آخر الأخبار

صفحات من تاريخ سوريا-الإنقلاب الأول

الانقلاب العسكري الأول

إحجام القوى التقدمية عن الإمساك بالراية

رأينا في هذه الدراسة أن الوثنية القوتلية وقفت حاجزاً أمام تطور الحركة الوطنية السورية من ذلك الشكل الذي أمكن به تحقيق جلاء المستعمر الفرنسي عن أرض الوطن إلى شكل أعلى يجعل من سورية قاعدة انطلاق للثورة العربية الكبرى ضد النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي لتحقيق أهداف العرب القومية، التي تُجْمَلُ بإقامة الدولة العربية الموحدة على كامل أرض الوطن العربي مع إنقاذ فلسطين من براثن الصهاينة. فالرأسمالية هي التي هدمت دار الإسلام ومزقت الأمة العربية وشتتت شمل أقطارها واستعبدتها. وقد نجحت تلك الوثنية بتيارها الممالئ للمستعمرين، ومن ورائها المستعمرون، في تدمير كل ظرف يحوّل سورية إلى تلك القاعدة المذكورة: أصبحت الجماهير السورية بكل قواها الوطنية في أواخر عام 1948 ومطلع عام 1949، أي بعد النكبة مباشرة، مقيدة باشتباك معقد مع تلك الوثنية لا يحررها منه لتنطلق لتحقيق تلك القاعدة القومية للجهاد إلا النصر السريع عليها دون أن يُترك مجال للانتهاز والوصولية وقصر النظر في كل الفئات الاجتماعية ولعملاء المستعمرين بشكليهم القديم والجديد للتدخل وزيادة التعطيل والتأخير في المسيرة القومية. ولكن هيهات فالأمور جرت كما أرادته لها الجهات الاستعمارية، بكل أسف. فهذه الجهات كانت قد هيأت عناصرها ووضعتهم في وقت مبكر، بمساعدة الوثنية، في مواقع العمل: في الجيش مثلاً وبين مختلف فئات الحكم والمعارضة، بهدف إجهاض المسيرة الوطنية. فكانت تلك العناصر العميلة، كما مر معنا في هذه الدراسة، تدفع زلمها للتعرض للعسكريين واستفزازهم. كان فيصل العسلي، وهو حينذاك نائب في المجلس النيابي، يحمل على الجيش ويتعرض لقائده حسني الزعيم بالشتم في خطب طويلة كان يلقيها في المجلس وذلك بقصد النيل من الجيش وكسر معنوياته تجاه التنظيمات الفاشية التي كان يُعِدُّها إعداداً عسكرياً في تلك الأيام للوثوب بها على السلطة في سورية. وكان هناك من جهة أخرى قصور قيادة الحركة الوطنية التي ما كانت تتسلح بعقيدة تبيّن لها بوضوح تام ظروف تلك الأيام وواقعها فَضَلَّتِ الطريق الصحيح وسارت في النتيجة تحت رايات حسني الزعيم في انقلابه على الرغم من تفاهته وانحطاط أخلاقه مما جعله صيداً هيناً للمستعمرين. فقيادة حزب البعث مثلاً أيّدته، ساعة انقلابه، برسالة وصفت بها عمله بالحادث العظيم وقالت بأن الجيش هو الأداة الأمينة التي نفّذت رغبة قومية وإرادة عامة ووضعت نفسها من الانقلاب وقائده موضع الوصي الغيور على المسيرة الجديدة فقامت ترسم لها منهاجاً يقوم على الأسس التالية:
1. تشكيل حكومة مؤقتة حائزة على ثقة الشعب؛
2. تطهير الجهاز الحكومي من جميع صنائع العهد البائد، ومحاكمة المسؤولين عن فضائحه؛
3. تأمين الحريات العامة التي نص عليها الدستور؛
4. إجراء انتخابات حرة في المدة المحددة بالدستور، وعودة الحياة النيابية إلى مجراها الطبيعي.
