالوحدة والاشتراكية.
وإذا كانت مطامع الدول الاجنبية بالماضي متناقضة بعض التناقض، فإن هذه الدول قد وجدت أهدافها الرئيسية في المرحلة التي تلت الانقلاب على العهد الديكتاتوري عام 1954 مستهدفة ربط سورية بالاحلاف العسكرية. فماذا تعني هذه الاحلاف؟
هل تعني أن تقدم البلاد أبناءها ومواردها طعمة لنيران الحرب القادمة في سبيل الحلفاء الغربيين مستعمري البلاد العربية ومستغلي مواردها؟ هل تعني الصلح مع اسرائيل وجعلها حليفة جديدة وفتح أبواب البلاد العربية أمام مطامعها التوسعية؟ هل تعني الاحلاف العسكرية الاطاحة باستقلال بلادنا وبسط السيطرة الأجنبية عليها أو هل تعني الاحلاف ادخال تركيا عنصرا جديدا يفرض نفوذه على سورية والبلاد العربية؟ هل تعني الاحلاف أن نجعل من روسيا عدوا وحيدا وليس بيننا وبينها عداوة ولا مشاكل قومية قائمة؟ هل تعني الاحلاف عزل مصر وشمال افريقيا والجزيرة العربية عن الهلال الخطيب؟ هل تعني تحطيم الجامعة العربية؟ هل تعني الاحلاف إعاقة الشعب عن التطور والتقدم لجعل سورية متماثلة بأوضاعها الرجعية مع البلاد العربية؟ أجل ان ارتباطنا بالاحلاف العسكرية يعني ذلك كله.
فهذه امريكا تنذر سورية بأنها لا تعترف على الجامعة العربية ولا على ميثاق الضمان الجماعي ولا على اية منظمة عربية اقليمية. وانها لا تعترف إلا على الحلف التركي العراقي جهازا صالحا للدفاع عن الشرق الأوسط الذي يقضي بتسوية الأوضاع بين العرب واسرائيل، وقد أكد ذلك السير انطوني ايدن بعد انضمام بريطانيا لهذا الحلف في مجلس العموم بأن اسرائيل راضية عن هذه السياسة مؤكدا دخولها في هذا الجهاز الدفاعي.
إن الخطة التي يتبعها الغربيون لادخال سورية في هذا الحلف هي تطويق سورية باشراك دول الهلال الخصيب مستخدمين حكوماتها لتكون داعية لسياسة الأحلاف، فما هي الطريقة يا ترى التي تنجي بلادنا من هذا الشر المستطير بعد أن اعتمد الحلفاء الغربيون على كل الوسائل حتى بلغت حد حشد الجيوش التركية على الحدود لإرغام سورية على الهزيمة والاستسلام؟
لا شك بأن الخطة تعتمد أولا وأخيرا على نضال الشعب العربي في سورية الذي سجل أروع تضحية بالنسبة لصغره وقلة عدده لبلوغ حريته واستقلاله فلا يمكن أن يقبل بالهزيمة والاستسلام، ان هذا الشعب يؤمن بأن اسرائيل تهدد العرب بالفناء والزوال، فلا يمكن أن يرضى بالصلح معها وفتح أبواب البلاد العربية أمامها ولذلك فإنه مصمم على مكافحة الاحلاف العسكرية حتى النهاية وذلك :
أولا : بإقصاء المتآمرين من السياسيين الذين يعملون لهذه الاحلاف عن الحكم.
ثانيا : تدعيم الحكم الديمقراطي النيابي واحباط كل مغامرة لاقامة حكم ديكتاتوري.
ثالثا : العمل على ابقاء الجامعة العربية، والسير حثيثا لتوحيد الشوؤن العسكرية والسياسية والاقتصادية مع الاقطار العربية التي تقاوم الانضمام للأحلاف الاجنبية.
ولا بد لانماء مقاومة الشعب وتفجير الطاقة الثورية فيه من تحقيق تكافؤ الفرص أمام المواطنين والإسراع بجعل الملكية وظيفة اجتماعية وتحديدها وتوزيع أملاك الدولة على الفلاحين وسن قانون للعمل يضمن حقوق العاملين ويحميهم من شر الاستغلال والمستغلين، وتحرير البلاد من احتكارات الشركات وجعل الضرائب تصاعدية ورسم خطة واضحة لتصنيع البلاد.
