رفعت الأسد قال لأخيه حافظ في جلسة المصالحة: أقسم بالله لولا مصطفى طلاس كل جماعتك في الأركان لا يساوون فرنك
لعب الرفيق محمد حيدر دوراً قذراً في هذه الأزمة على الرغم من دماثته الشخصية وخفّة دمه الظاهرة، وكان موعوداً أنْ يعود كنائب لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية مع تشغيل الشفّاطة (هوفر) الى الحد الأقصى وبعد ذلك تتم المقاسمة حيث يأخذ أبو اياد 5 في المئة وأبو دريد 95 في المئة
ولذلك فقد التصق بالعميد رفعت منذ بداية الأزمة وكان يغريه بالاقدام على تسلّم السلطة لقناعته الذاتية بأنّه في حال فشل رفعت فانّ الرئيس الأسد لا يمكن أنْ يبطش بأخيه، ومن هذا المنطلق وهذه القناعة الراسخة تمادى المذكور في غيّه وغَدَا ينفخ في نار الفتنة, وما كان يدري أنّ نظريته خطأ من أساسها وأنّ النار التي حاول اشعالها كانت ستكوي جلده وجلود من حوله.
وبالاضافة الى الرفيق محمد حيدر فانّ الرفيق ناجي جميل قد دخل أيضاً على الخط وأصبح من مريدي العميد رفعت ومن المطبّلين والمزمّرين له مع أنّه أسقطه في انتخابات العام 1976 مع الرفيق محمود الأيوبي,, وحتى يحفظ العماد ناجي خط الرجعة فقد كان يتّصل من حين الى آخر بالرئيس الأسد ليوحي له بأنّه يلعب دور حمامة السلام بين الأخوين ولم يَدُرْ في خلده أنّ شياطين الأرض و السماء لا تستطيع أنْ تضحك على الرئيس الأسد,, وفهم الرئيس غايته وكان يستمع اليه ويوحي له بآنٍ معاً أنه يقدّر هذا الدور الذي يقوم به, ووعد العميد رفعت في بداية الازمة العماد ناجي جميل بتسليمه رئاسة مجلس الوزراء، ومن هذه الزاوية كانت حماية «أبوعامر» شديدة للغاية لأن تسلمه للمنصب الكبير يعيد اليه اعتباره الذي فقد عندما أقاله الرئيس الأسد من قيادة القوى الجوية ومكتب الأمن القومي في وقت سابق.
وفي 1/8/1984 شرب الرفيق عبد الله الأحمر حليب السباع وقرّر أنْ يمسح الأرض بمحمد حيدر وناجي جميل وسهيل السهيل (من القطر العراقي) فدعا الى اجتماع طارئ للقيادة القومية وطلب من الرفاق المجتمعين اتخاذ القرار بوقف ممارستهم العمل السياسي والحزبي (1) حتى يُشعر المتمرّدين على شرعية الحزب بأنّ العصا طويلة ومرنة, وشعر المجتمعون بأنّ هناك ضوءاً أخضر لعبد الله الأحمر، فاتّخذ القرار بالاجماع و كان هذا مؤشرا بارزا للحزب وللرأي العام في سورية أنّ مَنْ يلعب بذيله من الرفاق فانّ القيادة ستكون له بالمرصاد.
بالاضافة الى ما ذكر سابقاً، كان هناك رفيق ثالث لعب دوراً ايجابياً لصالح الرئيس الأسد هو العميد عزّ الدين ادريس فقد كان هذا الرجل يؤمن ايماناً راسخاً بأحقيّة الرئيس الأسد بالسلطة وأنّ شقيقه رفعت لا يستحقّها ولذلك فقد لعب دور المنظّر والمحاور والفيلسوف والناصح وأخذ يلعب بأفكار رفعت ويخيفه من مغبّة استمراره في الطريق الخطأ، وكان يتلقّى التوجيهات بين الحين والآخر من السيد الرئيس لكي يتقن دوره في اللعبة، ونجح هذا الضابط في أداء مهمّته على الوجه الأكمل ويجب أنْ نعترف له بأنّه جنّب دمشق كارثة لا حدود لها كما جنّب رفعت وسرايا الدفاع من التدمير الشامل والفناء الكامل, ووجه الرئيس حافظ الأسد ادارة شؤون الضباط بترقية هذا الضابط الى رتبة لواء في نشرة 1/7/1984 بغض النظر عن المنصب الذي يشغله.
