أطلعني الشاعر الكبير جورج جرداق، على فصول مساجلة بينه وبين
الفنان الراحل عاصي الرحباني، على صفحات مجلة «الشبكة» قبل نحو ثلاثين عاماً.
فقد بدأ توزيع المجلة ينخفض. ونادى سعيد فريحة على شاعر «هذه ليلتي» وقال له،
ما العمل؟ الناس في هم وفي غمّ ولم يعد شيء يسليها. فالنشاط الفني في لبنان
شبه معدوم والنفوس قلقة. ساعدنا على شيء يفرحها. وفكّر جورج جرداق قليلاً، ثم
ضرب بيده على الطاولة ضاحكاً وقال: عندي!
حاول سعيد فريحة ان يسأله عما عنده، فلم يجب. وخرج الى منزله واتصل بأقرب
وأحب الاصدقاء اليه: عاصي الرحباني! وقال له، اسمع: لقد سئمت الهجاء نثراً
وأريد العودة الى الشعر. لكن نفسي وكرامتي لا تسمحان لي بأن اهجو «مين مكان».
وضحك عاصي: بدك تهجيني وأنا رد عليك! وقال جرداق «هكذا يفهم العباقرة على
بعضهم البعض».
وبعد أسبوع ضجت بيروت والصحافة، وخصوصاً «دار الصياد» عندما ظهرت زاوية جورج
جرداق وفيها قصيدة بدلاً من مقالته الاسبوعية. والقصيدة هجاء لمسرحية
الرحابنة «جبل الصوان» التي كانت قد عرضت قبل سنة.
وفيها:
مشخصوها رجال من عينة الصيصان
وتحت أنف الصبايا شوارب الفرسان
ينام منصور فيها كنومة الفئران
على شتائم عاصي أرومة السنديان
انقسم الوسط الفني والوسط الصحافي حول الحرب الشعرية بين جورج جرداق
والرحابنة. وفي السر كان عاصي يتصل بجرداق ليقول له: «أهج انت فلاناً قدر ما
تستطيع، فأدعي انا الدفاع عنه، ولكن بغير نفس». الوحيد الذي ادرك سر اللعبة
كان الفنان الكبير محمد عبد الوهاب، الذي قال لجرداق ذات مساء: «باقولك ايه،
والنبي نروح الليلة نسهر عند عاصي». ورد جرداق بعفوية: «فوراً». فقال عبد
الوهاب: فضحتكم يا كدابين. دانتو بتضحكو على بني آدم كلهم».
بعد السهرة عند عاصي مع عبد الوهاب، نشر جرداق الاسبوع التالي، القصيدة
التالي بعضها:
اني حلفت بمهرتي وحصاني ومهندي وشوارب النسوان
باذاعة تلفانة خرفانة وبكل ما فيها من الألحان
بوزارة الأنباء ليلة عرسها وبرأس ذيل حكومة الشبان
وبطلعة النواب وهي بهية شعبية محبوبة الاذقان
وبكل دكان تبيع سياسة وطنية، وبصاحب الدكان
بزعامة طنانة يسعى لها حامي الحمى ومهرب الدخان
وبكل رادح وكل مهرج يحكي عن الأمجاد في لبنان
وبمسرح «الرقص» الأبي وما حوى من نخوة الغلمان والخصيان
بمشخصين اذا رأيت شخوصهم ادركت بؤس مصاير الانسان
وبموجة الشعر الحديث، وبحره حنفية يلهو بها قردان
ودكاتر الادب الذين تمنطقوا بشهادة نسخت عن الكوثان
فكأن واحدهم بمملكة النهى آغا الحريم بموكب السلطان
بالمعلنين على جلالة قدرهم بالشاشة الصغرى، وبالاعلان
بالمطربين الصاعدين وليلنا بزعيقهم ونهيقهم ليلان
اني سأبطح بالفلاة عصابة مشهورة بمصابة الرحباني
في رأسها عاصي الذي في رأسه قبوعة كمسداس يوستنيان
أغراه شيطان الهجاء بوقعة ملعونة لما انبرى وهجاني
بقصيدة مخلوعة مفقوعة مرقوعة مهزوزة الاوزان
تجري بلا مضى ولا مبنى ولا بيت ولا اهل ولا جيران
في رأسها عرج، وفي اقدامها مغص، ودوحسة على الأجفان
جربوعة ترتوعة لا وحيها وحيي، ولا ميزانها ميزاني
أمة تباع بربع فلس بائر يغزى بها كسرى انو شروان؟
فركوشة عركوشة، يا حسنها هي والذي ادلى بها سيان