فكم كانت جدية هذه المطالب لتلك القيادة الوطنية المناضلة، مع حماسها للانقلاب وغيرتها عليه وآمالها الكبيرة فيه، نقول كم كان كل هذا يتعارض تعارضاً ساخراً، مضحكاً مبكياً، مع واقع أَفّاقَيْن خططا لذلك الانقلاب مع عميل داهية للمستعمرين وقاداه!.. والأفّاقان هما نذير فنصه وعديله حسني الزعيم أما العميل فهو الدكتور محسن البرازي منفّذ الإرادة الفرنسية الأميركية، وقد مرّت أخبار هؤلاء في الفصل السابق. أما الأستاذ أكرم الحوراني، فإن أصدقاءه من ضباط الجيش، واستثني منهم نفسي، وعلى رأسهم قريبه أديب الشيشكلي، كانوا في طلائع القوات التي نفّذت الانقلاب وكانوا يظنون بأنهم إنما يفعلون مافعلوه لبناء عهد ينفّذ تطلعاتهم الوطنية والقومية!..
ولكن الأمر ما كان ببساطة ظنون قيادتي البعث والشباب الحوراني ولا بالسهولة السطحية التي هيأتها الوثنية القوتلية للانقلابيين ليرتكبوا جريمتهم. فكان هناك في الجيش يمين يناصر حزب الشعب كما كانت فيه أيضاً جماعات قوية تناصر أفكار السوريين القوميين وتناهض التفكير البعثي العربي وتقف فقط، كما مرّ معنا في هذه الدراسة، عند النضال من أجل وحدة الهلال الخصيب. وكل هذه الاتجاهات تضاف إلى جماهير العسكريين التي كانت تشكل الأكثرية الساحقة وتتضمن وطنيين آخرين يؤمنون فقط بالكفاح ضد المستعمرين. ولا بد هنا من الإشارة إلى فئة قوية من العسكريين وهي فئة الفلسطينيين التي يشكل فيها الضباط نسبة تقرب من 25% من مجمل الضباط الأعوان (الضباط الشباب) في الجيش السوري الذين كانوا حينذاك يشكلون الطبقة الثورية والقوة المحركة الأساسية في جماهير القوات المسلحة. وكانت تلك الفئة الفلسطينية تمتاز بتجانسها المطلق ووحدة تفكيرها وتطلعاتها الوطنية ووعيها السياسي على الأخص الذي تحلّت به بعد الدرس البليغ للنكبة التي حلّت بأمتنا. ونذكر هنا الدور الكبير الذي اضطلع به الأستاذ أكرم الحوراني في سنّ تشريع في المجلس النيابي السوري باعتبار الفلسطيني على الأرض السورية مواطناً يتمتع بجميع حقوق السوري ويؤدي كل واجباته التي من جملتها واجب خدمة العلم. فكان هذا التشريع في الواقع الرد الأمثل للتجزئة الاستعمارية التي جعلت من سورية الطبيعية أربعة أقطار هي فلسطين والأردن ولبنان وسورية فأعادها التشريع المذكور إلى أصلها الطبيعي الإنساني الموحد.