بداية المفاوضات الطويلة:
في أواخر نيسان (ابريل) من العام 1984 بدأ العميد رفعت يشعر بأنّ ميزان القوى قد مال لصالح شقيقه الرئيس الأسد لدرجة لم تعد تسمح له بالحركة اطلاقاً فاتصل بشقيقه جميل الأسد ليمهّد له المصالحة مع أخيه وأنّه جاهز لأي عمل يرتأيه,, وكان الرئيس الأسد ينتظر بفارغ الصبر انهيار رفعت ورضوخه الى السلطة، ونجح الرئيس في لعبة عضّ الأصابع, ومن هذا المنطلق أعلم شقيقه جميل بالموافقة على طلب قائد سرايا الدفاع، وبدأت المفاوضات الصعبة, ومع أنّ الرئيس الأسد مقيّم دوليّاً وعربياً أنّه سيّد مَنْ أتقن فنَّ هذه اللعبة، ولكن في الطرف الآخر هناك أيضاً سيّد مَنْ ابتزّ أخيه وغير أخيه وبعد أنْ وافق على الخروج من سورية ثم العودة عندما تهدأ الأمور بدأ يساوم على المبلغ الذي يحتاج اليه للاقامة شهور عدة خارج البلاد حتى تهدأ العاصفة, فقد طلب مبلغاً كبيراً من المال بالقطع النادر لم يكن متوافراً في المصرف المركزي لأنّ الدنيا كما يقول المثل السائد وجوه وأعتاب ونواصٍ كان العرب يقولون: اطلبوا الخير من صباح الوجوه, كما كانوا يتفاءلون أو يتشاءمون من الزوجة والمنزل ونواصي الخيل, فمنذ أنْ تسلّم الدكتور عبد الرؤوف الكسم رئاسة الوزارة فقد خيّمت غمامة من الشؤم على سورية لا مثيل لها,, فمرض الرئيس حافظ الأسد مع أنّ بنيانه الجسمي متماسك لدرجة تقترب من حدّ الأسطورة، ومات خمسة وزراء في عهده، وأصبح المصرف المركزي خاوياً حتى من الفئران كي لا أقول من الدولارات,, وسُدّتْ منافذ الرزق في وجوه المؤسّسات والأفراد وسائر العباد وبدأ الناس في سورية يتساءلون متى ينـزاح ظلّ هذا الغراب عن الرقاب,, المهم فكّر الرئيس الأسد من أين يأتي بالمال اللازم لاشباع فم أخيه رفعت,, وارتأى أنّ الرئيس معمّر القذّافي يمكن أنْ يكون الشخص الذي يحلُّ هذه المشكلة فأرسل كتاباً خاصّاً الى قائد ثورة الفاتح من أيلول (سبتمبر) مع اللواء محمد الخولي رئيس ادارة المخابرات الجوية، وعندما وصل الى طرابلس الغرب كان القذّافي والحمد لله بمزاج حَسَن وتذكّر مواقف الأسد القومية في دعم ومؤازرة الثورة الليبية وردّ على رسالة الأسد ردّاً جميلاً وتمّ تحويل المبلغ بكامله الى المصرف المركزي وأعطى الرئيس الأسد شقيقه جزءاً منه وبقي الجزء الأكبر احتياطاً للطوارئ الاقتصادية التي كانت تعصف بنا وما كان أكثرها.
وتمّ الاتفاق على أنْ تعود سرايا الدفاع لتوضع بتصرّف هيئة العمليات في القوات المسلّحة، وتمّ تشذيبها بحيث بقيت في حدود ملاك الفرقة المدرّعة زائد كتيبة دبابات مستقلّة, كما تمّ الاتفاق على أنْ يبقى الفوج 555 بتصرّف العميد رفعت كنائب لرئيس الجمهورية مسؤولاً (نظريّاً) عن شؤون الأمن لم يكن رفعت الأسد موفقا في إلحاحه على شقيقه أن يكون نائبا له لشؤون الأمن وهو يعلم علم اليقين ان الرئيس الأسد لو كان يثق به لوافقه على طلبه في ان يكون نائبا للقائد العام ووزيرا للدفاع والذي من أجله اصطنع الأزمة وكان جواب الأسد لشقيقه: أنا مرتاح للصيغة القائمة حاليا والعماد مصطفى طلاس يستوعب بحكمته الضباط كافة ولكن قل لي انت بعد وزارة الدفاع ماهي طلباتك التي لا تنتهي,, لأنّ الرئيس الأسد أحرص من أنْ يسلّم أمنه الشخصي وأمن البلاد لرجل لا يتّقي الله لا بوطنه ولا بأهله,.
