الحلقة الرابعة
رفعت الأسد قال لرئيس جامعة دمشق أثناء الامتحانات: العمى في قلبكم ابعثوا لنا أستاذا يدلنا أين توجد أجوبة الأسئلة
ما كاد العميد رفعت الأسد يحصل على الاجازة في التاريخ في العام 1974 (عندما كان العميد رفعت منتسبا الى الجامعة (قسم التاريخ) شكا لي رئيس القسم الدكتور محمد خير فارس بان رفعت يأتي مع مفرزة من الحرس الى الجامعة ايام الامتحان ولا احد يجرؤ من المراقبين ان يقول له شيئا فماذا افعل؟,,,
قلت له: لا تفعل شيئا لانه لن يعمل لديكم استاذ تاريخ!,,, وما كاد رفعت ينهي الاجازة في التاريخ حتى سجل في كلية الحقوق هو وزوجته «لين» وابنه «دريد» وكانوا يقدمون الامتحان سوية في غرفة رئيس الجامعة «الدكتور زياد شويكي» حرصا على امن الطلاب وامن المعلومات، وعندما جاءتهم الاسئلة مع فناجين القهوة وكتب السنة الاولى قال لهم رفعت: العمى في قلبكم,,, ابعثوا لنا استاذا يدلنا اين توجد الاجوبة لهذه الاسئلة) حتى أسّس (رابطة خرّيجي الدراسات العليا) وأخذ موافقة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية (تأسست الرابطة استنادا الى الامر رقم (985) تاريخ 26/9/1974 وحلت استنادا الى الامر رقم (1212) تاريخ 10/9/1984) على ذلك لكي يكون عمله تحت المظلّة القانونية، وأعطى تبريراً لعمله بأنّ مصلحة الرئيس الأسد أن يكون خريجو الدراسات العليا موالين للنظام على اعتبار أن شقيقه رفعت هو رأس الهرم في هذه الرابطة، وانتشر الخبر بسرعة البرق ولم يبق انتهازي أو متسلّق أو متطلّع الى السلطة أو التقرّب من وهجها الاّ وانخرط في هذه الرابطة (كخرط الدب على العنب).
وتمّ توزيع السيارات والهدايا غير الرمزية على كبار المريدين والمسبّحين بحمد رئيس الرابطة وفضله، واختير السيد غسان شلهوب نائباً لرئيس الرابطة (كانت الدكتورة «لين الاسد» زوجة العميد رفعت هي النائب الاول وكانت القرارات التي تصدر بغياب «ابو دريد» وقرينته باطلة, ورغم ذلك قبل غسان شلهوب بهذه الوظيفة الشكلية),, وجاءت أحداث الاخوان المسلمين في نهاية السبعينات وأوائل الثمانينات لتعطي الدليل القاطع أنّ الرابطة لا وجود لها وأنّ هذا العدد الضخم كان كغثاء السيل أو حزمة من القش لا تغني عن الحق شيئاً.
وعندما حدثت الأزمة ظنّ أعضاء الرابطة بأنّ الوقت قد حان لقطف ثمار جهودهم فبدأوا يهاجمون جهراً الرئيس حافظ الأسد في مجالسهم الخاصة ويتّهمونه بالديكتاتورية، وأنّ العميد رفعت راعي الديموقراطية في هذا البلد وعقدوا مؤتمراً لهم في فندق «الشيراتون» حضره ما هبَّ ودبَّ (من الجنادب والخنافس والقراد) (قال الشاعر العربي «نديم محمد» يصف المنتسبين الى الاتحاد القومي ايام الوحدة: من هؤلاء؟,,, من الجنادب والخنافس والقراد,,,, ابهم بهم,,, تزهو وتنتصر البلاد), ولم تسعف القريحة العميد رفعت فبدأ حديثاً سياسيّاً مشوّشاً عن الديموقراطية والأوضاع العامة في سورية بحيث لا يمكن لأحد أنْ يفهم منه شيئاً حتى ولو حاول ذلك وبذل قصارى جهده وانفضّ المؤتمرون وهم في حيص بيص وأدركوا أنّ أيام الرابطة غدت قريبة وأنّ أحلامهم ذهبت أدراج الرياح لأنّ ما بني على باطل فهو باطل.
