آخر الأخبار

العمليات السرية في الشرق الأوسط

نشر الصحفي الأمريكي سيمور هيرش، خلال الشهرين الماضيين، مقالاً هاماً في مجلة النيويوركر الأمريكية (Newyorker)، حمل عنوان: تبديل استراتيجي (Strategic shift)، تحدث فيه عن خطة أمريكية إسرائيلية بالضرورة، تهدف إلى استغلال وتوظيف الخلافات والتناقضات العدائية السنية ـ الشيعية، وتعميمها في دول الشرق الأوسط، على النحو الذي يؤدي إلى إشعال سلسلة من الصراعات الداخلية الدامية في دول المنطقة، بما يعجل بوصولها إلى مرحلة الفوضى الخلاقة، ويتيح للإدارة الأمريكية وإسرائيل التدخل وإعادة ترتيب المنطقة وفقاً لمخطط الشرق الأوسط الكبير.

المرحلة الأولى (Phase one): تبدأ بإيران، والأراضي الفلسطينية، ولبنان، والسودان، والصومال، وذلك لوجود الكثير من الاحتقانات العدائية التي يمكن استغلالها، وهي ساخنة ـ قبل أن تبرد، عن طريق تنفيذ العمليات السرية الاستخبارية، على النحو الذي يحرك الديناميكيات المحرضة للصراع الداخلي.

- في إيران: تم تحديد أربعة أطراف لدعمها من أجل إثارة الاضطرابات الداخلية، هي:

* حركة مجاهدي خلق: وتم إنشاء معسكرين لها في العراق، وبدأت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، عمليات تغلغل واسعة عن طريقها داخل إيران، تهدف في مرحلتها الأولى إلى تجميع المعلومات الاستخبارية حول المنشآت النووية والحيوية الإيرانية، والمرحلة الثانية القيام بعمليات تخريب واسعة ضدها.

* الجماعات السنية المتطرفة في إقليم بلوشستان: وتم دعم هذه الجماعات بكل سهولة عن طريق الجزء الباكستاني من إقليم بلوشستان، واستطاعت العناصر السنية تنفيذ بعض التفجيرات في منطقة شرق إيران.

* الجماعات الأذربيجانية الانفصالية: يوجد في الجزء الشمالي من إيران أقلية أذربيجانية سنية، ترتبط بعلاقات متوترة مع الشيعة الإيرانيين، وهناك أحزاب وحركات سياسية أذربيجانية انفصالية في هذه المنطقة، يتم دعمها حالياً عن طريق دولة أذربيجان المجاورة لشمال إيران، والتي ترتبط بعلاقات قوية عسكرية، نفطية، سياسية مع أمريكا وإسرائيل.

* العرب في إقليم خوزستان (أو عربستان): ويتم استغلال وتوظيف الحركات العربية الموجودة في جنوب غرب إيران، بدعم سعودي، خليجي، أمريكي، من أجل تصعيد تحركاتهم الانفصالية ضد طهران.

* الأكراد الإيرانيون: ويتم دعمهم عن طريق حكومة كردستان العراقية الإقليمية، بدعم أمريكي ـ إسرائيلي من أجل تصعيد تحركاتهم الانفصالية في إقليم (كردستان الإيراني)، وذلك بالتنسيق مع الحركات الكردية العراقية، والتي من أبرزها الحزب الديمقراطي الكرستاني (KDP) الذي يتزعمه مسعود البرزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني (KPU) الذي يتزعمه جلال الطالباني.

* فلسطين: تعتبر فلسطين حجر الزاوية وبؤرة الصراع الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط، ويقوم المخطط على استخدام الضغط المزدوج ضد حركة حماس، وضد منظمة فتح جناح محمود عباس ـ رئيس السلطة، فحركة حماس يتم الضغط عليها بواسطة السلطات الإسرائيلية عن طريق الاغتيالات والاستهدافات العسكرية والأمنية، وعن طريق مصر، والأردن، والسعودية، بما يؤدي لقطع الإمدادات عنها، وعن طريق محمود عباس (رئاسة السلطة الفلسطينية) من خلال إضعاف دورها.

الملامح الأولى لمخطط استهداف حماس بدأت بعد فوزها في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، والملامح الثانية للاستهداف بدأت تظهر بعد اتفاق مكة، الذي نظمته السعودية بموافقة كونداليزا رايس ـ وزيرة الخارجية الأمريكية، ولكن اللوبي الإسرائيلي شن عليه هجوماً واسعاً في واشنطن، وبالذات بواسطة تحليلات ديفيد ماكوفيسكي، ودينيس روس، وروبرت ساتلوف، التي نشرها معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وكانت تحليلاتهم في البداية تشدد على ضرورة مواصلة الحصار على المناطق الفلسطينية، على النحو الذي يرغم حركة حماس على الاعتراف بإسرائيل وبقية الشروط الدولية، والقبول بإعطاء الرئيس محمود عباس دوراً أكبر في الحكومة الفلسطينية. كذلك ركزت تحليلاتهم على التقليل من أهمية الدور الذي تقوم به كونداليزا رايس ولاحقاً، بعد صدور الخطوط العامة لتقرير فينوغراد، بدأت تحليلات اللوبي الإسرائيلي التي نشرها معهد واشنطن تأخذ منحى آخر، وإن كان في نفس الاتجاه الأساسي، وذلك بسبب بروز الخلفية الجديدة، التي تمثلت في تصاعد الحديث عن ملف مبادرة السلام العربية، وقد كتب ديفيد ماكوفيسكي تحليلاً حمل عنوان (حرب الشرق الأوسط القادمة) قال فيه بضرورة الدخول في مفاوضات مع الأطراف العربية، ولكن ضمن أعلى ما يمكن من الشروط المسبقة الإسرائيلية، وبالتالي إذا فشلت هذه المفاوضات ـ والتي سوف يتعمد اللوبي وإسرائيل إفشالها ـ فإن إسرائيل سوف تدخل موحدة في الحرب القادمة من أجل السلام في الشرق الأوسط، وذلك لأن فشل المفاوضات في حد ذاته سوف يوفر لها الذريعة، وسوف يحرق المبررات التي يتذرع بها الأوربيون، والديمقراطيون المعارضون لسياسات بوش في الكونغرس.

أما بالنسبة لشروط إسرائيل في المفاوضات المحتملة مع العرب، فقد تم التلميح إليها في الحوار الذي دار بين شيمون بيريز - نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي-، وديفيد ماكوفيسكي، الذي نشره خلال الأربعة أيام الماضية معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وقد طالب شيمون بيريز، بألا يتم التفاوض حول الملف الفلسطيني مع العرب، بحيث يكون حصراً بين محمود عباس والإسرائيليين، كذلك طالب شيمون بيريز بألا تتطرق المفاوضات لموضوع تعيين الحدود الإسرائيلية، وذلك لأن الوقت الحالي ـ بحسب تعبيره ـ غير مناسب لذلك، وبرأيه أن تقتصر المفاوضات على التطبيع والتعاون الاقتصادي بين العرب وإسرائيل، بما يؤدي إلى التجارة وحرية انتقال السلع والخدمات ورؤوس الأموال، وتبادل السفارات. ولكن تتم موافقة إسرائيل على الدخول مبدئياً في مفاوضات مع العرب، واشترط أن تقوم الجامعة العربية بعقد اجتماع يضم كل الدول العربية، ويقرر الموافقة على الاعتراف بإسرائيل، وعلى اعتبار أن المفاوضات مع الفلسطينيين هي شأن إسرائيلي فلسطيني بحت، بدأ بعملية أوسلو، والمسائل المعلقة المتبقية فيه ترتبط حصراً بمفاوضات الوضع النهائي بين الإسرائيليين والسلطة الفلسطينية.

كذلك أشار أمس الأول شيمون بيريز في عمان بالأردن، بأن إسرائيل سوف تدعم محمود عباس في صراعه مع حماس إن طلب منها ذلك، وحملت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية خبراً يقول بأن 400 عنصر تابعون لمحمود عباس، تم تدريبهم بواسطة قوات الأمن المصرية بدعم أمريكي، في مجال مكافحة (الإرهاب)، قد وافقت إسرائيل على دخولهم إلى قطاع غزة، والذي تم يوم 18 أو 19 مايو 2007م.

* الصومال: تم إمداد أثيوبيا بالمال والسلاح لكي تقوم بدور البروكسي في شن حرب الوكالة (Proxy war) ضد الحركات الإسلامية الصومالية، بهدف (معلن) هو تحقيق استقرار الصومال، وهدف (غير معلن) هو تصعيد الفوضى الصومالية، لأن الأميركيين والإسرائيليين يعرفون سلفاً أن الكراهية المتبادلة بين الأثيوبيين والصوماليين تمتد جذورها إلى مئات السنين، وبالتالي سوف يؤدي تدخل أثيوبيا إلى توسيع دائرة الحرب في الصومال إلى حرب صومالية ـ أثيوبية، وحرب صومالية ـ صومالية، على النحو الذي يشعل منطقة القرن الإفريقي ويؤدي في نهاية الأمر إلى تقسيم الصومال.

* السودان: تصعيد العمليات المسلحة في دارفور، وتحريك ملف القوات الدولية، على النحو الذي يشعل منطقة دارفور ويؤدي إلى إفشال مهمة قوات حفظ السلام الإفريقية، ودفع الاتحاد الإفريقي إلى الانسحاب من قضية دارفور، بما يفسح المجال أمام التدخل الدولي الواسع، من أجل فصل دارفور.