نقول إذن إن الأمر عند وقوع انقلاب حسني الزعيم ما كان ببساطة ظنون التقدميين العروبيين. فحزب الشعب مثلاً يطمح بشدة إلى فتح الآفاق التجارية أمام اقتصاد معقلهم حلب بإقامة وحدة مع العراق، كما كان لعبد الله بن الحسين ملك الأردن أطماعه المعنونة بشعار سورية الكبرى ، وكان له أنصاره في بعض الأوساط التجارية والحرفية الدمشقية وبعض الإقطاع في الجنوب السوري. وكان هذان الاتجاهان يناسبان العقيدة السورية القومية، كما إن الوحدة مع العراق من حيث المبدأ لا تتعارض مع العقيدة البعثية. إلا أنه كان هناك تيار وطني سوري قوي ينتشر في كل الأوساط، من البورجوازية حتى اليسار التقدمي، بما فيه أوساط البعث العربي والشباب الحوراني، يعارض بشدة هذا التيار الهاشمي، بشقيه العراقي والأردني، التيار الذي يأتي من ورائه الاستعمار البريطاني الذي كان يطمح إلى تعزيز مواقعه في المنطقة العربية الآسيوية تجاه الزحف العالمي الطاحم للاستعمار الأميركي الجديد الطامع حينذاك في هدم الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، بدءاً من المنطقة العربية الآسيوية بشكل خاص، وبناء إمبراطوريته العالمية على أنقاضها. وقد مرّ معنا تفصيل هذا الأمر فيما سبق من هذه الدراسة. وكان يدعم ذلك التيار المعارض للهاشميين، كما هو معلوم ومشهور، نظاما مصر والسعودية، ومن ورائهما بطبيعة الحال المستعمرون الأميركان. وفي مثل هذا الظرف تمكن مؤقتاً تيار انتهازي فرعي صغير أن يجد له في هذا الخضم موجة صغيرة تحمله ليقود الانقلاب أولاً لمصلحة الإنجليز ثم لمصلحة الأميركان لينطفئ سريعاً كما سنبينه فيما يلي:
إن حسني الزعيم إنسان تافه لا يستحق الذكر لولا أن صدفة عابرة سمحت له بقيادة الانقلاب الذي نحن بصدده حالياً. وكان قد اتصل بي مرة، عندما كنت أعمل في أركان المفتش العام لجيش الإنقاذ المشير طه الهاشمي، وطلب إلي التوسط له لدى المشير ليعيّنه ضابط ركن في قيادة المجاهد المرحوم فوزي القاوقجي فهزأت منه ورفضت طلبه لعلمي بتفاهته وأخلاقيته المنحطة. وكان أن عُيِّنَ قائداً لموقع دير الزور فوجد فيه النظامان العراقي والأردني أداة مناسبة للتآمر على استقلال سورية فكان عملاؤهما على اتصال دائم به وبعديل له أفّاق طالما تنقّل في خدمة المستعمرين: من الفرنسيين حتى الأميركان مروراً بالإنجليز، وهو نذير فنصه المار ذكره أعلاه. وللإنصاف لا بد من أن نشير هنا إلى أن لهذين التافهين شقيقين يختلفان تماماً عنهما بأخلاقهما ووطنيتهما. فالأستاذ المجاهد المرحوم صلاح الدين الزعيم شقيق حسني الزعيم كان مشهوراً باستقامته وورعه ووطنيته وقضى بها حياته مكافحاً الاستعمار ومسانداً قوى التقدم في سورية والبلاد العربية. أما الأستاذ الأديب المرحوم بشير فنصه، شقيق نذير فنصه، فإنه على عكس شقيقه بأخلاقه وطيبته ووطنيته.
