قصة الهندسة- (9)
قصة خيال علمي.
للكاتب الإنجليزي Christopher Priest كتاب خيال علمي بعنوان "العالم المنقلب"، يبدأ الكتاب بجملة من الراوي تكاد تلخص كل الكتاب إذ يقول:
"كان عمري ألف كيلومتر".
قياس الزمن بالكيلومترات؟ كيف ذلك؟ الزمن يقاس بالدقائق، بالأيام، بالأسابيع، و ليس بالكيلومترات!
لكن يمكن قياس الزمن مجازيا بالكيلومترات في حالة وجود تقابل ثابت بين المسافات و الزمن، مثلا إن كان كل كيلومتر يقابل عشرة أيام (كما هي الحال في القصة إياها)، فنستنتج أن بطل القصة كان وقتها في السابعة و العشرين من العمر.
فمتى يكون هناك تقابل بين الزمن و المسافة؟ يحصل ذلك في حالة الحركةالمستقيمة المنتظمة.
ذلك أن القصة تتحدث عن مدينة، مدينة تتقدم على سكة حديد، سكة حديد يتم بناؤها أمام المدينة ثم يتم سحب المدينة عليها، و بعد ذلك يتم تفكيك الجزء الواقع خلف المدينة. و المدينة في تقدمها هذا تحاول أن تلحق بـ"النقطة المثالية"، و هي نقطة وهمية تتقدم كل يوم لمسافة تقارب مائة متر.
ذلك أن هذه المدينة قد تم إنشاؤها بعد نضوب كافة مصادر الطاقة على الأرض، و حين اكتشف أحد العلماء مصدرا للطاقة موجودا في الجو لكنه يدور حول الأرض. فأنشئت هذه المدينة كي تتبعه و تستخدم طاقته...
المشكلة أن سكان هذه المدينة و نتيجة تعرضهم الدائم لمصدر الطاقة هذا يحصل لديهم تشوه في رؤيتهم للعالم الذي يحيط بهم: فمثلا حين يذهبون باتجاه الخلف (الماضي، بلغتهم) يتباطأ إحساسهم بالزمن و يرون الأطوال تتقاصر... و بالعكس: فحين يذهبون باتجاه المستقبل (يعني: الأراضي الموجودة أمام المدينة) يتسارع إحساسهم بالزمن و يرون الأشياء تزداد طولا...
هذه القصة هي قصة خيال علمي، لكن حتى قصص الخيال -علميا كان أم لا- تقوم على بعض الحقائق. و ما يعنينا من هذه القصة هو ما تومئ إليه من اختلاف أنواع قياسات الأبعاد و إمكانية تكافئها... و منه نطرح السؤال:
ما هو القياس لبعد بين نقطتين؟ و كيف يمكن أن نقول أن نظامين من أنظمةالقياس متكافئان؟
رياضيا، هناك تعريف دقيق للبعد و لتكافؤ أنظمة قياس البعد، لكنني سأكتفي هنا بتعريف تقريبي.
لنأخذ بالونا بلاستيكيا -من النوع الذي يمكن نفخه- و لنرسم عليه شيئا ما -مثلا لنرسم قطة.
لنقم الآن بنفخ البالون: سيتشوه رسم القطة فمثلا قد يصبح ذيلها أعرض من رأسها، لكننا سنبقى قادرين على معرفة أن الرسم هو رسم قطة -فهو لم يتحول ليصبح رسما لضفدعة أو لحلزونة مدغشقر العملاقة -مثلا!
أكثر من ذلك: دعنا نضغط بأصابعنا على نقاط مختلفة من البالون المنفوخ -بشرط ألا يؤدي ذلك لانفجاره. سيزداد تشوه الرسم لكنه حتما لن يتحول
ليصبح صورة لحلزونة مدعشقر العملاقة!
لهذا نقول: إن البالون، و البالون المنفوخ، و البالون المنفوخ المعرض لضغوط لا تتسبب بقطعه، هذه كلها "فضاءات طوبولوجية متكافئة"، بمعنى: ما يظهر لنا بشكل قطة في أحدها سيظهر لنا بشكل قطة في الآخر.
دعنا الآن ننظر لهذه القطة التي رسمناها على البالون: ماذا يعني أننا رسمنا قطة؟ يعني أننا رسمنا مجموعة من الخطوط و النقاط بحيث أن "المسافات" فيما بينها تماثل ما نتخيله من مسافات بين أجزاء جسم القطة... فما المسافة؟
المسافة بين نقطتين هي عدد يحقق عدة خصائص...
- فالمسافة بين نقطتين موجبة دوما: لا توجد مسافات سالبة.
- و إن كانت المسافة بين نقطتين معدومة، كانت النقطتان متطابقتين.
- و العكس بالعكس: فالمسافة بين النقطة و نفسها معدومة.
- و أخيرا، فيتوجب تحقيق مبدأ المثلث: إن اخترنا ثلاث نقاط لا على
التعيين و قسنا المسافات بينها، يعني:
أطوال اضلاع المثلث الذي تشكله، فيجب أن يتحقق لدينا أن مجموع طول أي ضلعين أكبر أو يساوي الضلع
الثالث.
نقول:
أي تابع(*) يحقق لنا الخصائص السابقة يحق لنا أن نسميه "مسافة"، و بناء عليه يمكننا قياس الأطوال و ما هو خير من الأطوال: الزوايا (تذكر أن تعريف قياس الزاوية هو طول القوس الذي تحدده في دائرة مقسوما على طول نصف القطر).
أخيرا نقول: و يكون نظامان لقياس المسافات متكافئين (طوبولوجيا متكافئة) إن كانت كل قطة(**) في أحدهما تبدو بشكل قطة في الآخر.
فسيكون لنا عودة لدراسة نماذج لمستوى لوباتشيفسكي حيث سنرى أسلوبالقياس المسافات يختلف عما عهدناه.
فلي عودة...
-------------------------
(*) وضوحا هو تابع، من الجداء الديكارتي للفضاء الطوبولوجي المعني بنفسه، لمجموعة الأعداد الحقيقية غير السالبة.
(**) و الأصح: كل قطة "مفتوحة"، و الأصح من ذلك: كل "كرة مفتوحة"، و تعريف الكرة المفتوحة هو: الكرة من دون نقاط سطحها.