في صبيحة يوم الجمعة 22-4-55 سافرت الى حلب، وكانت صحة أخي قد ساءت، ولم أكد اصل الى المستشفى حتى قيل لي :
إن هاتفا يطلبك من دمشق، وفي دمشق كان صوت زوجتي المخنوق بالبكاء يقول لي : لقد اغتيل عدنان.
لم أسألها عن القاتل، كان الجو بكل ما فيه من تحرش وتحديات يشير إلى الجهة التي ارتكبت جريمة الاغتيال. وتابع الصوت المخنوق يقول :
لقد اغتيل بينما كان يشهد مباراة لكرة القدم في الملعب البلدي، وفي غرفة من غرف المستشفى كان أخي واصل الضحية الأخرى يعاني سكرات الموت.
وقفت صامتا أمام الموت: عدنان الذي استشهد، وواصل الذي يحتضر، وفي نفسي تتابعت الذكريات واختلطت الصور. وبعضها كان بعيدا يعود إلى الطفولة. تذكرت يوم رجوت شقيقي عبد الحليم وواصل أن يأخذاني معهما لأحارب الفرنسيين في ميسلون وكيف نهراني لأني ما أزال صغيرا، كان عبد الحليم صغيرا لا يتجاوز الثانية عشرة، وكان واصل أصغر منه بسنة واحدة، تخيلته عام 1945 عندما كانت حماه المدينة الوحيدة التي استطاعت ثورتها أن تدحر الفرنسيين، تخيلته حاملا بندقيته وذاهبا إلى الاستشهاد مع الذاهبين.
تذكرت أيام الطغيان عندما كان الشيشكلي يعتقل مناضلي الحزب في كل مكان. كان واصل دعامة من دعامات النضال في تلك الفترة، تخيلته صابرا صامتا متحديا. كل تلك الذكريات كانت تتابع في ذهني مختلطة بصورة عدنان.
لهفي عليك يا عدنان.
لم يستطع الاسرائيليون أن ينالوا منك في تل العزيزيات وبقيت رغم جراحك، صامدا مرفوع الرأس تقاتل.
لم يستطع طغيان الشيشكلي ولا سجونه أن تنال من ايمانك بالحرية والديموقراطية وبقيت مرفوع الرأس تقاتل.
لم تستطع محاولات عملاء الاستعمار والأحلاف أن تثنيك عن ايمانك بالوحدة والتحرر وبقيت مرفوع الرأس تقاتل، وها هم العملاء يغتالونك برصاصة غدر.
لم أستطع أن أتصور عدنان ميتا، كانت صورته تلح علي مشرقة ضاحكة، وكان صوته الجهوري الواثق داويا في أذني.
لم أقض الليلة في حلب، كانت سورية في خطر، وكانت المؤامرة ماثلة للأعين وكان الاغتيال بداية لها.
عدت إلى دمشق التي كانت تغلي بنيران النقمة والغضب، وتجلى ذلك في موكب تشييع الشهيد عدنان، موكب الحزن الذي لم تشهد دمشق مثيلا له منذ أن شيعت شهيدها فوزي الغزي، لم أشهد الموكب، ولم أسر في جنازة عدنان ففي حماه كان شهيد آخر قد جيء به من حلب، وكان علي أن أسير في موكب آخر من مواكب الاستشهاد.
شيعت حماه أخي واصل، بعد عدنان بفارق يوم واحد، كان موكب الشهيد في حماه، كما كان موكب الشهيد الآخر في دمشق استفتاء وجوابا وتعبيرا عن رفض سورية للأحلاف وللاستعمار بأي شكل كان.
فقد تقاطرت الوفود على حماه من كل مكان، جاءت من دمشق وجبل العرب، من القلمون وحمص، من حلب وأدلب، من اللاذقية وطرطوس وجبلة، من كل مكان أتى المناضلون ليقولوا لا للأحلاف وللاستعمار.