كان اتصال الهاشميين بحسني الزعيم عندما كان قائداً لموقع دير الزور، ووعود هذا الأخير لهم وقبضه، هو وعديله الآنف الذكر، الرشوات منهم أمور ثابتة ومعروفة على عكس ما زعمه باتريك سيل عندما زوّر لنا تاريخاً على هوى إنجلترة أمته العريقة بصهيونيتها هادمة دار الإسلام. ثم إن حماقة الوثنية القوتلية التقت بتفاهة حسني الزعيم فوجدت الأولى في الثانية الأداة المناسبة لإذلال الجيش وتطويعه لإرادتها. فأتت به أولاً أيام تصاعد المقاومة الجماهيرية لها كقائد للشرطة له الوجه المناسب لباطلها في مواجهة حق الجماهير الثائرة لكرامتها. ثم لم تلبث أن وجدت الفرصة في تراجع الجيش السوري أمام تحصينات إيدن في منطقة طبرية فاستبدلت به الزعيم الكفوء من كل الأوجه الأخلاقية والمهنية عبد الله عطفة الذي ألصقت به زوراً وظلماً مسؤولية تلك الهزيمة. وكان هناك ضابط أمي يقود لواء مشاة يتمركز في قطنا هو المقدم سامي الحنّاوي. وكان لهذا الضابط عديل أيضاً لا تقف مطامعه عند حد يقبع في الخارجية السورية منتظراً الفرص السانحة هو الأستاذ أسعد طلس. وهذا الأخير كانت له صلات وثيقة بالأوساط التجارية الحلبية وبأوساط حزب الشعب، كما كانت وظيفته في الخارجية تسهّل له الاتصال بهاشميي العراق وبسفارات المستعمرين الإنجليز والأميركان. وأخيراً، وليس آخراً، كان هناك العقل المدبّر للانقلاب بين كل أولئك التافهين والجهلة والمتحرّقين على نار الوصول وهو الدكتور محسن البرازي الذي كان أميناً عاماً للقصر الجمهوري ويحظى بعطف خاص من قبل الرئيس شكري القوتلي وبالتالي بمركز مرموق في الوثنية القوتلية، ولكن ليس في الصفوف الأولى منها لحداثته النسبية في ميادين الشؤون العامة. وكانت له صلات جيدة مع الفرنسيين والسعوديين وبالأميركان عبر هؤلاء. وقد مرّ معنا في هذه الدراسة أن وزارة خالد العظم، التي تشكلت في أعقاب أزمة وزارية مستعصية ونهوض جماهيري عارم ضد الوثنية القوتلية، عقدت اتفاقيتين تُرْضي بهما البورجوازية الدمشقية ومن ورائها أميركا والسعودية وفرانسة هما: اتفاقية النقد مع فرانسة واتفاقية مرور أنابيب النفط السعودي عبر الأراضي السورية مع شركة التابلاين الأميركية. ورأينا أن التصديق على هاتين الاتفاقيتين من قبل المجلس النيابي السوري كان مستحيلاً في ظروف ما قبل الانقلاب. فتهيأت إذن كل الأجواء والوسائل لوقوع هذا الانقلاب المشؤوم. ونجد أنفسنا هنا أمام أمور يحمل كل منها في ظاهره التناقض والغرابة:
الأول: اتفق الإنجليز والأميركان، وكل من هذين الطرفين المتناقضين له أسبابه الخاصة التي أشرنا إليها أعلاه، على وجوب إزاحة القوتلي ونظامه وإقامة حكم عسكري: الإنجليز يأملون في زعيم موال للهاشميين، والأميركان في زعيم يصدّق اتفاقيتي خالد العظم الآنفتي الذكر، بالإضافة إلى إدخال سورية في النادي اللاتيني الأميركي بتصفية الحركة الوطنية فيها وكل ما يتصل بالحرية والتقدم.
الثاني: إن الذي أثار غضب الجماهير السورية وأعطى سبباً لحركة الانقلاب هو عقد الاتفاقيتين المذكورتين من قبل وزارة خالد العظم، وفي ذات الوقت كان الانقلاب ضرورياً، كما قلنا قبل هنيهة، لإمرارهما والتصديق عليهما.
الثالث: رأينا الحركة الوطنية بكل جديتها في الكفاح من أجل تحقيق أهداف الوطن العليا تسير تحت أعلام تلك الزمرة التي يقودها حسني الزعيم والتي رأينا طرفاً من أوصافها المزرية آنفاً. فنجد البعث يقود مظاهرات التأييد في شوارع دمشق، ونرى قادته، مع قادة حزب الشعب، يملأون مكاتب الأركان العامة وأروقتها.
