تقوم تركيا حالياً بتعزيز حضورها العسكري على طول حدودها مع العراق إلى مستويات لم تشهدها المنطقة منذ سنوات، وذلك في إطار جهود تروم استئصال المليشيات الكردية الانفصالية التي تلجأ إلى شمال العراق. وهو ما يعني أنه في الوقت الذي يسعى فيه الجيش الأميركي إلى السيطرة على العنف المندلع وسط العراق، فإن نزاعاً ثانياً قد ينشب في حدوده الشمالية.
ولئن كانت التقارير التي تحدثت هذا الأسبوع عن زحف عسكري تركي كبير نحو العراق، تبدو غير صحيحة، فإن الأكيد هو أن الجيش التركي يتحرك على عجل جنوب شرق البلاد حيث يعيش جزء كبير من الأقلية الكردية، التي تمثل خمس سكان تركيا تقريباً. وفي هذا الإطار، أعلن الجيش التركي يوم الأربعاء الماضي أنه يعمل على إنشاء "مناطق آمنة" في ثلاث مقاطعات من بينها "سيرناك"، وهي خطوة تذكّر بقانون الطوارئ الذي فُرض على هذه المنطقة عام 2002، في إطار الجهود الرامية إلى القضاء على مجموعة من النشطاء الأكراد الانفصاليين.
أما المجموعة موضوع الحديث، فهي "حزب العمال الكردستاني" الذي ينفذ هجمات دموية في تركيا منذ الثمانينيات في إطار نضاله من أجل دولة كردية منفصلة. وقد قام الحزب مؤخراً بتكثيف هجماته ضد الجنود الأتراك؛ حيث قتل أفراده يوم الاثنين الماضي سبعة أشخاص. وأول من أمس الخميس، قُتل ثلاثة أتراك، إثر انفجار لغم. وفي هذا السياق، يقول أحد المسؤولين في "سيرناك"، وهي مدينة تقع شمال الحدود العراقية- التركية تنتشر في محيطها قواعدُ عسكرية: "إنهم يهاجمون جنودنا كل يوم"، مضيفاً "علينا أن نقوم بشيء ما. بوش، عليك أن تعطي الإذن: دعْ الجنود الأتراك يدخلون شمال العراق".
يُذكر هنا أن كلاً من وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، ووزير الدفاع روبرت جيتس، حذر تركيا من قبل من مغبة القيام بعمل عسكري؛ كما أنه من غير المرجح أن تخالف تركيا حليفها الأميركي، على اعتبار أن من شأن ذلك أن يحرج الولايات المتحدة أمام حلفائها الأكراد في العراق.
منذ مطلع التسعينيات، دخلت تركيا شمال العراق ثلاث مرات بعشرات الآلاف من الجنود، ومن الواضح أنها تبحث اليوم إمكانية تكرار هذه العملية. بيد أن ذلك يضع الولايات المتحدة في موقف صعب بين الحلفاء على اعتبار أن الأكراد هم أكثر شركاء الولايات المتحدة ثقة في العراق في حين أن تركيا، التي تعد حليفة لـ"الناتو"، تسمح للولايات المتحدة باستعمال إحدى قواعدها الجوية من أجل الدعم اللوجستي للقوات الأميركية وسط العراق. غير أن المسؤول في مدينة "سيرناك" يقول: "على الولايات المتحدة اليوم أن تختار. إما الشعب التركي أو الشعب الكردي". من جانبه يقول الجيش التركي إن وجوده بمحاذاة الحدود ليس سوى جزء من مناورات عادية، وإن أي تحرك في اتجاه العراق يتطلب أولاً موافقة البرلمان. ولذلك، يضغط اليوم على الولايات المتحدة والزعيم الكردي في شمال العراق مسعود البرزاني من أجل اتخاذ خطوات ضد النشطاء. وفي هذا الإطار، قال دبلوماسي غربي إن الفرق الرئيسي بين الماضي واليوم هو مدى جهر الجيش التركي بمخاوفه.