وعلى الرغم من ادراكي المسبق أنّ الرابطة أصبحت في حكم المنتهية فقد اتصلت بعدد من الأصدقاء المتورّطين بالانتساب الى الرابطة وطلبت اليهم الانسحاب وبذلك قد أسهمت في تهديمها من الداخل والخارج.
وفي زحمة العمل على الاتّجاهات كافة اتّصل بي هاتفياً الرفيق وفيق عرنوس عضو الرابطة وقال لي: هل تضمن لي سلامتي؟,, فأجبته »بأنّي سوف أضمن لك عدم دخولك السجن اطلاقاً,, أمّا موضوع فصلك من الحزب فلا أستطيع أبداً أنْ أعد في ذلك، ومقابل هذا الضمان وعدني بأنّه سيوافيني بالسجلات كافة الموجودة في الرابطة وأنْ يأتي بها الى البيت حتى لا يشاهده أحد, وفي الساعة الواحدة ليلاً أعلمتني زوجتي بأنّ الأمانة وصلت,, قلت: أرسليها فوراً الى المكتب وقضيت ليلةً كاملةً وأنا أراجع ملفّات رابطة خريّجي الدراسات.
المهم أرسلت الوثائق الى القصر الجمهوري فأمر السيد الرئيس بوضع رابطة خرّيجي الدراسات العليا تحت الرقابة المشدّدة, وبعد أن انتهت الأزمة، أصدرت القيادة القطرية قرارها رقم /574/ تاريخ 5/7/1984 طلبت فيه الى الرفاق المنتسبين الى الرابطة أنْ يتخلّوا عن هذا الالتزام ويكرّسوا كلّ نشاطهم السياسي للحزب وأنذر القرار بفصل كل رفيق يخالف هذا التوجيه، وبذلك اختفت من الساحة رابطة خرّيجي الدراسات العليا التي كان ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.
زيارة الوحدات والتشكيلات
بعد أنْ أصبحت القيادة العامة للقوات المسلحة في وضع آمن وكذلك القصر الجمهوري ومنـزل السيد الرئيس قرّرتُ أنْ أنطلق بزيارات ميدانية لأنواع وصنوف وتشكيلات قوّاتنا المسلّحة كافة، وكان يرافقني بهذه الزيارات العماد علي أصلان نائب رئيس الأركان, وفي كلمتي التوجيهية العامّة التي كان يحضرها الضباط وصف الضباط والجنود كنت أهاجم بقسوة الهيمنة الاميركية وعملاءَها في المنطقة ودعم اميركا غير المحدود للعدو الصهيوني وتحيّزها المكشوف له ومعاداة كل هدف يخدم مصلحة الأمة العربية, وكنت أنوّه بالمآثر القيادية للرئيس حافظ الأسد ودوره في بناء سورية الحديثة وحرب تشرين (اكتوبر) وحرب الاستنـزاف والحرب التي خضناها ببسالة منذ أقل من عامين للدفاع عن استقلال لبنان ليبقى دائماً عربيّ الوجه واليد واللسان، كما كنت أشيد بالدور الوطني الذي لعبته المقاومة اللبنانية ضد الجيش الاسرائيلي وضد الجيوش الأجنبية التي جاءت لتشدّ من أزرِ اسرائيل ضد أمّتنا العربية، وكانت هذه الكلمات تلاقي صدىً ايجابياً لدى المستمعين كافّة.
وفي اللقاءات الخاصة مع الضباط حتى مستوى قائد كتيبة كنت أضعهم في صورة المؤامرة كاملةً وأسمّي الأسماء على المكشوف بصراحتي المعهودة، وفي نهاية الجولة كان التشكيل الذي أزوره يقدّم لي وثيقة عهد بالدم ولاءً للسيد الرئيس.
وكانت أخبار اللقاءات تصل للسيد الرئيس حافظ الأسد سواء عن طريق القنوات الرسمية أو الخاصة، وكان سعيداً بالنتائج وأنّ الجولات بدأت تعطي ثمارها ميدانياً وقد سحبت البساط من تحت أقدام رفعت ولم يعد أحد في القوات المسلحة ينخدع بأنّه الحارس الأمين لشقيقه سيادة الرئيس، وسألني القائد الأسد فيما اذا كنت أقوم بهذه الجولات يوميّاً، واعترفت للرفيق الأمين العام للحزب بأنّ العماد مصطفى طلاس لم يعد مثل المقدّم طلاس أيام زمان عندما كان يفلح الأرض شرقاً وغرباً في أوائل ثورة الثامن من آذار (مارس) وابّان الحركة التصحيحية وفي أيام الاعداد لحرب تشرين المجيدة!, فقال: اذن كيف تبرمج وتيرة العمل؟,, فأجبت أقوم بزيارة التشكيلات يوماً وأرتاح في العمل المكتبي يوماً آخر، فقال: هذا جيد تابع العمل على الوتيرة نفسها والنّهج ذاته.