كنا نرى أديب الشيشكلي يحتل الشرطة المدنية ويقوم بإدارة مؤسستها بكل جدية وغيرة باسم الشباب الحوراني. وقد حاولت عدداً من المرات التكلّم مع الأستاذ أكرم لأسأله عن سبب حماسته لذلك العهد الذي زاد الأمور سوءاً عما كانت عليه أيام الوثنية القوتلية، فكان يتهرب بحجة المشغولية، كما كان في بعض المرات التي كان يقبل فيها الدخول في مناقشة حول هذا الموضوع يتظاهر بأن هناك أموراً وأسراراً لا يصحّ الكشف عنها وينصح بالصبر والأناة!... ولم يطل صبرنا، فبعد أيام قليلة من الانقلاب وجدنا الزعيم يطرد ويلاحق أركان أحزاب الشعب والبعث والشباب الحوراني، ويوقف عدداً منهم ويزجّ بهم في سجن المزة الذي ابتدأ بالشهرة منذ تلك الأيام. وكان من جملة الموقوفين الأستاذ ميشيل عفلق الذي امتهنت كرامته وأُسيئت معاملته حتى اضطر في النهاية إلى كتابة رسالته الشهيرة إلى حسني الزعيم. وقام هذا الديكتاتور الصغير بتصديق اتفاقيتي النقد مع فرانسة ومدّ أنابيب النفط مع التابلاين.
وكان انقلاب الزعيم إنجليزياً عراقياً أردنياً، ثم ما لبث بمناورة من محسن البرازي، بتأييد من مصر والسعودية، ومن ورائهم الأميركان والفرنسيين، أن انقلب على الهاشميين فراح قائده يطارد مناصريهم كما أشرنا إليه أعلاه. ولعل أفضل رد على إنكار باتريك سيل لتآمر إنجلترة وعملائها حكام العراق والأردن على استقلال سورية هو اعتراف حسني الزعيم الذي نشره باتريك سيل بعد صفحات من إنكاره المذكور في دراسة للسياسة العربية بعد الحرب، الصراع على سورية والذي نورده فيما يلي: صرّح الزعيم في 26 نيسان من عام 1949، أي بعد أقل من شهر على انقلابه، لصحيفة الجورنال ديجيبت فقال: كانت رحلتي إلى القاهرة مفاجأة غير سارة للأردن. فقد اعتقد سادة بغداد وعمّان أنني أكاد أن أقدّم إليهم تاج سورية على طبق من فضة ولكن خاب فألهم. فالجمهورية السورية لا تريد سورية كبرى ولا هلالاً خصيباً، وسوف نوجه قواتنا ضد هذين المشروعين اللذين أوحى بهما الأجنبي. وقد ركزنا قواتنا على الجبهة الجنوبية لمجابهة الإجراءات العسكرية التي اتخذتها حكومة عمّان. وقررنا تقديم الأشخاص الذين يجرون اتصالات بالحكومة الأردنية أو يسافرون إلى ذلك البلد إلى محكمة عسكرية بجريمة الخيانة العظمى وحكمهم بالإعدام. وقد قررنا استدعاء عشرين ألف مجند جديد ونحن ننتظر أن تصلنا فوراً كميات كبرى من الأسلحة والذخائر والتجهيزات من جميع الأصناف. إن جيشنا البري سيكون قريباً الثاني في الشرق الأوسط يتقدم عليه فقط الجيش التركي. أما سلاحنا الجوي فسوف يتفوق على مجموع ما عند تركيا وإسرائيل من قوات جوية. ولن نصبر على تهديد أو ضغط سواء من العراق أو الأردن أو أي بلد آخر. أما الأردن الذي كان ولا يزال ولاية سورية فسينضم إن عاجلاً أو آجلاً إلى وطنه الأم ويصبح المحافظة العاشرة في الجمهورية السورية . انتهى تصريح الزعيم. ونتساءل نحن لماذا يعتقد سادة بغداد وعمّان حينذاك بأن حسني الزعيم سيقدّم لهم تاج سورية على طبق من فضة لولا أن سبقوا وقدّموا له سلفاً طبق الفضة ليعيده إليهم وعليه التاج المذكور؟!.. وليس لنا أي تعليق على تناقضات هذا التصريح التي تدل بوضوح ما بعده وضوح على ضحالة عقل صاحبه ومبالغاته الداعية إلى السخرية. إلا أن علينا أن نذكر بهذه المناسبة أن قطرنا السوري اضطر في تلك الأيام إلى القبول بالهدنة، وكنت أنا عضواً في مفاوضاتها التي طالت شهوراً وشهوراً، تحت ضغط فقدان الذخائر في مستودعاتنا إلى الدرجة التي لم يبقَ لنا معها ما يكفي منها لقتال خمس دقائق.
نهاية مغامرة الزعيم

قلنا إن حسني الزعيم وزمرته من التافهين الحمقى كانوا لا يصلحون لشيء سوى أن صدفة عابرة في خضم أحداث ما بعد الحرب العالمية الثانية في منطقتنا جعلتهم في رأس حركة ذلك الانقلاب. وفي الواقع ما كان لهم أي رصيد ملموس لا في الجماهير ولا في القوات المسلحة التي كانت تعكس جيداً في صفوفها مختلف اتجاهات تلك الجماهير. وإذا كان قد انصبّ عليهم التأييد من مختلف صفوف المعارضة الوطنية فإن ذلك كان في الواقع موجّهاً ضد الوثنية القوتلية وليس لتأييد تلك القيادة التي ما كانت بطبيعتها لتستطيع الإفادة من تلك الظروف لتبني أسساً وطيدة للفعالية والدوام. فأفق قائدها ما كان يتعدى بذلة المشير وعصاه والصورة بهما على طوابع البريد!.. . أما الاستعمار الجديد الذي كانت تعدّه أميركا للعالم فإنه ما كان قد تَمَرَّسَ بأحوال المنطقة فكان لذلك يتعكَّز على أعداء الإنجليز وأعداء خدمهم وعلى جهل الحركات الوطنية وعماها الحاجب للواقع: كان فاروق ملك مصر مثلاً لا ينسى أبداً دبابات الإنجليز التي أحاطت بقصر عابدين عام 1941 وأجبرته على طرد رئيس الوزراء علي ماهر واستبداله بعدوه مصطفى النحّاس زعيم الوفد، كما كان السعوديون ينافسون الهاشميين خدم الإنجليز في العراق والأردن على زعامة عرب المنطقة الآسيوية. أما القوى الوطنية وأحزابها فإن عقائدها كانت مقصّرة عن رؤية الطريق الصحيح لحشد الجماهير في تيار واحد يتعمق في أمتنا ويدفع بها إلى مواجهة وردّ الخطر الحقيقي الذي كان في تلك الأيام يطحم ليحتل المواقع اللازمة في مختلف أنحاء العالم، وعلى الأخص في المنطقة العربية الآسيوية، لبناء الاستعمار الجديد، لمواجهة وردّ الاستعمار الأميركي ومنعه من بناء إمبراطوريته العبودية العالمية التي يتعذّب فيها الناس العذاب الذي يعانونه حالياً. نكرر إذن ونقول إن القوى الوطنية قصّرت في استيعاب الواقع الذي كانت تعيشه فما رأت بوادر الجديد التي كانت آخذة في التطور فيه حينذاك وبالتالي ما كان باستطاعتها التكتل فانساقت في طريق التنافس والتناحر فعمل كل فريق منها بمفرده ولأهداف قريبة لا تتعدى الإمساك بالسلطة، وكأن السلطة وليس جماهير الأمة المتكتلة بإيمان واحد ثوري، هي الوسيلة لتحقيق الأهداف القومية. وقد سبق وأشرنا إلى أنه لو اتسع إدراك القوى الوطنية ووعيها في تلك الأيام إلى الدرجة التي وصلت إليها فيما بعد في أعقاب انهيار نظام الشيشكلي لما قام انقلاب الزعيم أصلاً ولو صدف وقام بنتيجة خطأ في الظروف والأحوال لما ثبت ساعة أمام ذات تلك القوى الوطنية ولكنها الموحدة بعقيدة واعية.
إن الوحدة المتحررة من النظام الرأسمالي الاحتكاري للأمة العربية تشكل ضربة قاضية للاستعمار بنوعيه القديم والجديد. فالفرنسيون مثلاً كانوا في تلك الأيام يُلْحِقون الشمال الأفريقي العربي بإمبراطوريتهم الاستعمارية. أما الإنجليز فإن قلب إمبراطوريتهم الاستعمارية العالمية يقع في الوطن العربي وتحرر هذا الوطن يقضي على هذه الإمبراطورية. وكذلك يكون الحال بالنسبة للإمبراطورية العالمية التي كان المستعمرون الجدد الأميركان منهمكين حينذاك في إقامة أسسها. أما الرجعيتان المصرية والسعودية فإنهما كانتا على الدوام تعاديان كل وحدة تضم أقطار الهلال الخصيب: العراق وسورية الطبيعية. فمصر ترى في سورية الامتداد التاريخي لها إلى آسيا، أما السعودية القبلية فهي، على عكس ما يدّعيه قادتها بمناسبة وغير مناسبة، عدوة كل ما يوحد الإسلام ويوحد العرب ويمنع بالتالي تفرّدها بثروات الجزيرة العربية. وكان هناك في لبنان حركة مغرقة في رجعيتها وانعزاليتها أسسها بيير الجميّل وهو ماروني ولد وترعرع في مصر. وقد أتى هذا الرجل إلى لبنان في عام 1936 ليؤسس ذلك الحزب الفاشي الذي هو حزب الكتائب المارونية والذي قام ليقف في مواجهة النجادة الإسلامية والحزب السوري القومي الذي كان ساعده يشتد في تلك الأيام. وفي تلك السنة عقدت فرانسة معاهدة اعترفت بموجبها باستقلال سورية في ذات الوقت الذي وعدت فيه بمنح لبنان كل ما تناله سورية. لذلك تحركت الانعزالية المارونية ومن ورائها الأوساط الفرنسية الاستعمارية والأوساط الصهيونية لتهيئ كل ما يقطع الطريق إلى تقارب لبنان مع أشقائه العرب الآخرين في الأقطار المجاورة فدفعت إلى تأسيس تلك الكتائب على عجل.
وكان حزب الكتائب المذكور أداة الاستفزاز في عام 1949 في محاولة للقضاء على الحزب السوري القومي في لبنان. ففي النصف الأول من شهر حزيران من ذلك العام وقعت صدامات بين حزبي الكتائب والسوري القومي في بيروت. وتدخلت حكومة رياض الصلح إلى جانب الكتائب واحتلت مكاتب السوريين القوميين وصادرت أوراقهم ونشراتهم مدّعية بأن حزبهم كان يتآمر لقلب الحكومة. وقد اضطر زعيم الحزب أنطون سعادة حينذاك إلى ترك لبنان واللجوء إلى سورية. وقد تظاهر نظام حسني الزعيم بالترحيب به، ونقول تظاهر لأننا نعتقد بأن الأمر من أوله عندما قامت الكتائب باستفزازها لحزبه إلى أن سُلِّمَ من قبل حسني الزعيم إلى الحكومة اللبنانية لتغتاله كان مرتّباً من قبل الرجعيات المارونية والمصرية والسعودية مع انتهازية الانقلابيين في دمشق. فحسني الزعيم عندما التجأ إليه سعادة في النصف الأول من حزيران عام 1949 كان قد قلب ظهر المجن لكل مشاريع سورية الكبرى والهلال الخصيب وانحاز بكليّته إلى المعسكر المصري السعودي وذلك منذ شهر نيسان من ذلك العام. وقد مرّ معنا هذا الأمر أعلاه عندما أتينا بتصريح الزعيم إلى الجورنال ديجيبت القاهرية ونكرر هنا ما يهمنا من هذا التصريح: ..فالجمهورية السورية لا تريد سورية الكبرى ولا هلالاً خصيباً وسوف نوجّه قواتنا ضد هذين المشروعين اللذين أوحى بهما الأجنبي.. . ومن المعلوم أن كلاً من هذين المشروعين يشكل هدفاً أساسياً في العقيدة السورية القومية. ويبدو لنا أن أنطون سعادة عندما وصل إلى سورية لاجئاً، وما كان أمامه سوى هذا القطر يلجأ إليه حينذاك بسبب الوضع الجغرافي اللبناني، تظاهرت سلطات الزعيم بتأييده لتبقيه في قبضتها وبالتالي ليكون اتصاله بحزبه في لبنان عن طريقها، أو بالأحرى والأوضح أن تقوم هي مع جهات أخرى مساعدة بتحريك الحزب في لبنان باسمه. الأمر الذي يفسر قيام حزبه بتلك الحركة المرتجلة دون خطة وإعداد صحيحين مما أدى إلى سحق تلك الحركة بسرعة وسهولة وإيقاع الضرر البليغ بذلك الحزب. وانتهى الأمر بما خُطِّطَ له وذلك بتسليمه، تسليم أنطون سعادة، ضد كل عرف وشرف، إلى جلاديه. لقد كان من المتفق عليه بين السلطتين السورية واللبنانية أن يقوم رجلا الأمن العام اللبناني، الأمير فريد شهاب مدير الأمن العام ومعاونه نور الدين الرفاعي، باغتيال أنطون سعادة بعد تسلّمه من السلطات السورية وعند بلوغهما به الأراضي اللبنانية، وذلك بتدبير تمثيلية محاولة هرب الأسير. إلا أن شرف هذين المسؤولَيْن اللبنانيين أبى عليهما ارتكاب هذه الجريمة الدنيئة فأتما مهمتهما بالشكل الذي تمليه عليهما القوانين المرعيّة وسلّما موقوفهما إلى السلطات المختصة. فما كان من هذه السلطات إلا أن أعدمت هذا الأسير بعد استجواب قصير قيل إنه كان محاكمة سرية. ومن الواضح أن السرية والعجلة القصوى في هذه المحاكمة المزعومة كانتا لإخفاء أسرار تلك المؤامرة الرهيبة. فالغموض الذي اكتنف تلك الفترة الحرجة القصيرة المنقضية بين لجوء أنطون سعادة إلى سورية واستشهاده على أيدي جلاديه لا يبرره سوى هذه الفرضية التي نقدمها هنا. فلو كانت هناك ثورة في الواقع قادها ذلك المناضل فإن تلك السلطات ما كانت بحاجة إلى السرية والعجلة ولكان من حقها، وهي المسؤولة عن الأمن ، أن تعلن على الملأ بكل فخر وبالتفصيل دون أي عجلة ما جرى من إخلال بالأمن... ولكن فيما لو كانت هي حقاً بريئة من هذا الإخلال.
نقول إذن إن عهد حسني الزعيم ما كان ليدوم طويلاً لفقدانه كل أساس للاستمرار. ولكن القوى التقدمية، قوى الثورة، وهي، كما قلنا ورددنا مراراً، القوى الغالبة في الساحة، ما كان لها، بكل أسف، سوى ذلك الطموح الهزيل التافه الذي لا يذهب إلى أبعد من التخلّص من ذلك النظام المهترئ. فانضوت مرة أخرى تحت أعلام الرجعية التي كانت تخطط لإقامة أحد مشاريع الهاشميين. فقبلت هذه المرة أيضاً بالأمي سامي الحنّاوي يقودها ومن ورائه عديله أسعد طلس المتلهف المتربص للوصول إلى السلطة بأي ثمن. ففي الرابع عشر من آب عام 1949 تحركت قوات الحنّاوي وفي مقدمتها كوكبة مصفحات بقيادة الملازم الأول فضل الله أبو منصور، وهو سوري قومي، إلى دمشق. وتوجه فضل الله المذكور إلى بيت الزعيم واعتتقله، ثم اعتقل رئيس وزرائه محسن البرازي، وذهب بهما إلى طريق المعضمية حيث نفّذ بهما عقوبة الإعدام. ونذكر بهذه المناسبة أن السعوديين خصصوا لأفراد عائلة محسن البرازي رواتب تقاعدية ما تزال حتى يومنا هذا جارية.