كما تمّ الاتفاق على أنْ يسافر معه الى موسكو اثنان من الضباط الأمراء طلبهما العميد رفعت شخصياً وهما اللواء شفيق فياض واللواء علي حيدر كما سافر معهم اللواء محمد الخولي وكان ذلك بطلب خاص من العميد رفعت حتى يطمئنّ الى أنّ الطائرة لن تنفجر بعد اقلاعها بالجو, وصدر أمر الايفاد بتاريخ 28/5/1984 وسافر العماد ناجي جميل مع حاشية العميد رفعت,
وظلّ الرفاق قرابة شهر في موسكو, وكان العميد رفعت ومجموعته قد ودّعوا موسكو بعد سلسلة من المقابلات البروتوكولية الشكلية مع المسؤولين السوفيات، وبهذه المناسبة لابدّ من شهادة حق للتاريخ فقد كان موقف أصدقائنا في موسكو مع الرئيس الأسد قولاً واحداً وكلّفوا رسميّاً مستشار قائد الوحدة /569/ (سرايا الدفاع) بأنْ ينقل اليّ عن طريق كبير المستشارين الجنرال »غوردينكو« معلومات عن الحالة النفسية للعميد رفعت وضبّاطه، وكنت أنقل هذه المعلومات لسيادة الرئيس كما كنت أضع الرفاق في القيادة العامة بالصورة وكانت هذه المعلومات مفيدة للغاية بالنسبة لنا لأنّه أمر أساس لتقدير الموقف أنْ تعرف حالة الخصم النفسية.
وضاق اللواء شفيق واللواء علي حيدر ذرعاً بالاقامة في موسكو وخشيا أنّ زحمة أعمال الرئيس الأسد قد تؤخّر صدور الأمر الخاص بعودتها الى أرض الوطن وأرسل اليّ اللواء شفيق رسالة مؤثّرة واتّصلت هاتفياً بهما الى موسكو وطمأنتهما بأنّ الرئيس لن ينسى أبداً أبناءه، وعندما أعلمت الرئيس بالموضوع استغرب وقال لي: هل أمضيا شهراً في موسكو؟، وعندما أجبته: نعم,, قال: أَصْدِرْ نيابةً عنّي الأوامر بعودتهما الى أرض الوطن,.
وهكذا عاد أبو علاء وأبو ياسر من بلاد الغربة، مع أنّ الاقامة في موسكو ذلك الحين كانت تعتبر مثل الاقامة في باريس باستثناء أنّ الاقامة في موسكو كانت تكلّف أقل بخمس مرّات, ولكن شعور المرء بأنّه يعيش الغربة وأنّه ليس ذاهباً باجازة أو نزهة تجعل الحياة صعبة لا تطاق.
وهكذا أسقط الأسد جميع الرّهانات المعادية المحلية والعربية والأجنبية التي كانت ترى بوصول العميد رفعت الأسد الى السلطة هو انضواء سورية تحت المظلّة الأميركية ونهاية لوقفة العز والشموخ التي اتّسمت بها المسيرة التي قادها أمين هذه الأمة.
