لا شك أن الطبري ( 839ـ923م) هو أحد أشهر طبّاخي وليمة التاريخ، فمن يفتح الموسوعات والوكيبيديا الحالية، سيجد بأن سلسلة الملوك الفرس من أول الأخميديين إلى آخر الساسانيين إضافة لسنيّ حكمهم وما سُطر عن مآثرهم، مقتبس عن الطبري حرفيا، حتى تاريخ بيزنطه لم ينجُ من سطوته وتأثيره. الأمر الذي لفت إلى تناغم بين سرده وبين الموسوعة البيزنطية، التي يُعزى تأليفها للقيصر المثقف (وربما المزوّر) قسطنطين السابع (912ـ959م) (1)
وبما أن موضوعنا لا يروم ولوج هذه المناطق المعقدة الممتنعة، سـأكتفي هنا ببعض المراجعات والإقتباسات التي تضيئ المسافة حول بواكير الإسلام وبدايته، من خلال تفحص البناء الروائي لبعض روايات الطبري، وما ترسمه من صور سياسية ودوغمائية هيمنت على جيله، وحكمت مناخه المعرفي مطلع القرن الرابع هـ.
وقبل ذلك دعونا نتعرف قليلا على الطبري.
يذكر هـ. هورست في مجلة جمعية الشرق الألمانية (2) بأن تفسير الطبري تضمن13026 إسناداً متنوعاً في أكثر من35400 موضع، يعود نصفها للفترة بين80ـ 180هـ وهذا أمر لا يدعو للتشكيك بمصداقيته، فالطبري إستعمل مراجع قليلة، أو نتفا ومجتزءات وصلته، وغالباً أخذ عن روايات شفهية. بيد أن هورست يلاحظ أنه لم يلتزم بفتوى الشافعي عام 204 هـ التي إشترطت دعم وتأكيد الحديث، بسلسلة أسانيد تصل للنبيّ. فتوى جرى تطبيقها بصرامة بعد 50 سنة من الشافعي (مع ظهور صحاح السنّة) وبرأي هورست فإن عدم إلتزام الطبري بسلاسل الإسناد دليل على سلامة ورجاحة عقله.
ومعلوم أنه يرجع بأصوله إلى أقليم طبرستان (حاليا: مازندران قرب بحر قزوين في إيران) حيث تمتعت المازندرانية بتقاليد كتابية، هي الأقدم في بلاد فارس.
وقد خضعت المنطقة في القرن التاسع م لحكم الزيديين (أو الشيعة الرباعية، القريبة من السنّة)
والمعروف أن الطبري نهل من مدرسة القياس والرأي للشافعي (توفي عام 827م) في وقت بدأت تفقد زخمها بسبب تقدم أفكار تلميذه إبن حنبل (توفي عام 855م)
والنتيجة أن الطبري حرر نفسه من وجوب إسناد الرواية ومن التوجه الحنبلي، وإختار خطاً مقبولا من الفرق المختلفة. وهذا قد ترك صداه في أعماله، التي زخرت بروايات متضاربة ومتنوّعة، أثارت إهتمام الباحثين وبوأته مكانا مرموقا وأولية في الترجمة
وقارئ تاريخه يكتشف إختلاط مراجعه، فعندما ينقل أخبار آباء التوارة وملوك الفرس والروم تراه يستخدم كرونولوجيا لتعاقب الملوك والأنبياء كما كانت متداولة في عصره، يفتتحها ب (قالت الفرس، أو قال أهل الكتاب أو حدثنا فلان .إلخ) في حين إعتمد نظام الحوّليات (حسب سنيّ الهجرة) لسرد الحدث الإسلامي معتمدا مصادر مكتوبة أو شفهية تبدأ: بحدثنا فلان كإبن حميد أو هشام الكلبي مرورا بإبن إسحق وغيرهم، وأحيانا نراه يرجّح رأي الفرس على مؤرخي ونسّابي العرب. ففي مثال جليّ تنقله د. سميرة عاشور (3) فإنه يُؤثر رأي الفرس، رغم تعارضه مع القرآن، إذ يقول في حديثه عن نسب الملك الأسطوري "هوشهنك": "إن المجوس لا يعرفون الطوفان ولو كانوا عرفوه لكان نسبهم قد إنقطع وملكهم قد إضمحل" وفي هذا جرأة أدبية لأن القرآن يعتبر الطوفان فناءً لكلّ البشر ما عدا نوح وأهله (ومن عجائب زمننا الأغبر أن الدكتورة عاشور، الأستاذة بجامعة الإسكندرية وإبنة القرن 21 تنتقد ضمنيا موقف الطبري، وكأن قصة نوح حقيقة لا يجوز مسّها ؟!)
وأيضا تنقل عاشور عن نولدكه قوله بأن أهم المراجع التي إعتمدها الطبري لتدوين تاريخ الفرس كانت “خداي نامة” وغيرها من الموروث الفارسي الذي ترجمه ابن المقفع للعربية، والذي تميّز بمزيج من القصص الوعظية والحكايات الأخلاقية والخرافية والحكم، وكلّ ما يرمي إلى تقديم النصح والموعظة للملوك والحكام ليجتنبوا الظلم والبطش ويرغبوا بالعدل والعطف على الرعية، وهذه سمة طبعت التراث الكتابي الفارسي إبتداء من"كليلة ودمنه" لإبن المقفع وصولا ل "منخب التواريخ " للبدواني 999 هـ الذي يقول في مفتتحه: علم التاريخ علم شريف وفن لطيف وأساس العبرة لأرباب الخبرة"“
وتحديدا للموضوع رأيت البدء من رواية تُنسب أحداثها لزمن الملك قباذ بن فيروز (توفي 531م) (5) القريب من بداية الإسلام، فهو سلف كسرى أنوشروان الذي يُزعم أن محمدا قد ولد في سنة حكمه الثانية والأربعين.
ففي ذلك العصر كانت الدولة الساسانية تدار من المدائن (طيسفون) وتشمل بعض ولايات العرب، يحكمها ملوك تُبّع للعرش الفارسي. وهذه الرواية تصلح نموذجا لفهم الذهنية آنذاك وكيف كان سرد التاريخ فضاء للمتعة والدهشة ومسرحا لأبطال خارقين يطوون الدول والممالك وكأنهم فوق بساط الريح. ورغم ذلك فإن بنية الرواية الداخلية تترك لنا إشارات مهمة لفهم بدايات الإسلام (وتسهيلا وإختصارا سأورد القصة بلغة عصرية، وأضع المقتبس بين ظفرين "")
يروي الطبري عن هشام الكلبي: أن قباذا ملك فارس طلب لقاء الحارث الكندي تابعه في الحيرة. يقول: "وكان قباذ زنديقاً يُظهر الخير ويكره الدماء (…) وكثُرَت الأهواء في زمانه، وإستضعفه الناس (..) فلما رأى الحارث ما عليه قباذ من ضعف طمع في أرض السواد" وبعد إعتداءات وتجاوز للفرات إلتقاه قباذ ثانية فحاول الحارث تبرير ذلك بقوله "ما فعلت ولا شعرت ولكنها لصوص العرب ولا أستطيع ضبط العرب إلا بالمال والجنود (..) فأريد أن تطعمني من السواد ما أتخذ به سلاحا"
والرواية لحد الآن ظريفة، فالملك قباذ أصبح ملطشة ومحط إستغلال ملوكه التُبّع وجشعهم وهذا أمر عادي (ورثه العراق الحالي) إلا أن الحارث الطموح قام بإنعطافة (استراتيجية) مهمة فأرسل لتُبّع اليمن يدعوه أن يأتي بجنده، لإستثمار ضعف ملك الفرس والإستيلاء عى ملكه سيما أنه "لا يأكل اللحم، ولا يستحل هراقة الدماء لأنه زنديق"
وطبعا فالأمور سهلة على الرواة .. حضر تُبّع وجيشه من اليمن إلى الحيرة، وهناك تعترضه عقبة كأداء فالبقّ اللعين آذاه وأرق منامه، لذلك "أمر الحارث أن يُشقّ له نهرا إلى النجف (..) وهو نهر الحيرة"
وبعد أرجو ألا تفوتنا المشاهد الدرامية القادمة:
ثم أرسل تبّع اليمن إبن أخيه شمرا ذا الجناح إلى قباذ فقاتله فهزمه فهرب قباذ إلى الري (طهران) فأدركه فقتله، ومضى إلى خراسان، وأرسل تُبّع (بنفس الوقت) إبنه حسّان بجيش آخر للصين وقال: „أيكما (ي) سبق إلى الصين فهو عليها" وبعث إبن أخيه يعفر إلى الروم" بجيش عرمرم يبلغ 640 ألفا
وهنا يدخل الشاعر اللوذعي على الخط لتأكيد عدد الجيش فيقول:
أيا صاح عُجبُك للداهية ـــــ لحميَر إذ نزلوا الجابيه
ثمانون ألفاً رواياهمو ـــــــ لكل ثمانية راويه
طبعا وكما هو متوقع فقد وصل يعفر القسطنطينية "فأعطوه الطاعة والأتاوة ومضى إلى
رومية" ولكن وللأسف الشديد فقد أصابهم هناك الطاعون فوثب عليهم الروم وقتلوهم .. أما شمر ذو الجناح فبعد أن قتل قباذ تابع مسيرته وبلغ سمرقند وحاصرها ثم دخلها بعد خداعه إبنة الملك، حيث وعدها بالنكاح وإنجاب غلام يملك العرب والعجم.. وبالطبع كانت الخدعة مسلّية، وتمثلت بإدخال ألفي تابوت محمّلة بالهدايا لإبنة الملك، لكنها في الحقيقة كانت محمّلة بأربعة آلاف من الجنود المختفين داخل التوابيت.
الذين سيطروا على سمرقند، وكالعادة قتلوا أهلها وإنتهبوها .. ثم تابع السيد شمر مسيرته إلى الصين وقهر الترك في طريقه ولما بلغ الصين، وجد حسّان قد سبقه إليها بثلاث سنين.
وختاما يعلمنا الراوي بإنتهاء مهمة تُبّع الحميري، بعدما تيقّن من وفاة قادته (شمر وحسان ويعفر) فقد بلغه خبر وفاتهم بواسطة إشارات إشعال النار (بعد إنقضاء 29 سنة على ملكهم تلك الأرض) وهكذا وبعد مروره بمكة وحديث البعض عن يهوديته، وتأثيره على كعب الأحبار (الحميري) قفل راجعا إلى اليمن (البعيد) بعد أن دام حكمه (السعيد) 120 سنة، وكان آخر ملك حميَري يخرج من دياره غازيا
خلاصة.
هذه الرواية التي ساقها الطبري بدون همز ولمز أو نقد، مثال تطبيقي لما نهجت عليه السير وتواريخ العالم آنذاك .. فهي كوكتيل من اللامعقول والمسلي والطريف والتداعيات القصصية المتدحرجة. وإذا تفحصنا مكنوناتها سنجد ما يلي:
ـ ملك فارسي.زنديق أي مسالم لا يأكل اللحم، ولا حول له ولا قوة. وفي ذلك إشارة إلى إستمرار تقاليد الزهد المزدكية والزردشتية في إيران زمن الطبري، وبنفس الوقت تصوير للفراغ الدولي الكبير الذي حلّ بالمنطقة بعيد حروب خسرو الثاني مع بيزنطه (ماوركيوس وهرقل) وإنحسار الإمبراطوريتين، ما أتاح للعرب التحرك على خريطة شبحية من الفراغ السكاني والعسكري واللغوي..