أما "محمود وفا"، وهو محامٍ في "ديار بكر" -التي تعد عاصمة الإقليم- وعضو سابق في حزب "سياسي كردي"، فيرى أن "الجيش يلعب لعبة خطيرة حقاً على الحدود"، مضيفاً "إنها رسالة إلى شمال العراق والولايات المتحدة والشعب الكردي في تركيا".
وقد تعززت آفاق حدوث عمل عسكري بعد أن خلف انفجارٌ انتحاري مقتلَ ثمانية أشخاص في العاصمة أنقرة في مايو. وقد اتهمت الحكومة النشطاء الأكراد، ولكنهم أنكروا ذلك. وبعيد الانفجار، قال رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان بغير قليل من الصرامة إن تركيا "ليست في حاجة إلى إذن من أحد" بشأن مسألة دخول العراق، مضيفاً "إن تركيا قادرة في هذه المرحلة على تقرير مصيرها". ويذكر هنا أن حكومة أردوغان لطالما روجت لحل سياسي للنزاع الكردي، إلا أنها انتقلت مؤخراً إلى خطب ود القوميين الأتراك.
ويقول "محمد علي كيسلالي"، وهو كاتب عمود في صحيفة "راديكال"، وله علاقات مقربة مع المؤسسة العسكرية التركية: "اليوم يمكن أن يحدث أي شيء"، مضيفاً "ربما قد لا يتعلق الأمر بعملية عسكرية كبرى في العراق، غير أن أي شيء عدا ذلك ممكن".
على مدى سنوات، كانت تركيا تقوم بتوغلات قصيرة وعلى نطاق محدود داخل العراق لمطاردة النشطاء الأكراد، وتحتفظ بوحدة عسكرية من القوات الخاصة في أحد المراكز العسكرية هناك، غير أن الجيش لم يدخل العراق منذ الغزو الأميركي عام 2003. ونتيجة لذلك، جاء تكثيف المناورات العسكرية والدوريات هنا بالقرب من "شيزر"، التي لا تبعد عن الحدود مع سوريا والعراق، كمفاجأة نوعاً ما؛ حيث انتشرت الدبابات في حين حلقت فوق المنطقة طائرة هيلوكبتر أميركية الصنع. وغرباً، وبالقرب من نهر دجلة، كان عناصر صف من الجنود الأتراك يمشون منهكين يجرون أقدامهم وسط حقول القمح الصفراء، عائدين في ما يبدو من دورية في الجبال التركية.
ويقول أحد مزارعي المنطقة في حقل بالقرب من الطريق السريع حيث تمر الشاحنات التي تنقل الدبابات التركية: "إنه الحضور العسكري الأكبر من نوعه الذي أراه منذ عشر سنوات". أما في الجانب العراقي من الحدود، فيقول أفراد من المليشيا الكردية بالقرب من بلدة كرافيلا إنهم رأوا الدبابات والجنود على الجانب التركي منذ نحو شهر. وفي هذا السياق، يقول "خالد سيندي"، القائد في المليشيا الكردية "البشمرجة": "إنهم لم يأتوا بهذه الأعداد من قبل، وإذا كانوا يقولون إن الأمر يتعلق بمناورات عادية، فلماذا يقومون بهذا قريباً جداً من الحدود؟ إن تركيا تهددنا؛ وهذا واضح للجميع".
والحال أن النشطاء يطرحون تهديداً حقيقياً. ففي شهري أبريل ومايو الماضيين فقط، قُتل 30 جندياً تركياً في هجمات مختلفة؛ وفي الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي، قُتل نحو 600 شخص -حسب الأرقام التركية الرسمية- في أعمال عنف مرتبطة بالنشطاء. وفي هذا الإطار، يقول المسؤول في سيرناك: "تخيلوا أن المكسيك جزء من الولايات المتحدة، وترغب في الانفصال، فتهاجم ميامي، وتقتل الأميركيين. إنها مشكلة حقيقية ليس من السهل حلها".