* لبنان: ملف العمليات السرية الأمريكية ـ الإسرائيلية في لبنان، لا يقل خطورة عن ملفات العراق، وفلسطين، وقد تم استخدام هذا الملف في حرب الصيف الماضية بين إسرائيل و حزب الله اللبناني، واستناداً إلى مخطط العمليات السرية الجديدة، التي أشار إليها سيمور هيرش في مقالة (تبديل إستراتيجي)، فقد كان المطلوب هو إشعال حرب سنية ـ شيعية داخل لبنان تؤدي إلى إضعاف دور حزب الله، وإضعاف علاقته مع الحركات السنية الفلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي، وأيضاً إلى إضعاف علاقة إيران الشيعية بالحركات السنية المذكورة، وقد قامت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بالتعاون مع بعض زعماء قوى 14 آذار، وحكومة السنيورة في تنفيذ برنامج يهدف إلى تسليح الحركات السنية المتطرفة، داخل لبنان، وبالفعل تم تقديم السلاح والمال بواسطة السعودية (بإشراف الأمير بندر بن سلطان مستشار الأمن القومي السعودي الوثيق الصلة باليهودي الأمريكي إيليوت أبراهام ـ مستشار الأمن القومي الأمريكي، وديك تشيني، وبقية جماعة المحافظين الجدد)، إلى تنظيم عصبة الأنصار في مخيم عين الحلوة، وإلى تنظيم فتح الإسلام في مخيم نهر البارد. كذلك قام البنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية) بالتسريع في برنامج يهدف إلى تزويد الجيش اللبناني بالتدريب والأسلحة الأمريكية، وتم تنفيذ المرحلة الأولى في حدود 200 مليون دولار من إجمالي 700 مليون دولار تم تخصيصها كدفعة أولى. ولكن على ما يبدو فقد اقتنعت الأطراف الأمريكية، بأنه يصعب قيام عصبة الأنصار وفتح الإسلام بعمليات مسلحة ضد حزب الله اللبناني، خاصة وأنها تضم الكثير من العناصر الفلسطينية الإسلامية، التي وإن كانت متشددة سنياً، فإنها لن تقتنع بتنفيذ عمليات مسلحة ضد الشيعة اللبنانيين، وذلك بسبب دعمهم ووقوفهم إلى جانب المقاومة الفلسطينية.. وهنا برز ملف آخر، هو ملف القاعدة العسكرية الأمريكية المتفق على إنشائها في مكان قاعدة القليعات الجوية العسكرية اللبنانية المهجورة، والموجود في شمال لبنان بالقرب من مدينة طرابلس اللبنانية ـ أي بالقرب من مخيم نهر البارد. هذا وقد نشر تقرير واينماديسون الاستخباري الأمريكي الصادر في واشنطن يوم 21 مايو 2007م، خبراً يقول بأن قاعدة القليعات قد تم الاتفاق مع حكومة السنيورة أن يتم تخصيصها لحلف الناتو، وبما أن أمريكا عضو في حلف الناتو، فسوف تحصل على موافقة الحلف بالإشراف على هذه القاعدة، بحيث يتم استخدامها كقاعدة جوية عسكرية أمريكية متقدمة في منطقة شرق المتوسط، وأن يتم فيها نشر قوات الانتشار السريع (Rapid Deployment force)، وأسراب الهليوكوبتر (Helicopter squadrons)، ووحدات القوات الخاصة (Special Forces Units)، وأن تقوم حكومة السنيورة بالتغطية السياسية الإعلامية على هذا الموضوع. وبالفعل صرح فؤاد السنيورة وزعماء قوى 14 آذار بأن حلف الناتو سوف يستخدم قاعدة القليعات من أجل تقديم

التدريب والمساعدة لقوات الجيش اللبناني، وأهم ما ورد في خبر تقرير واينمادسون الاستخباري، أن الرئيس بوش قد حذر حكومة السنيورة وزعماء قوى 14 آذار من أن وجود الجماعات الإرهابية الإسلامية والفلسطينية في شمال لبنان ـ أي في مخيم نهر البارد ـ سوف يشكل خطراً يهدد الوجود الأمريكي في هذه القاعدة..

وأخيراً نقول: إن خير الكلام ما قل ودل، لقد قامت حكومة السنيورة وقوى 14 آذار باستخدام عملية محاولة السطو على المصرف كذريعة (Pretext) من أجل ترتيب الأوضاع في شمال لبنان، عن طريق الجيش اللبناني المزود بالأسلحة الأمريكية الحديثة، وذلك لتمهيد المسرح اللبناني الشمالي بما يؤمن السلامة لوجود القاعدة الأمريكية من خطر (الإرهاب).. أما مسألة محاولة السطو، فهي أمر يوجد في كل المجتمعات.. بما في ذلك بيروت العاصمة نفسها، وهي كعملية في حد ذاتها لا تستحق هذا الحجم من العقاب الجماعي لآلاف السكان المدنيين. هذا، إن لم تكن عملية السطو في حد ذاتها مفتعلة مفبركة لتضليل الرأي العام اللبناني والعربي، على غرار ذرائع جماعة المحافظين الجدد التي تذرعت بها إدارة بوش في غزو العراق.