ـ وهي تصوّر أيضا تشكّلات شجرة الأنساب العربية وتحالفاتها القبلية، فالسائد أن ملوك الحيرة اللخميين قد تم نسبهم لقبيلة كندة (اليمانية).. لذا كان من السهل على الحارث ملك الحيرة، دعوة إبن عمه تُبّع اليمن وجيوشه المغوارة،
ـ بالطبع لا يخبرنا الراوي كيف سارت جيوش تُبّع وما هي معداتهم ومن أين مؤونتهم وكيف قطعت المسافة بين اليمن والعراق.. ناهيك عن جيوش إبنه (المحروس) حسّان وأبناء أخويه يعفر وشمر، التي بلغت الصين وروما وسمرقند.. ولا عن طبيعة المعارك أو الإمدادات، ولا عن المكان الذي دُفن فيه جيش يعفر، بعد أن ضربه الطاعون في روما، ولا يُعلمنا كيف تجمعت له هذه الجيوش؟
وهذا أمر طبيعي لأن متن الأقصوصة وفضاءها العقلي يستمد نسغه من إسقاطات متأخرة مما درج تسميته بالفتوحات العربية، التي أريد لها أن تصل الصين وتتقهقر عند القسطنطينية وروما، وتتطابق أيضا مع قصص وحيل حربية ساذجة سردها الرواة عن حروب فانتازية خاضها أمثال عقبة وطارق وموسى..إلخ
ـ أما دخول الشعر وتأكيده لعديد جيش يعفر، فليس غريبا وهناك ما هو أنكى وأمر .. فالشاعر كان حاضرا دوما لترقيع الأزمنة والأحداث الخيالية، بما يناسبها من كلام.. لا بل أن الطبري نفسه لم يبخل علينا بقصيدة عربية عصماء لآدم في رثاء إبنه هابيل. والمفيد أن البيتين آتيا على ذكر الجابيه (وهي مركز إجتماع الأمويين في دمشق) وهذا تعبير عن تداخل الأزمنة والأحداث في عقل الراوي، وربما يحمل ذكريات خافتة عما يُسمّى فتح الشام، أو توسع نفوذ القبائل العربية كالغساسنة بعد الفراغ الذي تركته بيزنطه. والطريف أيضا كان حديثه عن شق نهر الحيرة، فالمنجزات العمرانية الكبرى كانت تجد مبرر وجودها بسبب حوادث رمزية أو أحلام أو بعوض قد يتسبب بأذى الملك وأرقه.
هذه إذن أجواء الطبري أحد العقول النابغة، التي خلطت زمنه بأزمنة سبقته، وأسقطت وعي عصره على عصور دارسة لم يصله عنها إلا فتات الحكايا. وسواء علم بزيف الرواية أو لم يعلم، فهو ينقلها للموعظة والتسلية، وإلهاب خيال السامع بالمدهش الرائع. فالصورة عن ظروف مملكة فارس تحت قباذ، وعن فتوحات تُبّع الفيلم ـ كرتونية، هي صورة لمخيّال جمعي، وهو نفس المخيال الذي سطّر لنا سيرة محمد، إنها صورة تحاكي مبتدأ الإسلام وخبر فتوحاته. وربما يكمن الفرق في أن قصة مكّة والهجرة ويثرب والفتوحات، يُصدّقها الجميع، عقلاء كانوا أو مجانين، أما قصة تُبّع الحميري وفتوحاته فيصدقها المجانين فقط. مع أن الفرق بينهما "شعرة"؟! فحافظوا على شعرة معاوية أعزّكمُ الله
1ـ يُنسب لدواوين قسطنطين السابع كتابة الموسوعة:
De Administrando Imperio and De Ceremoliis
التي لم تنجُ من تهمة إختلاق تاريخ جديد للعالم بذريعة تغيّر حروف الكتابة البيزنطية، رافقها حملة تحريق للمخطوطات القديمة (على طريقة عثمان) وهناك من يذهب إلى أن القيصر أراد بفعلته تلك التستر على نسبه الوضيع كحفيد لباسيليوس الأول الذي كان سائس خيول إغتصب العرش وما وصل من شذرات يفيد بأن القيصر قد أرسل بعض مثقفيه إلى قصر الخليفة في بغداد وكان على صلة بعبدالرحمن الناصر في قرطبة
Horst. Heribert : Ztsch. d. dtsch. morgenlنnd. Gesellschaft, Bd.103, H.2 – 19532ـ
3, 4 ـ تاريخ الفرس الأسطوري عند الطبري والفردوسي : سميرة عاشور كلية آداب الإسكندرية
5ـ تاريخ الطبري نسخة دار المعارف، الجزء الثاني ص 95 ـ 98