وكان موعد السابع عشر من نيسان (ابريل) 1984 مكرّساً للقاء مع الفرقة الخامسة في موقع ازرع، وطلبت الى قائد الفرقة اللواء أحمد عبد النبي أنْ يدعو قيادة الفرع في درعا وأمناء الشعب الحزبية كما يدعو الوجهاء والمثقفين والمخاتير وزعماء العشائر كافة في حوران لأنّ السابع عشر من نيسان (ابريل) هو عيد وطني لشرائح المجتمع كافة ويجب أنْ يعكس الاحتفال هذه الحقيقة، ولبّى المدعوون جميعاً الدعوة وازدان المكان بصور الرئيس حافظ الأسد وأعلام الحزب وأعلام الجمهورية غير أنّ أمين الفرع أحمد زنبوعة، والمحافظ محمد مصطفى ميرو اعتذرا عن الحضور بحجّة أنّ لديهم جولة حزبية في وادي اليرموك، قلت لقائد الفرقة : ألم تقل لهم إنّني قادم الى المحافظة بتوجيه من السيد رئيس الجمهورية حافظ الأسد وإنّ اللقاء رسمي وليس جولة عسكرية أو حزبية، فقال: والله لقد قلت لهم ذلك ولكنّهما آثرا التملّص لسبب ما أجهله، فقلت له: انّهما من المنافقين المرتبطين مع العميد رفعت الأسد وسوف أجعلهما يدفعان ثمن الهروب مهما طال الزمن (قمت برد الجميل لهذين الرفيقين اثناء الانتخابات للمؤتمر القطري الثامن التي جرت في خريف العام 1984 وكلفت اللواء عدنان بدر حسن ان يتابع الموضوع، ورشح المذكوران نفسيهما في شعبة الصنمين هروبا من المواجهة في مركز المحافظة (درعا)، ولم يعلما ان ايدينا واصلة لانحاء سورية كافة في الحزب والسلطة، وما هي الا جولة انتخابات واحدة حتى تهاوى الرفيقان ساقطين على الارض مثل المشمش الكلابي وخرج الرفاق المقترعون من الشعبة واصطفوا حلقة دبكة فرح وكأنهم في عرس وطني، اما الرفيقان الساقطان على دروب النضال فقد خرجا وهما مطأطئي الرأسين وعلى محيا كل منهما ترتسم كل معاني الهزيمة والخيبة والاعتراف بالذنب، وقد تأكد لي بعد ذلك ان الرفيق (ميرو) كان ضحية (زنبوعة) الذي اوحى له بان الاخوة لن يتقاتلوا خلينا على الحياد, وبعد عتاب رقيق للاخ ابو مصطفى قلت له: صافي يا لبن خلي كل اوراقك مع الرئيس حافظ الاسد).
علم العميد رفعت الأسد بهذه الزيارات الميدانية فحاول أنْ يستبق الموضوع وبعث الى سيادة الرئيس عهداً كاذباً بالدم من سرايا الدفاع ولكن الكلام الذي يخرج من القلب يدخل الى القلب أمّا الكلام الذي يخرج من اللسان فلا يكاد يتجاوز الآذان ومن هذا المنطلق لم يجد (عهد النّفاق بالدم) الذي أرسله العميد رفعت أي صدىً لدى سيادة الرئيس.
وبعد اثنتين وستين جولة ميدانية في المناطق العسكرية كافة وتشكيلات قوّاتنا المسلّحة بأنواعها وصنوفها تمّت صياغة كتاب (عهد بالدم) الذي قدّمته لسيادة الرئيس في عيد ميلادي الثاني والخمسين أي في 11/5/1984. وكانت المقدّمة التي تصدّرت وثائق العهد بالدم من أروع ما كتبت في النواحي السياسية والقومية, ولذلك رأيت أنْ أذكرها تفصيلاً في نهاية هذا الفصل ليعيش معي القارئ الأجواء التي كانت تدور فيها لعبة الصراع على السلطة.
يوم الجمعة الحزينة
في الساعة الخامسة بعد الظهر اتصل اللواء علي حيدر من مقرّه في معسكرات القابون وأبلغني بأنّ المعلومات المتوافرة لديه أنّ سرايا الدفاع بدأت بالتحرّك من بين أشجار الزيتون باتجاه دمشق، وبعد لحظات اتصل العميد عدنان الأسد قائد سرايا الصراع ضد الدبابات وقال إن سرايا الدفاع تحرّكت باتجاه دمشق وانّه يراها من معسكر «المعضّميّة» بالعين المجرّدة، كما أعلمت مفارز المخابرات العسكرية المنتشرة على محاور الطرق كافة المتّجهة الى دمشق بهذا التحرّك، وهتفت الى الرئيس الأسد وأعلمته بالأمر وبعد أقل من دقيقة هتف الرئيس الأسد وقال لي: لقد اتصلت بالعميد رفعت وأكّد لي أنّ المعلومات التي أعلموك بها كاذبة ولا أساس لها من الصحّة, وقلت للرئيس الأسد انّني على يقين كامل بأنّ العميد رفعت قد أمر عناصره بالتحرّك وهو يريد أنْ يكسب الوقت، وقال لي: سأتّصل من جديد وأعلمك, وبعد خمس دقائق لم يتّصل وانّما اتصل العميد عدنان مخلوف قائد الحرس الجمهوري وقال إن السيد الرئيس قد توجّه بمفرده الى مقر شقيقه رفعت الأسد (في ضواحي المزّة) وأعطاه التوجيه التالي: اذا لم أعد بعد ساعة من الآن قل للعماد طلاس أنْ ينفّذ الخطّة وعليك في الوقت نفسه أنْ تعطي التعليمات لقادة الفرق ألا ينفّذوا أيّ أمرٍ الاّ اذا كان صادراً عن العماد طلاس.
كانت الساعة التي غاب فيها الأسد عن عرينه تعادل دهراً بكامله (وأنّ يوماً عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون) (سورة الحج الاية 47) كانت القيادة تعيش على أعصابها وكذلك قادة التشكيلات الضاربة لأنّ المعركة ستكون ضارية ولا أحد منّا يريد أنْ يصاب مواطن بريء بأذى، وكان العميد رفعت يطبّق تكتيكات صديقه ياسر عرفات (أبو عمار) لأنّ من عادة المذكور الاختباء بين المدنيين حتى لا تطاله الضربة مباشرةً, وجاءنا الفرج قبل خمس دقائق من الموعد المحدد لتنفيذ الخطّة، فقد تمكّن الأسد بحكمته وشجاعته وحنكته من أنْ ينـزع فتيل الأزمة وتمّ سحب الدبابات من المواقع التي وصلت اليها في جنوب وشمال دمشق, وحتى يعيش القارئ في جوّ الأحداث سأروي له ما جرى في تلك الجمعة الحزينة.
الرئيس الأسد مع شقيقه رفعت على أنْ ينتظره رفعت في نهاية طريق «أوتستراد المزّة» ومن هذه النقطة توجّها الى الطريق المحلّق الذي يؤدّي الى المطار والى دوّار «كفر سوسة», وفي دوار «كفر سوسة» ترجل الرئيس وشقيقه وقال له: انظر بعينيك الى الدبابات التي كنت تزعم أنها لم تتحرك وطلب الرئيس الأسد الى قائد السرية الملازم أول معين بدران أن يعيد الدبابات الى مكان تمركزها، ولكن قائد السرية بقي في مكانه متجاهلاً أوامر سيادة الرئيس وكأنه آخذ سيجارة حشيش: وكان رفعت مسروراً من هذا المنظر لكي يوحي الى السيد الرئيس بأن الأمور خرجت من يده و أنه غير قادر على لجم اندفاع الضباط وحماستهم في مؤازرته للاستيلاء على السلطة، هنا خرج الرئيس الأسد عن هدوئه المعهود وقال لقائد السرية بصوت قصم ظهره: أنا قلت لك أرجع الدبابات يعني أرجع الدبابات الى أماكنها فوراً، عندها صعد العميد رفعت بحركة مسرحيّة على ظهر الدبابة وصفع الملازم معين كفاً على خدّه قائلاً له نفّذ أوامر الرئيس هل أنت أطرش لا تسمع (في الليلة نفسها ارسل العميد رفعت الى قائد السرية المذكور مبلغ عشرين الف ليرة (تعادل خمسة الاف دولار في ذلك الحين) كترضية عن الكف الذي صفعه اياه, ولما مات هذا الضابط بعد سبع سنوات من الحادثة رثاه العميد رفعت بكتاب يدل على عمق ارتباطه به) وعادت الدبابات الى أماكنها وعاد الرئيس الأسد والعميد رفعت كلّ الى مقر قيادته, وهكذا انزاحت الغيمة السوداء عن صدورنا، وعن صدر الوطن.
خطة القيادة فـي مجابهة سرايا الدفاع
لم نضع خطّة عمليّاتيّة لمجابهة المشكلة التي نواجهها لسبب بسيط وهو اختلال ميزان القوى وميلانه بشكلٍ راجح الى جانب الرئيس حافظ الأسد، وكانت سرايا الدفاع تعادل واحدا الى عشرة بالنسبة لقوّة الجيش البريّة بالاضافة الى سلاح الطيران وقوات الدفاع الجوي وسلاح المدفعية والصواريخ والاستطلاع والهندسة والتسليح، ووحدات وتشكيلات القيادة العامة كافة هي مع الرئيس الأسد حُكماً واذا كان هناك بعض الخروقات فقد انقلب المنافقون على أعقابهم بمجرّد الاعلان أنّ رفعت الأسد أصبح مناهضاً للنظام وقد سُحِبت عنه مظلّة أخيه الرئيس حافظ الأسد وغدا بمفرده يحيط به بعض أصحاب المصالح مثل محمد حيدر نائب رئيس مجلس الوزراء السابق، والعماد ناجي جميل رئيس مكتب الأمن القومي والقوى الجويّة السابق، وحفنة من المرتزقة تذكّرنا بقول الشاعر سليمان العيسى يصف جماهير المنافقين والانبطاحيين والامعات من الاتحاد القومي في حلب الذين هرعوا الى المطار وتزاحموا مثل الكلاب على الطريدة الميتة ولم يتركوا مجالاً للمثقّفين وأصحاب الشأن للقيام بواجبهم.
والتفت شاعرنا وقد أضاع «شاروخه» في الزحمة الى زميله المقدّم مروان السباعي المسؤول الأمني في المنطقة الشمالية وقال له:
«وحولك «رَكَّةٌ» تدعى اتّحاداً
فَخُذْ نعلاً ودق بها وآجر».
ومع كل هذه الحقائق والتوضيحات فقد وضعنا تصوّراً لمجابهة التمرّد على الشكل التالي:
لدى تحرّك وحدات سرايا الدفاع لاحتلال الأهداف الرئيسية في مدينة دمشق يقوم سلاح الطيران بتوجيه ضربة كثيفة بالقنابل الارتجاجية والصواريخ المضادة للدبابات مدّتها ثلاثون دقيقة, بعد ذلك تقوم صواريخ أرض ـ أرض بتوجيه ضربة نارية الى مواقع الخصم وفي الوقت نفسه تقوم طائرات «الغازيل» والـ «مي 25» التي تحمل صواريخ «جو ـ أرض» بالتحليق فوق التشكيلات المناوئة لضرب أي تحرّك!, كما تقوم بالمهمة نفسها وحدات سرايا الصراع ضد الدبابات واللواء «65» (احتياط القيادة العامة المضاد للدبابات).
في اللحظة نفسها ومع بداية الضربة الجوية يكون الرئيس الأسد والعماد رئيس الأركان ونائب رئيس الأركان لشؤون العمليات والتدريب وعدد من الضباط الأمراء والمساعدين من الاختصاصات كافة قد غادروا دمشق الى موقع قيادة تبادلي في معسكرات الجلاء (الكسوة)، ويبقى اللواء «91» دبابات كحراسة مباشرة لمقر القيادة بينما تتوجّه بقية ألوية الفرقة لتشتبك مباشرة مع ما تبقّى من سرايا الدفاع في معسكر »المعضّميّة«، وتكون الفرقة التاسعة نسقاً ثانياً للفرقة الأولى لمتابعة مهمّتها اذا لزم الأمر,.
كما تقوم الفرقة الثالثة بالاستيلاء على مقرّات وحدات سرايا الدفاع في موقع «يعفور»، وكان موقع تمركزها الميداني في وادي القرن يساعدها على انجاز المهمة وتكون الفرقة السابعة كاحتياط للفرقة الثالثة اذا لزم الأمر.
وتم الاتفاق على أنْ أظلَّ في مقر القيادة الرئيسي ومعي رئيس هيئة العمليات وقائد القوى الجوية وقائد الدفاع الجوي ورؤساء الهيئات التي لها علاقة بالتأمين القتالي (المادي والفني والطبي).
كان قادة التشكيلات يحثّونني على اقناع الرئيس الأسد بتنفيذ الخطة وكذلك أجهزة القيادة العامة جميعاً، وكان أكثر المتحمّسين العماد حكمت الشهابي والعماد أصلان واللواء علي دوبا وقادة الفرق كافة، وكنت أقول لهم:
لقد كلّمت الرئيس ثلاث مرّات حول الموضوع وكان جوابه الوحيد: أبو فراس اتركوا لي هذا الموضوع فأنا أعالجه بحكمة وعلى نارٍ هادئة، يجب أن تظلّوا في حالة الجاهزية الكاملة وعيونكم مفتوحة,, فقلت له: انّ أعصاب الرفاق محروقة, فقال: أعطيهم مهدّئات، وكنت أنقل للرفاق في القيادة والتشكيلات المقاتلة توجيهات السيد الرئيس، ومع ذلك كانوا يلحّون عليّ يومياً ويقولون: متى نبدأ؟، وكنت أجيب ظلّوا هكذا والاصبع على الزناد، على أنّ ضغط ضباط القيادة والتشكيلات كان بكفّة وضغط زوجتي أم فراس كان بكفّة ثانية، فزوجتي بطبعها محروقة ولذلك كل يوم وعبر القناة الهاتفية تطالبني بالحسم وكان جوابي دائماً اتركي لنا هذا الموضوع، ولكنّها لم تيأس فكانت دائماً تلجأ الى ولديَّ (فراس ومناف) لكي يعزفا على اللحن نفسه ولكن النتيجة كانت واحدة في جميع الحالات, ولم تهدأ الأعصاب وتستقر النفوس الاّ بعد أنْ بدأت المفاوضات الجديّة بين الرئيس الأسد وشقيقه الأصغر لحلِّ الأزمة.
فشل كمين مطعم العندليب
كان قادة الفرق والتشكيلات يتكلّمون مع العميد رفعت الأسد بقصد اخافته وارهابه بأنّ أي تحرّك معاد ضد الرئيس الأسد سوف يجابه بالقوة، وكانوا ينقلون ردود فعله الى سيادة الرئيس أولاً ثم الى القيادة العامة ثانياً، وفي احدى المرات، قال له اللواء ابراهيم صافي قائد الفرقة المدرعة الأولى : أخي أبو دريد شو رأيك بأنْ أدعوك الى الغداء في مطعم العندليب وهناك تلتقي مع قادة الفرق وتحدّثهم بنفسك عن أسباب الأزمة الناشبة بينك وبين سيادة الرئيس دون مراسلين؟، وكان جواب العميد رفعت بالموافقة وتم تحديد التوقيت الساعة الثانية بعد الظهر.
أعلمني اللواء ابراهيم صافي بذلك وقال لي لقد وضعت الرئيس الأسد بالصورة وكذلك العماد حكمت واللواء علي دوبا, والشباب محضّرون وجاهزون لاعتقاله مع مرافقته.
اتّصلت بالرئيس الأسد وقلت له: اذا رفض العميد رفعت الاستسلام وأصرّ على المقاومة، ماذا نفعل؟, فأجاب: انّها شريعة الحرب امّا غالب وامّا مغلوب وأنا لا أريدك الاّ غالباً.