لقد حبست حماه أنفاسها يوم تشييع واصل وأغلقت مخازنها وحوانيتها، حتى الأحياء التي لن تمر بها الجنازة، كانت المدينة تترقب متوجسة، ولكن التعليمات أعطيت بعدم إطلاق أي هتاف أو تحد، وهكذا كانت جنازة واصل أروع جنازة شهيد رأتها مدينة حماه وأكثرها هدوء وخشوعا وسارت قيادات حزب البعث جميعها تشيع الراحل وقد وحدها شعورها بالخطر والتآمر ، وأذكر الآن بين المشيعين: ميشيل عفلق ووهيب الغانم ومدحت البيطار وعبد الرحمن المارديني ومنصور الأطرش وعبد الحليم قدور ونخله كلاس وعبد البر عيون السود، وخليل كلاس واحسان حصنى وناظم صقال وعبد الفتاح زلط ومحمد السيد ومحمد الحسن وعبد الهادي عباس.
وأمام القبر، حيث كانت رفقة النضال ودم الأخوة يقضيان أن أودع الراحل بكلمة، ودعته بنظرة، فقد خفت أن يفجر الكلام الغضب المكبوت وأن تندلع الفتنة التي يريدها المجرمون.
كان لتلك الجنازة الصامتة الحزينة، الخالية من أي تحد، مع القدرة على التحدي، أثرها البعيد في حماه، وفي من أثاروا الفتنة بالذات، فلم تشهد المدينة بعدها أي فتنة أخرى (كتب هذا الفصل من المذكرات في أواسط السبعينات).
أزمة إعلان حالة الطوارئ
بدأ الغليان في الجيش بعد أن اغتيل قائده الفعلي العقيد عدنان، وبعد أن عرف ان هذا الاغتيال ما هو إلا جزء من مؤامرة واسعة النطاق ترمي الى قلب نظام الحكم وجر البلاد الى الاحلاف، وكان الجيش بإجماعه يطالب بإعلان حالة الطوارئ للقضاء بشكل سريع على الفتنة واقتلاع جذورها.
وفي الطرف الثاني كان رئيس الجمهورية وبعض أعضاء الحكومة (ليون زمريا) وبعض النواب من اعضاء حزب الشعب والمستقلين يعارضون إعلان حالة الطوارئ ، وكان هذا الطرف بمعظم فئاته وأشخاصه يتعمد التستر على جريمة القوميين وعرقلة كل ما يؤدي إلى إدانتهم وكشف مؤامراتهم ومن يقبع وراءها من الجهات الأجنبية، ولكن الخوف كان يسيطر على معظمهم في البداية من اعلان معارضتهم جهرا لما يريده الجيش، فقد كان من الممكن أن يؤدي هذا الغليان الشديد في صفوف الجيش إلى فوضى أو ثورة طائشة ربما كانت من أغراض المتآمرين.
كان خالد العظم في باندونع، أما صبري العسلي فقد كان خائفا محتارا مترددا مما هدد البلاد خلال الاسبوع الاول من اغتيال المالكي بانفجار أزمة مريعة.
في تلك الفترة كان بقائي في حماه ضروريا لمواصلة تطويق الفتنة ولحضور مراسم الحزن، وكان من رأيي إعلان حالة الطوارئ لوقف هذه السلسلة من الجرائم والتآمر، أما الاستاذ ميشيل فقد كان موقفه حائرا من هذه القضية، إذ أنه كان موافقا على اعلان حالة الطوارئ، ولكنه خوفا من استعمالها في غير موضعها، كان يطالب بضمانات من غير الممكن توفرها سلفا، وكنت أرى أن هنالك ضمانة كبرى هي المد الشعبي الجارف، وهي قوة الحزب شعبيا ومجلسيا، وقد شجع هذا الموقف المتردد الطرف الآخر على إعلان معارضته علنا، وأنا أعتقد أنه لو كان خالد العظم في سورية خلال تلك الأزمة، لاستطعت إقناعه بضرورة إعلان حالة الطوارئ فورا، وقد كانت أكثرية النواب مستعدة للموافقة في ذلك الجو الحماسي، مما سيدفع برئيس الجمهورية الى الاستقالة فيكون إعلان حالة الطوارئ عملية ثورية تقف في وجه التحركات المضادة، وتفرز بشكل حاسم، في الجهاز السياسي العناصر المتآمرة من العناصر الوطنية، وكان خالد العظم في ذلك الظرف الرجل الذي يصلح لقيادة تلك المرحلة وستؤيد انتخابه -آنذاك- أكثرية المجلس بدلا من هاشم الاتاسي لرئاسة الجمهورية، وكانت الأكثرية الساحقة في الجيش والشعب، عن وعي وتصميم، تؤيد هذا الاتجاه الذي كان يساعد على كشف أبعاد المؤامرة ووضع حد لها، كما يساعد على اجراء انتخابات جديدة في سورية تكون حرة ونظيفة تطهر الجهاز السياسي ومجلس النواب من العناصر المتآمرة الضالعة مع الغرب.