والحق ما شهدت به الأعداء:
بعد جلسة المصالحة التي تمّت بين الرئيس الأسد وشقيقه رفعت قال رفعت للسيد الرئيس: أريد أنْ أقول لك شيئاً حقيقةً لا يعرفها أحد ولا يجوز أنْ تظلّ في عالم الغيب,, وأقسم لك بالله أنّه لولا العماد مصطفى طلاس كل جماعتك في الأركان لا يساوون (فرنك) (الفرنك: أصل الكلمة (france) وهي عملة كانت تعادل خمسة قروش سورية زمن الانتداب الفرنسي 1920-1945). وقد حاولت عدّة مرات الدخول الى مبنى القيادة العامة ومعي ست سيارات مرافقـة بهدف السيطرة على المبنى وكنت أفاجأ دائماً بوجود العماد طلاس في مكتبه,, وهذا ما كان يضعني في موقف صعب,, وكان الوحيد المستعد للقتال حتى الموت دفاعاً عن النظام وكنت أخشى اذا تمكنت من التغلّب عليه أنّني لن أفلت من غضبك الى يوم القيامة,, كما كنت أخشى أنّه لو تغلّب عليَّ بواسطة حرس الأركان المدعمة بالقوات الخاصة وسرايا الصراع سوف أسقط من عيون الناس الى الأبد,, فأجابه الرئيس الأسد: انّ العماد طلاس من أشجع ضباطنا و أثناء مشاركته في حركة الضباط الأحرار بحلب (نيسان (ابريل) 1962) بقي في مركزه كمدير لشعبة الأمن السياسي مدّة سبع ساعات بعد هروب رفاقنا كافة الى ادلب وحمص وحماة واللاذقية، وكان اللواء الخامس المدرّع يحاصر المدينة ويضرب حولها طوقاً من الدبابات والمشاة المحمولة,, علماً بأنّ المنصب الذي كان يشغله لم يكن بشكل رسمي ونظامي لأنّه كان مفتّشاً في وزارة التموين, فكيف تريد منه أنْ يترك مكانه في القيادة العامة وهو يشغل وظيفة نائب القائد العام ووزيراً للدفاع بمرسوم جمهوري, انّه بالتأكيد سوف يقاتل من أجل النظام حتى آخر طلقة وآخر رجل.
عهـد بالـدم
يا ليت,, هناك أغلى!
«عهد بالدم؟!,, يا ليت,, هناك أغلى!,, عهد بالدم يقطعه له، رفاقه في السلاح والعقيدة,, فبماذا يجب أنْ يكون عهد رفيقه في الموطن الخشن؟».
ليتها تتكرّر لعبة التاريخ، لأريك كيف أنام على فراشك يا حافظ.
أجل، فبعد هذا العمى الذي ضرب زعماء هذه الأمة، وبعد هذا التيه الذي يتخبّطون فيه,, ويستدرجون اليه الآخرين,, لم يبق أمام هذه الأجيال المعاصرة والمحاصرة، سوى الالتفاف حول هذه الراية العربية السورية، المُمْسكة بها قبضته الفولاذية، والرافعة لها منارة تقول للناس كافة، تعالوا اليَّ,, تعالوا، والحقوا بي، فأنا أقودكم الى طريق الخلاص,, لأنّ الرائد لا يكذب أهله.
وبعد، فهذا الكتاب، ليس مهرجان أضواء، ليدخل في أبواب الدعاية المبهرة.
ولا هو من وسائل الاعلام، ليدخل في حلقة تلفزيونية ملوّنة,.
وغنيٌّ عن البيان والايضاح، أنّه ليس من كتب التبشير الحزبي، وانْ كان بمثله يتعمّد خط الحزب ويقوى.
هذا الكتاب، يلوح لي وقد دخل أبواب التاريخ,,, بل فُتِحَت له أبواب التاريخ، والمعلّمون الكبار هناك يتساءلون:
أصحيح أنّ التاريخ يصنع الرجال؟,.
أم أنّ الرجال، هم الذين يصنعون التاريخ؟,.
وربّما جاء السؤال، في أجواء معادلة أخرى: هل الفرد هو صانع الجماهير، أم الجماعة هي التي تصنع الفرد؟.
وسلفاً أعتذر للقارئ، فلن أُدخِلَهُ أو أَدْخُل معه في المماحكة التاريخية ولا في جدليّتها المادية، ولن أطوّح به في أبعادها الضاربة حدود الفكر والمادة، ولن أتساءل أي منها هو الأساس، وأي منهما، هو الانعكاس، بل سأبقى مع القارئ، في المناطق الآهلة كي لا يُصاب أحد بخوف من عدم الفهم، أو حرج وحتى نبقى جميعاً على الخط,, »عهد بالدم»؟.
