آخر الأخبار

قصص عصر البطولة القرطاجي

إن ارتباط صور كأم لمدينة قرطاج على الساحل التونسي كان له الأثر البعيد في ظهور قصص حول هذا الارتباط , وقد ظل الحبل السري بين صور وقرطاج قوياً حتى القرن الخامس قبل الميلاد حين تغيرت العقائد الدينية الصورية في قرطاج وظهرت عقائد قرطاجية ذات طابع محلي(41). ولا شك أن فجر قرطاج ظهر من صور، و ظهرت معه أساطير تاريخية تحمل ذكرى الولادة هذه وتشير إلى الأفواج المتدفقة من صور إلى سواحل تونس وتأسيسها لهذه المدينة .

1 - إليسا : مؤسسة قرطاج :

وتتلخص حكاية إليسا في أنها كانت مع أخيها بجماليون أبناء الملك الصوري متان الأول (مطو الأول) الذي حكم في النصف الثاني من القرن التاسع قبل الميلاد ملكاً على صور , وكانت إليسا تتمتع بذكاء وجمال نادرين فتزوجها عمها أو خالها الكاهن الأكبر عاشر باص الذي كان بمثابة نائب الملك وصاحب الكنوز الكبيرة التي أخفاها في مكان بعيد عن منزله . وهو كاهن الإله ملكارت .

كان بجماليون طامعاً بعرش أبيه وكان خائفاً من حب الناس للكاهن الأكبر وطامعاً بكنوز عاشر باص ولذلك قام بقتله فما كان من زوجة عاشر باص أخت بجماليون إلا الهرب مع حاشيتها إلى قبرص حيث تلقاهم كاهن جزيرة قبرص واحتفى بهم(42) .

وكان من العادات الدينية في قبرص إرسال الفتيات إلى معبد الإله (فانوس) للتضحية ببتولتهن على يد الكهنة , فاختارت إليسا ثمانين عذراء منهن ليكن زوجات للشباب الذين انتقلوا معها من مدينة صور إلى قبرص . وسرعان ما شدوا الرحال جميعاً إلى رحلة مجهولة في البحر المتوسط .

ورست سفن إليسا وأصحابها على سواحل بلاد البربر في تونس, فرحب بها ملك البربر (يوباس) , ثم قررت أن تبني مدينة في مكان نزولها ففاوضت ملك البربر الذي يملك الأرض , وتقول الأسطورة التاريخية إن إليسا اختارت شبه جزيرة خارجة في البحر لها شبه كبير بالموقع الجغرافي الذي تأسست فيه مدينة صور , وكان حولها خليج يسمى خليج عوتيقة (أوتيكا) المسمى باسم مدينة فينيقية قديمة كانت قد تأسست هناك قبل هذا الوقت بحوالي قرنين , وقد فاوضت إليسا ملك البربر على أن تشتري أرضاً بمساحة جلد ثور تملؤه ذهباً ... فلم يصدق ملك البربر هذا العرض ووافق فوراً فأعطته إليسا الذهب وأخذت جلد الثور وقطعته على شكل سيور أو خيوط نحيفة جداً حتى حصلت على أرض واسعة(43) .

وعلى هذه الأرض بنت إليسا مدينتها التي سمتها (قرت حدشت) التي تعني (المدينة الحديثة) والتي صار اسمها فيما بعد قرطاج , ثم أقبل سكان مدينة (عوتيقة) أو (عتيقة) واختلطوا بمواطنيهم الفينيقيين بعد أن طارت شهرة إليسا في الآفاق وعرفوا نفوذ أصحابها . وقد أطلق الشاعر الروماني فيرجيل اسم (ديدو) أو (ديدون) على (إليسا) . وكان تأسيس المدينة حوالي 814 ق . م .

وتستمر الأسطورة التاريخية لإليسا على لسان فرجيل في الإنياذة (النشيد السابع) لتقول لنا أن إلسيا أحبت القائد الطروادي الذي قاد فلول الطرواديين (إيناس) وهو ابن أسطوري من زواج الإلهة فينوس من أنخيس ملك طراودة ، لكنه هجرها فغرقت في الحزن . وخلال ذلك يقوم ملك البربر (يوباس) بعرض الزواج عليها فيكون ردها بين حزنها ورفضها بأن تقيم لنفسها محرقة كبيرة عند أبواب المدينة وتقدم أولاً ضحايا كثيرة ثم تطعن نفسها منتحرة فوق حطب المحرقة ثم تحترق مقدمة نفسها ضحية لروح زوجها الأول الكاهن الأكبر والإله ملكارت . وبعد موتها ظلت تكرم كل عام في مكان موتها ، مثل إلهة ، حتى سقوط قرطاج(44) .

وإذا عدنا إلى إنياذة فرجيل نرى أن السبب الرئيسي في موت إليسا التي تسمى (ديدو) أو (ديدون) هو هجران إنياس للملكة ومغادرته لمملكتها . وإنياس هو الأمير الطروادي الشهير الذي قاد الفلول المتبقية من الطرواديين بعد خسارتهم في حرب طرودة عبر البحر الأبيض المتوسط في رحلة مغامرات تشبه رحلة يولسيس ليصل إلى أرض هسبيريا (إيطاليا) . ويكوّن هناك سلالة من الملوك يؤسسون فيما بعد مدينة روما التي تتطور وتسيطر على كل أرض إيطاليا ثم تكوّن الإمبراطورية الرومانية . ولكن ايناس هذا يصادف في رحلة التيه التي بدأ بها من طروادة مدينة قرطاج وتستقبله ملكتها وتقع في هواه ثم تتزوجه ، لكن الآلهة تحثه بعد أن استرخى في أحضان ديدو (إليسا) ومملكتها على المضي إلى هدفه فيغادرها فجأة وتحاول منعه لكنها تفشل في ذلك ، فتهيئ محرقة كبيرة تضع فيها كل ما تبقى من إيناس ، سيفه وثيابه وصورته مدعية بأنها ستحرق ما يخصه بينما سفينته تستعد للرحيل . ثم تصعد المحرقة وتسل سيف انياس وتحرق غمده وتشعل النار وترمي نفسها على الفراش قائلة :

" إنني أسلم الآن روحي ، وقد أنهيت عملي ، فبنيت مدينة جبارة وانتقمت لزوجي من قاتله ، ولو لم تأت سفن الطرواديين إلينا لسعدت بل لتمت لي السعادة . ثم قبلت الفراش وأجهشت قائلة " هل أموت من غير أن يثأر لي؟ ومع ذلك فلأمت، وسيشاهد رجل طروادة هذه النار من البحر الذي يمخره فيحمل معه شؤم الموت".

وهكذا يبدو لنا السبب المباشر والوحيد لموت إليسا هو غرامها الشديد بإنياس وهجره لها دون أن يكون هناك ذكر لملك البربر، وطلبه الزواج منها ورفضها ذلك ثم انتحارها. ويبدو لنا إيناس رمزياً وكأنه (البحر المتوسط) الذي تنتقل سيادته من قرطاج إلى روما وهو ما شهده التاريخ فيما بعد .