وانني ما زلت مقتنعا بأن البلاد لو سلكت هذا الطريق لوفرت على نفسها وعلى القضية العربية كثيرا من المصائب والمشاكل التي دفعت ثمنها غاليا والتي فتحت أمام الاستعمار وعملائه مجال التأمر المستمر والتلاعب بأهداف البلاد ولشكلت منعطفا سياسيا استبعدت فيه المساومة العربية والدولية التي جرت فيما بعد لعودة القوتلي، وكان من المقدر أن يخرج الميثاق العربي للاتحاد بين مصر وسورية للوجود بعد أن يفقد جمال عبد الناصر الأمل بالتوقيع على الميثاق المحوري، وبعودة شكري القوتلي.
إن مثل هذا الموقف آنذك كان يقتضي سرعة البت والاجراء، ولكن الذي تولى التحكم بالأزمة وتوجيهها بما يخدم مصلحة المتآمرين ومن وراءهم هو ابن رئيس الجمهورية عدنان الأتاسي الذي أصبح تأثيره على والده كبيرا بسبب التقدم في السن، أما صبري العسلي فقد كان خائفا حائرا مترددا يحاول أن يضع رجلا مع المتآمرين والأخرى مع الوطنيين ومع الزعيم شوكت شقير الذي كان ينقاد انقيادا تاما للمصريين والسعوديين الملتزمين بشكري القوتلي، فاستعمل العسلي كل ما يستطيعه من تلون لتمرير الأزمة واعتبار مؤامرة اغتيال العقيد عدنان المالكي جرما عاديا لا يقتضي اعلان حالة الطوارئ.
وهكذا ظلت الأزمة تدور خلال أربعة أيام بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية ورئيس الأركان العامة بمعزل عن المجلس النيابي الذي لم يجد رئيسه ناظم القدسي مبررا لدعوته الى جلسة استثنائية.
بتاريخ 26-4-1955 افتتح رئيس المجلس الجلسة العادية وكأن أمرا لم يقع، وبدأت الجلسة بالتلاوة المألوفة للبرقيات والعرائض والتقارير وخلاصة الجلسة السابقة، ولكن نائب قضاء مصياف عبد الهادي عباس (حزبي) قاطع الروتين المجلسي، وطلب الكلام، ومما قاله :
"بالأمس القريب اغتالت يد مجرمة شابا مجاهدا من خيرة شباب هذا الوطن، اغتالت شابا مجاهدا ووطنيا كبيرا من قادة الجيش الباسل هو العقيد عدنان المالكي، وان ربط الحوادث التي مرت في هذه البلاد والمؤامرات التي حيكت عليها تؤكد وتوضح بجلاء ان هذه الجريمة لم تكن إلا بدافع من الاستعمار الذي هاله أن يقف الجيش مع الشعب صفا واحدا لإحباط كافة المناورات والاحلاف الاجنبية الاستعمارية". ثم اقترح في نهاية كلامه أن يقف النواب دقيقة صمت حدادا على روح الشهيد. وتلاه مظهر الشربجي نائب الغوطة وجاء في كلمته :
"إن الحادث الأليم الذي أصاب البلاد بمقتل العقيد المالكي ليس فاجعة وخسارة للجيش والبلاد فحسب ولكنه نذير بشر مستطير" "نحن شجعنا العناصر الهدامة وسمحنا للمارقين أن يسرحوا ويمرحوا، وكانت هذه الحادثة وليدة الوضع الذي وصفته" "ان مستقبل الحرية والديموقراطية واستقلال هذه البلاد بل والبلاد العربية جمعاء هو بين أيديكم فتعالوا الى كلمة سواء بيننا على اختلاف كتلنا واحزابنا لنحمي عروبة هذه البلاد واستقلالها، ولنضرب كل مارق بيد من حديد".
ثم تبعه نواب آخرون من مختلف أحزاب المجلس وكتله طالبوا باتخاذ جميع التدابير الكفيلة بالكشف عن المؤامرة والمتآمرين وكان ملحوظا أنه لم يكن لنواب حزب البعث موقف محدد في هذه الجلسة، ولعل سبب ذلك هو غيابي في حماه، وقد رد صبري العسلي على الخطباء بقوله :
"لقد وضع القضاء العسكري يده على هذه الجريمة متحققا ومتوسلا بشتى الأساليب التي يخوله إياها القانون، فكان من جراء ذلك أن استبانت لنا أضواء جديدة، ومن شأن هذه الاضواء أن تجعل من هذه الحادثة حادثة كبيرة وائتمارا لقلب نظام الحكم والاستيلاء عليه بالقوة لتغيير مناهج السياسة في هذه البلاد، لقد ترامى هؤلاء الناس "يقصد السوريين القوميين" على دولة أجنبية يستنجدون أكفها ويطلبون معونتها من أجل (انقلاب خلاق) على ما يسمونه ليستولوا على الحكم وليجعلوا سياسة هذه البلاد الداخلية والخارجية ايجابا لما يريدونه لا ايجابا لأماني وغايات هذه الأمة، ونحن كحكومة نستطيع أن نطمئنكم بأننا وضعنا ايدينا على التحقيق، وهناك أربعة قضاة تحقيق يستجوبون المتهمين والأظناء والمتدخلين والمتعاونين ويستمعون إلى الشاهدين في هذه الجريمة، وهناك في التوقيف 15 مدنيا وثلاثون ضابطا ونفرا من العسكريين".
ثم تقدم صبري العسلي بطلب رفع الحصانة عن النائب السوري القومي (حنا الكسواني) فوافقت لجنة الدستور على رفع الحصانة ولم ينبر للدفاع عن حنا الكسواني سوى منير العجلاني بداعي (أنه لم يفرح بعد بالنيابة) وقد قصد العجلاني "تبويخ" جو الرهبة والحزن والخشوع الذي سيطر على المجلس.
كانت حصيلة هذه الجلسة لمصلحة رئيس الجمهورية وليون زمريا وميخائيل ليان والآخرين الذين كانوا يعارضون إعلان حالة الطوارئ، ولم يرد نواب البعث -على كلمة صبري العسلي التي أشار فيها بشكل صريح إلى التدابير العادية التي لجأت إليها الحكومة في معالجة موضوع المؤامرة، وهذا ما جرأ الفريق الآخر لأن يقف ضد إعلان حالة الطوارئ واعتبار الحادث حادثا عاديا، وإذا كان موقف المجلس النيابي لم يفد القضية بشيء فمن الانصاف أن نذكر بأن كلمة رشاد برمدا (من نواب حزب الشعب) الذي تعاقب على وزارة الدفاع في مختلف العهود كانت شهادة حق في ذلك الظرف الذي أراد فيه المتآمرون أن يسبغوا على جريمتهم ومؤامراتهم طابع الخلاف الحزبي بين البعث العربي والسوري القومي تضليلا وكذبا وتمويها على أهداف المؤامرة الحقيقية، وقد جاء في كلمة رشاد برمدا ما يلي:
"لن أحاول في كلمتي الصغيرة هذه أن القي درسا على الزملاء في الوطنية لأنهم أهلها، ولن أحاول أن استغل الحادث الاليم استغلالا حزبيا أو شخصيا، ذلك لأن عدنان قد راح فداء وطنيته، ولقد عرفت العقيد المالكي معرفة قريبة وخبرته خبرة واسعة، فعرفت فيه شابا مناضلا قوي العقيدة واسع الفكر دائبا على عمله ، عارفا لحقوق وظيفته ومهمته، عرفت فيه شابا قوميا يعمل للوطن العربي ويعمل للوطن السوري، لا فرق عنده بين فرد وفرد أو بين حزب وحزب وهذه كلمة حق أقولها بصراحة وقد ذهب الفقيد ونحن لاحقون به" ثم أضاف: "وإذا ما قيل ان العقيد المالكي قد ذهب ضحية الحزبية فإن هذا القول هراء" "أن العقيد المالكي اذا كان قد قتل فإن له إخوانا كثرا من الضباط سيقومون بالمهمة التي كان يحاول القيام بها وهي العمل على تنظيم الجيش واعداده وتقويته ليقف في الوقت المناسب الوقفة اللازمة في وجه أعداء هذه البلاد" لقد كان العقيد المالكي يقول لي في مناسبات كثيرة إن البلاء الأعظم الذي يحل بالشعب السوري والذي قد يكون لا سمح الله سبب انهياره هو تدخل كل شخص في غير ما انتدب له، وكان يعتقد اعتقادا راسخا وهذا ما سمعته منه مرارا أن الجيش السوري يجب أن يعتمد على نفسه وأن يسعى لتقوية كيانه ورأب صدعه وأن يبتعد عن الاعمال السياسية".
وقد افحمت شهادة رشاد برمدا الذي هو من أركان حزب الشعب، أجهزة الاعلام الضالعة مع الاستعمار، ولا سيما في لبنان التي كانت تسعى لتصوير الحادث وكأنه نتيجه لخلاف حزبي وسياسي في الجيش السوري، لا بداية لمؤامرة كبرى تهدف إلى قلب أوضاع البلاد لتنفيذ المشاريع الاستعمارية في سورية والمنطقة العربية.
هز اغتيال المالكي أعماق الجماهير الشعبية، وقد تجلى ذلك في دموع عشرات الألوف من الجماهير الشعبية الباكية التي شيعت جثمانه، وفي المظاهرات الطلابية والشعبية التي عمت سورية وفي سيل البرقيات التي أرسلت إلى الحكومة، وفي القصائد التي قيلت في رثاء الشهيد ومنها قصيدة الشاعر شوقي البغدادي من رابطة الكتاب العرب وكانت بعنوان "عرس عدنان" لأن الشهيد كان قد عقد قرانه قبل أيام قليلة من اغتياله، وجاء في القصيدة :
أصحيح جف الهوى والحنـــان وأمحى من عيونك العنـفوان
أصحيحح لا ضـحكة بعد ترجــى أو حـديـث مجـلـجـل رنـــان
أصحيح وأنت بعد عـــريـــس أطفئ النور وارتمى الإيوان؟
فالقـناديــل واجـمات تدلــــــت مطفآت والزغردات الحــسان
وثياب العروس بيضاء كالشمع ودار الـحبـيب إذ تــــــــزدان
أصـــحيـح هــــذا؟ أحـــق وجـــوم النـاس حـــتى لتــجـمـد الأجـــفــان
أيــن عــرس الشـباب لم يرتفع صــــــوت ولا أرهفــت آذان
أتـرانــا فــــي مأتـــم؟ أي صدر لـــم تـثر فـــي قراره النيران
هـــــم أرادوه مــأتـما وأردنـــــا مهرجانـا للنصـــر لا يستهان
وغــدا يـــــا أخـــــي تطل علينا فــــإذا الــعـهـد جــنة والمكان
وإذا أنــت مطــمئن قــــريــــــر وســــوانــا المفجـع الثكــلان
كان حزب البعث قد اشترك في جميع فروعه بالمظاهرات التي سارت احتجاجا على الاغتيال واعتبر المالكي شهيدا من أكرم شهدائه، ولكن موقف فرع دمشق البارد بتأثير من الاستاذ ميشيل قد أفسح مجالا لاستغلال الحزب الشيوعي، أما سبب هذا الموقف فيعود إلى الحرب النفسية التي كانت أجهزة الاعلام تشنها والتي كانت تؤثر بالاستاذ ميشيل وببعض تلاميذه فتجعله حذرا من أي علاقة للحزب بالجيش لاعتقاده ان ذلك يحرف الحزب عن خطه الديموقراطي ويوقعه بالانقلابات العسكرية وهي الفرية التي كانت تلك الاجهزة توجهها لي بصورة خاصة، وكان هذا الحذر بالاضافة إلى عوامل أخرى سببا في الخطأ الكبير بإرغام رياض المالكي على الانسحاب من انتخابات دمشق عام 1954 لصالح صلاح البيطار، هذا الخطأ الذي كانت له نتائجه بالنسبة لتماسك الحزب وتوقف انطلاقه في منطقة دمشق.
لقد كان للاستاذ ميشيل بعد ذلك مواقف متناقضة تناقضا غريبا مع ما كان يدعيه من قناعات حول الديموقراطية والابتعاد بالحزب عن الجيش والانقلابات العسكرية، وسآتي في حينه على ذكر تآمره مع المشير عبد الحكيم عامر للاطاحة بعبد الناصر بالاضافة الى حركتي شباط 1963 في العراق والثامن من آذار 1963 في سورية مما دعا باتريك سيل لأن يستعير في أحد كتبه من صحيفة "لاكسيون" التونسية ما وصفت به ميشيل عفلق من أنه "الفيلسوف الذي شارك بانقلابين في شهر واحد?"
وعلى الرغم من موقف الاستاذين صلاح وميشيل فإن كل بعثي اشتراكي في سورية كان يعتبر ان المالكي شهيده وشهيد قضيته، فكان الحزب مشتركا ودافعا في جميع أنحاء سورية للتظاهر وإرسال البرقيات.
كان الشعب واعيا لدوافع هذه الجريمة ومن يقف وراءها، فقد حملت مظاهرة طلابية كبرى في 24-4-55 الشعارات التالية :
"الشعب العربي يطلب محاكمة المتآمرين" "يسقط السوريون القوميون عملاء الصهيونية والاستعمار" "طهروا الدولة والجيش من عصابة السوريين القوميين" (صحيفة الرأي العام الصادرة في اليوم التالي) :
"إن تغاضي الحكومة عن أعمال السوريين القوميين طوال الحقبة الماضية قد جعل الشعب في اشفاق من عبثهم بأرواح الوطنيين المخلصين" "ليس من الديموقراطية في شيء سكوت الحكومة عن هذه العصابة المتآمرة".
ومرت بعد ذلك جلسة أخرى للمجلس (28-4-1955) لم يعر القضية فيها أي اهتمام بل قضى وقته في مناقشات دستورية حول اقتراح مشروعات القوانين المتعلقة بشؤون القضاء، هل هي من حق النواب، أم أنها من حق مجلس القضاء الأعلى وحده. وقد علقت الراي العام على تلك الجلسة :
"لم يشهد مجلس النواب منذ انتخابه حتى الآن جلسة عقدت عليها الآمال الكبيرة، ثم تضاءلت خلالها شيئا فشيئا حتى التشاؤم ، حتى الثورة. كانت الآمال معلقة بالمجلس النيابي، والشعب بأجمعه ينتظر فرجا من قلق وخلاصا من هذا الجو المشحون بهل؟ ومتى؟ وكيف الخلاص؟ ولكن سياسة الكواليس والازدواجية التي تعيش عليها هذه البلاد أبت إلا أن تخنق الأنفاس وتترك الشعب في اضطرابه وقلقه إلى جلسة السبت القادم وما بعد السبت".
أرسلت الحكومة برقية الى خالد العظم تستحثه على المجيء بسرعة من باندونع، ولكن السفر لم يكن سهلا آنذاك بالسرعة اللازمة ولذلك فإن وصوله جاء متأخرا. وعندما انعقد المجلس النيابي بتاريخ 30-4-55 أثار الاستاذ خليل كلاس الموضوع قائلا :
كان للجلسة التي عقدها المجلس بعد الفاجعة اثرها في جميع أوساط الشعب لأن المجلس والحكومة والشعب كانوا متفقين جميعا بشتى هيئاتهم وأحزابهم على استنكار هذه الجريمة كما أجمعوا كلهم على أنها بادرة خطرة تشكل تآمرا على الحياة الدستورية النيابية، تآمرا موحى به من قبل الاستعمار، وما تزال أسلاك البرق تحمل آلاف البرقيات من شتى فئات الأمة مستنكرة وطالبة اتخاذ التدابير السريعة، ولكننا لم نر شيئا من هذه التدابير التي أجمع الكل على طلبها، فإذا كانت الحكومة لا تنوي اتخاذ هذه التدابير، فإن هناك فئة كبيرة من النواب الذين يشعرون بمسؤولياتهم القومية مستعدون لأن يتقدموا باقتراحات القوانين اللازمة لطمأنة الشعب بجميع فئاته.