ستٌّ وخمسون وثيقة، حبّرها القادرون على الوفاء بها، ووقّعوها بدمائهم، عاهدوا بها القائد على ولائهم الأبدي له,.
والمعاهدون بالدم هم حملة البنادق، والأقلام، والمحاريث والمطارق وسائر وسائل وأدوات الانتاج للمجتمعات الجديدة القوية,.
وبعد,, فماذا سيقول الناس عنها، وعنهم في غد؟.
ماذا ستقول الأمم؟.
ماذا ستقول عنها فرنسا بالذات؟.
بل لماذا خصّصت فرنسا بالذات؟, وسمّيتها دون غيرها من أمم الأرض؟.
انّ لهذا التخصيص سبباً أنا ذاكره فوراً:
في فرنسا برنامج تلفزيوني اسمه (7 على 7)، وهو يقدّم للمشاهد الأمور والأحداث الخارقة ليتصيّدها له من سائر أنحاء العالم، وكأنّه يقول له:
خذْ وانظر,, ثم صدّق، أو لا تصدّق.
وفي أحد الأيام، عرض البرنامج هذا، صورة من دمشق وفيها ظهرت سيارة الرئيس، وهو فيها، مرفوعة على الراحات والأكتاف.
جميعنا يعرف هذا,, وقد رآه، ومنّا مَنْ ساهم فيه، ومنّا مَنْ تمنّى لو كان, ليساهم,, لكنّ فرنسا وجدته غريباً، فأفردت له مكاناً في برنامجها الغريب!.
وغداً ماذا سيقول البرنامج عن ست وخمسين وثيقة، كلّها بالأحمر القاني؟.
وليس غرضنا هنا أنْ نردَّ، أو نعلِّل، أو نفسّر أسباب هذا الاستغراب، فمن الطبيعي أنْ يندهش الغرب لسيارةٍ محمولة على الأعناق، بعد أنْ كانوا أشبعوا شعوبهم كذباً وحشوهم تضليلاً، عن الوضع المتردّي، والنقمة العارمة، وخصوصاً عن المرض,, الذي زعموا أنّه خطير,,
ونعود لطرح السؤال من جديد:
لماذا «عهدٌ بالدّم»؟.
ويأتي الجواب هذه المرّة أيضاً,, من فرنسا.
يقول [اُوْلاد (Olad)] أستاذ التاريخ الكبير في جامعة السوربون، وهو يتحدّث عن الثورة عموماً:
[ليس الظلم هو الذي يولد الثورة، وانّما الشّعور به]
وعهد بالدم هو ثورة بين العهود,.
فالمعروف أنّ العهد يعطى باللسان، أو تشد به قبضة على كف، أو ينطلق من خطبة منبر، ويشهد عليه جماعة، أو يشترك به لفيف متجانس، في قسم مشترك,, أو يوثق بكتاب, الاّ في سورية، ومع حافظ الأسد.
أجل فسورية، بالدم عهدها كان,, وببذله سيكون,, والسبب، شعور الجماهير الحاد، وأنّ القائد هو أملها، وأنّ القائد هو كرامتها، وأنّ القائد هو خبزها اليومي الشريف، فالقائد اذنْ هو المنارة التي تهدي سواء السبيل، وأيّ علامة استفهام ترسم حول هذا الموضوع، فستمحوها الجماهير بالدماء,.
ولماذا كل هذا الانفعال؟,.
للسبب ذاته,, الشّعور الحادّ.
أجل!,, فعندما تطلّعت سورية، فوجدت نفسها داخلة في حدود المعادلة المتعلّقة بحساب القوى، وهي تعرف جيّداً، أنّها لم تكن قبلاً كذلك,, لأنّها كانت فعلاً خارجها,, لابدّ أنها تساءلت:
كيف حدث هذا؟ ومتى؟,.
وبفعل مَنْ، دخلت سورية في الحساب؟,.
وقال التاريخ:
لا شكَّ أنّ ثورة الثامن من آذار (مارس) في العام 1963، وضعت سورية على الطريق,, وقد كان تسلّم حزب البعث العربي الاشتراكي الحكم، وثبة نوعيّة مهمة في هذا المجال.
ولكن مَن الذي أرسى قواعد هذه الوثبة؟.
بل مَنْ هو الذي صحّح مسارها؟,.