جاء نهار الغد ونحن ننتظر ساعة الصفر، ولكن العميد رفعت كان حذراً مثل القاق الأسود (يرى العماد حكمت الشهابي ان اللواء شفيق فياض قائد الفرقة الثالثة نصح العميد رفعت بعدم تلبية الدعوة حقنا للدماء ولاعتقاده الجازم بان رفعت سوف يستسلم من تلقاء نفسه فلماذا العجلة لاسيما وكانت هناك اخبار مصاهرة بين علاء فياض ابن اللواء شفيق وابنة العميد رفعت «تماضر الاسد») فلم يحضر الى المكان المذكور وأرسل بدلاً منه ست عربات (G,M,C) بيك آب مزوّدة بزجاج دخاني تسمح لمن بداخلها فقط بأنْ يرى ولا يُرى، وهي مملوءة بالعناصر المرقّطة والمبرقعة.
وبدلاً من أنْ تتوقّف أخذت تمرّ من أمام المطعم لتقول نحن جئنا حسب الموعد، فماذا تنتظرون؟، وسألني اللواء صافي ماذا نفعل؟, فأجبته: اتركهم وشأنهم وسيعودون الى وكرهم اذا أبديتم عدم اهتمامكم, وأعلمت الرئيس الأسد بالأمر، فقال: حسناً تصرّفت.
مآثـر لا تُنسى
وقبل أنْ أُنهي هذا الحديث لابدّ لي أنْ أتكلّم عن بعض المآثر التي نفّذها ضباط وصف ضباط وجنود من رجال جيشنا ومواطنون أثناء الأزمة ليكون ذلك عبرةً للأجيال القادمة.
ـ عندما جدّ الجد وتبيّن للعالم كلّه أنّ العميد رفعت الأسد ليس الحامي لشقيقه الأكبر وانّما الطامع في السلطة دونما وجه حق، هرب عدد من ضباط سرايا الدفاع وانضمّوا الى قواتنا وكان في مقدمهم العقيد علي ديب، حيث التحق بالفرقة الثالثة المدرّعة (وذلك لقرابة بينه وبين قائد الفرقة اللواء شفيق فياض) كما التحق عدد من من ابناء بلدتي «الرستن» بمكتبي وأبقيتهم في مفرزة الحراسة حتى نهاية الأزمة.
ـ ورغم حرص الأم على أولادها فانّ زوجتي لم تمنع ولدينا (فراس ومناف) من حمل السلاح الفردي والمبيت في مبنى القيادة العامة كحرس مباشر لأمني القريب مع أنّني أكثر الناس ايماناً بالقضاء والقدر وأنّ صاحب العمر الطويل لا تقتله المصائب، ومع ذلك عندما أتذكّر هذه المآثرة تعود بي الذاكرة الى أيام العرب الأولى كيف كانت القبيلة طرفاً واحداً كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضاً.
- قام عدد من صف الضباط في سرايا الدفاع بِنـزعِ ابر مدافع دباباتهم من كتلة المغلاق ووضعوها في سلّة وقدموها هدية شخصية لسيادة الرئيس، وهذا ما أعطانا الاطمئنان بأنّ جاهزيّة الدبابات في سرايا الدفاع قد هبطت الى النصف بعد هذه العملية الجريئة والمفاجئة والتي تستحقُّ كلَّ تكريم.
ـ كان التفاف المواطنين بفئاتهم كافة حول القائد الأسد ذا معنى كبير جعل معسكر الخصوم في (حيص بيص) لا يدرون ماذا يفعلون وكان كلّ يوم يمضي تزداد قوّتنا وتتضاءل قواهم حتى وصلوا الى حد القناعة المطلقة بأنّ أي صِدام بين الطرفين سيكون وبالاً عليهم لا محالة.
حقّاً انّ شعبنا العربي السوري من أفضل شعوب الأرض قاطبةً والشعوب والأمم لا تُعرفُ الاّ عند الشدائد، وقد أثبت شعبنا جدارته بالحياة والمجد حين تعلّق بالرئيس الأسد وترك المغريات الأخرى كافة التي طرحها الطرف الآخر ومن جملتها الانفتاح الاقتصادي.
أجل لقد جاء الانفتاح الاقتصادي ولكن في عهد الرئيس الأسد جاء لمصلحة الشعب كلّه، ولو تمّ في عهد سواه لكان نصيب القطط السمان هو نصيب الأسد ونصيب الشعب كلّ الفُتات الذي لا يُسمن ولا يُغني عن جوع.