فأجاب رئيس الحكومة :
"إن من حق الشعب أن يكون قلقا مضطربا من هذه الجناية الجانية على أمن الدولة الداخلي والخارجي. وعلى هذا نشعر بمسؤولياتنا أمام هذا الحدث الكبير والحكومة جادة بدراسة مشروع تضمن فيه ضمائن العدل مع التشريع والتعجيل باختصار المهل الزمنية كي لا يطول الأمر كثيرا ايجابا للنصوص والتشاريع القائمة النافذة".
كان لهذا الموقف المائع أثره الكبير في تشجيع السوريين القوميين لشن حملة مركزه من لبنان الذي جعلوه مركزا لنشاطهم وانطلاقهم ضد النظام في سورية يؤيدهم رئيس الجمهورية كميل شمعون والسلطات اللبنانية ومعظم أجهزة الاعلام. وكانت جريدة صدى لبنان التي يقوم على تحريرها السوريون القوميون تحمل لواء الهجوم على سورية تؤيدها الصحف الأخرى المتصلة بالدوائر الاستعمارية وحلف بغداد، وكان السوريون القوميون الفارون من سورية قد لجؤوا الى لبنان فاحتضنهم كميل شمعون والسلطات اللبنانية فاستمروا في تآمرهم مؤيدين من شتى الجهات الاجنبية.
وقد وضع خالد بكداش بخطابه في المجلس النيابي القضية في موضعها الصحيح حين قال :
"ليست القضية قضية محاكمة تتناول عددا ضئيلا من الناس وانما هي قضية سياسية كبيرة، وتريد العصابة المجرمة القاتلة الغادرة أن تصرف الأنظار عن الجريمة ودوافعها والواقفين وراءها بإثارة ضجة مصطنعة حول الوضع في سورية، وأنها أصبحت ماركسية ووراء الستار الحديدي الى آخر ما هنالك، وان خالد بكداش قد اصبح في سورية صاحب الكلمة الأولى".
وأمام هذا البحث حاول رئيس المجلس أن يبوخ كلام خالد بكداش فقاطعه قائلا :
"وأنت ما رأيك في ذلك؟ فضج المجلس الضحك... ولكن بكداش تابع قوله:
"إن اخواننا البعثيين قد اتهموهم بأنهم من الماركسيين ويقولون أن الماركسية في سورية قد أصبحت مسيطرة، إن هذا تهويش كبير يجب أن نقف في وجهه".
كيف انتهت الأزمة
رفض رئيس الجمهورية التوقيع على مشروع القانون الذي تقدمت به الحكومة إليه لرفعه إلى المجلس النيابي والذي يقضي بتعديل قانون العقوبات العسكري من حيث اختصار المهل القانونية وخاصة ما كان يتعلق بمدة التمييز، فتقدم به عدد من النواب بالاتفاق مع الحكومة الى المجلس طالبين استعجال النظر فيه فأقره المجلس بالصيغة التالية :
1- في الجرائم الداخلة في اختصاص المحاكم العسكرية والماسة بأمن الدولة الداخلي والخارجي وفي جرائم انتماء العكسريين للأحزاب السياسية والاشتراك في الاعمال السياسية وجرائم الخيانة والتجسس والتجنيد لصالح العدو، يقصر ميعاد التمييز المنصوص عليه من المادة 15 من قانون العقوبات العسكري إلى خمسة أيام، والميعاد المنصوص عليه في المادة 26 من القانون المذكور إلى ثلاثة أيام.
2- على محكمة التمييز ترجيح القضايا المذكورة المرفوعة إليها على غيرها والبت بها في ميعاد ثلاثة أيام عمل إذا كان التمييز متعلقا بقرار صادر عن قضاة التحقيق، وثمانية أيام عمل إذا كان التمييز متعلقا بحكم أو بقرار صادر عن إحدى المحاكم العسكرية. تبدأ هذه المدد من اليوم التالي لوصول إضبارة القضية الى ديوان المحكمة.
3- يعود لمج