بل مَنْ الذي جعلها شيئاً فشيئاً أمل الجماهير؟, ثم كيف أدركت الجماهير قداستها، وسحرها، فأنزلتها في ضميرهـا، ثم قام الشعب معلناً أنّ بقاءه ببقائها، وأنّه مستعد لأنْ يفديها بالروح؟.
وفي الجواب على ذلك، لابدّ من استعراض الأحداث والمواقف، والأفعال وردود الفعل عليها، والردود على الردود,.
ومن خلال هذا الاستقراء، لزمان الوثبة، واعادة القراءة لكلِّ حدود السلسلة، نعرف سرّ هذه الثورة العارمة في التأييد، ولماذا ارتفعت الى مستوى الفداء,, الذي لا حدود له، لولا الشّعور المتكامل بكبر الأحداث التي مرّت بالقطر والوطن والعصر، وعظمة الردِّ عليها، أي ردِّ حافظ الأسد بالذات.
ولنفتح قليلاً الستارة,.
فبين نكسة حرب حزيران (يونيو) 1967، وبين ردِّ الاعتبار في السادس من تشرين (أول اكتوبر) 1973، لم يكن في كلِّ هذا الوطن مِنْ خليجه الى محيطه، رجل في ضميره الخوف على سقوط الأمة، واضمحلال هذا العنصر العربي سوى حافظ الأسد.
صحيح أنّ الشعار الذي أطلقه عبد الناصر بعد رجوعه عن الاستقالة عشيّة الهزيمة، تحت وطأة الرفض الشعبي العارم لهذه الاستقالة، وهو شعار ازالة آثار العدوان بقي هاجس الشعب والجيش، في مصر، حتى عبور سيناء وغسل عار حزيران (يونيو).
لكنّ الذي ثبت فيما بعد أنّ الذي ينفع الأمّة يمكث في الأرض، وتبيّن أنّ الجيش العقائدي الذي بناه حافظ الأسد، كان مستعدّاً أنْ يقاتل الى الأبد هنا وهناك، وأنّ قائده هو وحده صاحب النَّفَس الطويل، والنظرة الثاقبة التي ترى ما وراء الأفق.
ومنذ الزلزال الذي عصف بالوطن العربي وبجبهته الغربية بعد الزيارة الفضيحة الى القدس، ظنّت الامبريالية أنّ ظهر الصمود انقصم، وانقصم أيضاً ظهر الجبهة الشرقية، وظنّ عرب أميركا، وعرب النّفاق والتربّص، وعرب اللعب على الحبال، أنّ كلّ شيء انتهى وأنّ شبح الوعي الشعبي المرعب لن يرعبهم بعد اليوم وأنّ التقدّمية أخذت طريقها الى الخلف، وأنّ تكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية والاشتراكية هي كلمات تصلح للمعاجم اللغوية الاّ حافظ الأسد، به ضُرِبَ المثل في الأناة والصبر والحكمة والفلسفة، وحتى لكأنّه هادي السفن في أعالي البحار.
وقد صار جاورجيوس القدّيس النازل الى مبارزة تنّين الامبريالية، ذي الرؤوس السبعة، يسدّد لها الطعنات النجلاء حتى كاد يزهق الرمح، ولم يزهق الزند.
ونقرأ في احدى صفحات التاريخ:
وحده حافظ الأسد زربهم في كامب ديفيد، وأغلق عليهم باب الخان فما عاد يجرؤ على الدخول اليه خارج بل صار يفكّر بالخروج منه داخل، وهال القوى الامبريالية، والصهيونية العالمية، والرجعية العربية، انقلاب حساباتها، فعمدت الى ثعبان الطائفية النائم، فأيقظته,, وحقنته بسمومها الخاصة، وأطلقته في الأرض اللبنانية، حيّةً تسعى,, وكانت حرباً سُمّيَتْ بحرب السنتين، لم يعرف التاريخ ما هو أقدر منها في كل ما عُرِفَ من حروب!.
وواجه حافظ الأسد، الزلزال الجديد بمفرده واتّخذ القرار التاريخي بدخول لبنان، فأوقف النّزيف وأحبط المؤامرة، وأسقط التقسيم وقلب التاريخ فصلاً، وكتب عنواناً جديداً: