في الآونة الأخيرة، قامت البعثة الأثرية الإيطالية التابعة لجامعة روما والعاملة في الجمهورية العربية السورية باكتشاف مثير هز أوساط الباحثين في حقل الدراسات الإنسانية بالعالم وقد تألفت لجنة دولية لدراسة المكتشفات الأثرية وخاصة محفوظات القصر الملكي التي تعتبر جزءاً هاماً من الاكتشاف الملمح إليه.
كان هذا الاكتشاف في تل مرديخ- إبلا إلى الجنوب من حلب في الجمهورية العربية السورية، الاكتشافات المثيرة والهامة كانت بالواقع كثيرة في الجمهورية العربية السورية في الآونة الأخيرة منها اكتشاف مدينة أيما القديمة (مسكنة) على نهر الفرات ومدينة ياخاريشا (تل الفرى) على الفرات أيضاً ومدينة آزو (تل حديدي) في نفس المنطقة وغيرها الكثير ولكن أهمها كان على الإطلاق اكتشاف مدينة (إبلا) في تل مرديخ وإن دلت هذه الاكتشافات على شيء فإنها تدل على أن سوريا منذ القدم كانت مهداً لحضارة قديمة عريقة أعطت وأخذت.
سيتضمن بحثنا هذا عن إبلا في تل مرديخ قسمين: القسم الأول هو ما نقدمه الآن إلى القارئ وهو عبارة عن مقدمة لإعطاء فكرة عن مراحل التنقيبات الأثرية وعن الاكتشافات الهامة في تل مرديخ (إبلا) أما القسم الثاني فسيكون حول آفاق حضارة إبلا وعلاقتها بالوسط السياسي والحضاري بالمنطقة، وبالطبع سيشمل الرد على المفاهيم المغلوطة التي تبنتها ونشرتها بعض الأوساط العلمية في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية.
في مقابلة مع الأستاذ ماتييه مدير التقنيات الأثرية في تل مرديخ أجاب عن سؤال وجه إليه، كيف وقع اختيارك على تل مرديخ: "في عام 1963 أوفدتني جامعة روما إلى سورية لاختيار موقع أثري للتنقيب فيه، وكنت أفضل أن يكون موقعاً فينيقياً أو آرامياً، وهنا في سوريا أتاحت لي السلطات الأثرية زيارة كثير من المواقع، وكان من بينها تل مرديخ، ولقد لفت نظري هذا التل سيما وأن الفلاحين كانوا قد عثروا فيه صدفة على جزء من حوض بازلتي كبير نحت عليه مشهد رائع من الفن السوري يعود إلى بداية الألف الثانية قبل الميلاد(1). ولم نكن نعرف الكثير عن هذه الفترة عن سوريا وكانت وجهة نظر هنري فرانكفورت حول الفن المبكر في سوريا أنه عبارة عن صدى لتأثير الفن المصري والأناضولي والرافدي، وقد كان هذا الرأي غريباً من مؤرخ فن كبير مثله سيما وأننا لا نعرف إلا القليل عن هذه الفترة كما أشرت أعلاه، وحيث أنني كنت مقتنعاً أن الفن السوري في هذه الفترة له مقوماته الخاصة به(2)، وزادت قناعتي رسوخاً بعد زيارة تل مرديخ وبعد مشاهدة الحوض البازلتي في متحف حلب ولما كنت أبحث عن تل كبير، فقد وجدت ضالتي في تل مرديخ(3).
وفي مكان آخر يقول الأستاذ نفسه : هناك اعتباران جعلاه يختار تل مرديخ للتنقيب الأثري أولهما: اتساع التل إذ تبلغ مساحته 56 هكتاراً وثانيهما: وجود كسر فخارية على سطحه تعود لحضارة معروفة في نقوش ملوك آكاد (2330-22000ق.م) أي لأواخر العصر البرونزي القديم 2300-2000-1900 ق. م ولحضارة العصر البرونزي الوسيط 2000/ 1900-1600ق. م(4).
يقع تل مرديخ إلى الجنوب من حلب على بعد خمسين كيلو متراً تقريباً، وهو يبعد عن بلدة سراقب الحالية ستة كيلو مترات إلى يسار الطريق الذاهب من حلب إلى دمشق، يصلها بالطريق العام طريق معبد من الدرجة الثالثة (شكل1) وتقع بالقرب منه قرية تحمل اسمه، يأخذ تل مرديخ الذي تربض فيه خرائب مدينة إبلا القديمة شكلاً إهليجياً يبلغ طوله 900م وعرضه 600 م وارتفاعه13 م ويتألف من منطقة مرتفعة (الاكروبول) ومنطقة منخفضة تحيط بالمنطقة المرتفعة ويحيط بالمنطقتين سور عريض(5).
ومساحته تبلغ 54 هكتاراً!
إبلا في الوثائق والكتب التاريخية:
مدينة إبلا التاريخية والهامة معروفة من خلال النقوش والرقم والكتب التاريخية، ولكن لم يعرف موقعها بالضبط، ويبدو أن البعثة الأثرية الإيطالية بعد أن أجرت مسحها الأثري في منطقة تل مرديخ قبل التنقيبات الأثرية مالت إلى الاعتقاد بأن إبلا القديمة قد تقع في تل مرديخ، وهكذا تجد الحديث عن إبلا قد بدأ منذ الموسم الأول للتنقيبات، ولكن ظل هذا الاعتقاد لا يتعدى التكهن والحدس والتخمين، ومع ذلك فقد شارك بعض العلماء البعثة الإيطالية بعضاً من تخميناتها، بينما بقي بعضهم الآخر ينظر إلى القضية بتردد وعلى أبعد تقدير ظل ينتظر نتائج التنقيبات الأثرية، وأرى قبل الحديث عن التنقيبات الأثرية ونتائجها أن أعطي لمحة تاريخية عن المدينة وأهميتها عبر العصور.
ورد اسم "إبلا" في كثير من المدونات التاريخية القديمة كعاصمة لمملكة قديمة هامة تحمل نفس الاسم، كانت تسيطر على قسم هام من سوريا الشمالية، وتمتد من جبال طوروس شمالاً حتى سيناء جنوباً وإلى بلاد ما بين النهرين شرقاً وإلى البحر المتوسط غرباً. تذكر الوثائق الآكادية التي تعود إلى مؤسس الدولة الأكادية سرجون الكبير (2350-2295 ق.م)(6) حول حملته إلى البلاد الغربية أنه بسط سلطانه حتى غابات الأرز وجبال الفضة وخاض أربعة وثلاثين معركة انتصر فيها(7)، وتذكر إحدى النصوص "في توتول صلى للرب دجن Dagan الذي باركه وحثه على السير نحو المنطقة العليا وإلى ماري وإلى أيارموتي Iarmuti وإبلا Ibla حتى غابات الأرز وجبال الفضة"(8).
ويبدو إن إبلا كانت مملكة كبيرة كماري وتوتول وأيارموتي تتبعها ممالك أخرى تشكل معها اتحاداً كونفدرالياً أو أنها ممالك تابعة(9).
هذا ما يمكن أن نعرفه من نقوش سرجون الآكادي. ولكن نقوش نارام حفيده مدتنا معلومات أكثر تفصيلاً عن إبلا وأرمانوم (حلب؟) فقد ذكر نص تذكاري عثر عليه في أور من الفترة البابلية القديمة "في كل وقت، ومنذ خلق البشر لا يوجد ملك بين الملوك اقتص من بلاد أرمانوم Armanum وإبلا Ibla، وعليه فإن الرب Nergal قد فتح الطريق أمام البطل الصنديد رابط الجأش، نارام سن وأعطاه بلاد أرمانوم وإبلا في يديه ووهبه أيضاً جبال الأمانوس وجبال الأرز وبلاد البحر الأعلى، وهكذا كان ذلك بسلاح الرب داجن الذي جعل البطل نارام سن يهزم أرمانوم وإبلا ويجبرهما على دفع الجزية لأسرته الملكية، من شاطئ الفرات حتى أوليزم Ulism أخضع الشعوب التي جعلها داجن مؤخراً هبة له وهزم أمانوس وجبال الأرز"(10).
وعندما قرر داجن الغلبة لنارام سن سلمه Rich-Aclad ملك أرمان، حيث صلبه مقلوباً عند المدخل الرئيسي لمدينته وجعل له تمثالاً من الديوريت وكرسه للرب Sin بالكلمات التالية:
"هكذا يقول نارام سن ملك المقاطعات الأربعة، عندما سلمني داجن أرمانوم وإبلا في يدي ربطت Rich Adad ملك أرمانوم وجعلت له صورة"(11).
مما سبق يبدو أن إبلا وأرمان شكلتا حلفاً ضد نارام سن ودخلتا معه صراعاً على النفوذ والسيطرة على الطرق التجارية ولكن نارام استطاع أن يهدم ذلك الحلف ويعامل المدينتين معاملة قاسية.
وجاءت إشارة واضحة أخرى إلى إبلا من قبل جوديا Gudea ملك لاغاش Lagash فقد ذكر هذا في أحد نقوشه أنه أحضر ثلاثة أنواع من الأخشاب الضخمة من مدينة أورشو Ursu (12)، الواقعة في جبال إبلا لبناء معبد Ningirsu في لاغاش(13)، وفي مكان آخر ذكر أن جوديا قد أحضر أخشاباً ضخمة من جبال الأرز والأمانوس التي سماها جبال الأمورو، وهنا ورد ذكر إبلا ومعها لأول مرة ذكر لمدينة Ursu في المنطقة الجبلية التي كان يؤخذ منها الخشب والتي كانت فيما يبدو خاضعة لمملكة إبلا(14)، كذلك نجد في الوثائق الإدارية التي تعود إلى جوديا ذكر لعدة مراكز تجارية هامة في ذلك الوقت مثل أورسو أو أورشو، أرمانوم، إبلا، موكش، وترقة.
هذه الأسماء وأسماء أخرى ورد ذكرها في محفوظات التجار الآشوريين كمستعمرات تجارية لبلاد ما بين النهرين مثل Abarna أو Abarnium أو Khahhum وإبلا Ibla وأورشو Urshu (15). ويظهر أنه بعد التدمير الذي ألحقه بـ "إبلا" نارام سن الآكادي في الفترة ما بين 2250 ق. م و 2220 ق. م فقدت المدينة أهميتها ولم تعد تذكرها النصوص التاريخية إلا نادراً وفي هذه الفترة بالذات أو بعدها بقليل بدا الناس يهجرون المنطقة بعد أن فقدت أهميتها السياسية والاقتصادية، إلى بلاد ما بين النهرين أو إلى جنوب فلسطين(16).
في عام 1700 ق. م ورد ذكر لملك إبلا، غير أنها في عام 1600 ق. م لم تكن إلا مجموعة خرائب وفي عام 1500 ذكرها فرعون مصر تحتومس الثالث على أحد أعمدة معبد الكرنك كمقاطعة اجتازها الجيش المصري خلال سيره نحو منطقة الفرات(17)، بعد ذلك طوى النسيان المدينة ولم يعد يذكر اسمها إلا لماماً.
هذه إبلا في الوثائق التاريخية والمدونات قبل إجراء الحفريات الأثرية فيها واكتشاف محفوظات القصر الملكي التي أمدتنا بمعلومات أكثر دقة واتساعاً عن تاريخ المدينة وأهميتها الاقتصادية والسياسية وعن الحياة الاجتماعية والعمرانية، وقبل أن ندخل في نتائج الحفريات أرى أنه من المناسب أن نستعرض مواسم التقنيات الأثرية والمراحل التي مرت فيها والتي يرجع الفضل إليها في إعطائنا صورة واضحة عن فترة كانت مظلمة لا نعرف عنها إلا القليل في سوريا، وأعني بها فترة العصر البرونزي المبكر (نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد) والعصر البرونزي الوسيط.
التقنيات الأثرية ونتائجها:
في عام 1964 وفي الفترة الواقعة ما بين 13/9/64 - 2/10/964 أجرت البعثة الإيطالية التابعة لجامعة روسيا موسمها الأول(18) الذي اقتصر على دراسة أثرية للمنطقة وإجراء بعض الأسبار، وكان الهدف من ذلك التأكد من الصفة الطبوغرافية للتل ومعرفة الفترات الزمنية التي سكن فيها التل والمنطقة المحيطة به خاصة في العصور القديمة والعصر الروماني البيزنطي، من خلال المشاهدات السطحية تأكد للبعثة استيطان تل مرديخ في العصر البرونزي القديم IV والعصر البرونزي الوسيط I، وقد تميز فخار العصر البرونزي القديم IV بأنه من النوع الصافي الرقيق ذي اللون الأخضر ويندر وجود اللون الوردي الشاحب، وهذا النوع من الفخار محقق في النماذج المتنوعة مثل الزبادي المنتفخة قليلاً والكؤوس والأباريق وجميعها عليها تزيينات طلائية أفقية بلون أحمر غامق أو أسود ومحززة بخطوط حلزونية، كما عثر على فخار مصنوع باليد مغشى بطبقة ذات لون مخضر وعلى الكثير من النماذج الفخارية المصنوعة باليد ذات اللون الكستنائي الضارب إلى البنفسجي أو الأخضر وهي على شكل صحون وقدور كلها تعود إلى نفس العصر المذكور أي العصر البرونزي القديم IV.
كذلك تعود إلى هذا العصر نماذج التمائم الفخارية الصغيرة، أما فخار العصر البرونزي الوسيط فيتصف باللون الأصفر البراق والوردي الصافي على شكل جرار متوسطة الحجم وكؤوس ذات قعر وخطوط تحت الشفة وبأواني ذات قياس متوسط محززة تحيط بها متوازية ومفصولة في بعض الأحيان بحز ثالث متموج.
ويلاحظ أن هذه الأواني الفخارية مزينة أحياناً بجديلة مشغولة واقعة تحت الحزام الثاني المحزز ومزينة بخطوط عمودية وببصمات أصبعية، وهذا النوع وجد منتشراً على مرتفعات السور وعلى المرتفعات المحيطة بالمدينة المنخفضة بينما وجد على الأكروديول نفس هذه النماذج من الكسر مختلطة مع نماذج أخرى تعود إلى العصرين الهلنيسي والروماني.
في هذا الموسم (1964) أجريت الأسبار D, C, B, A
كان الغرض من السبر A التحقق من وجود السور، كان السبر B في المنحدرات الغربية من الأكروبول ودفعنا إليه العثور على حوض بازلتي في موقعه قبل عدة أعوام من بدء التقنيات وهو محفوظ بالمتحف الوطني بحلب(19).
وكذلك السبر C والسبر D كانا في المنحدرات الغربية للأكروبول. الخلاصة فقد تأكد من خلال الدراسات السطحية التي تحدثنا عنها سابقاً والأسبار التي أجرتها البعثة، أن تل مرديخ كان موقعاً هاماً جداً فهو يقدم لنا دليلاً واضحاً لحضارة سورية الداخلية بين نهاية الألف الثالثة وبداية الألف الثانية ولم تكن هذه الحضارة معزولة إنما كانت محاطة بأفق عمراني واسع يتصف بازدحام المراكز الحضرية المسكونة، وهذا ما نلمسه في تمركز التلال الأثرية على مسافات متقاربة تبلغ عشرة كيلو مترات تقريباً المحيط بتل مرديخ والتي زارتها البعثة (شكل 1).
النتائج الهامة من الوجهة العلمية التي حصلت عليها البعثة في موسمها الأول شجعتها على إجراء مزيد من التقنيات فكان الموسم الثاني في عام 1965 وفي الفترة الواقعة ما بين 28/8-6/10/1965 تابعت البعثة أعمالها في هذا الموسم في الأسبار التي أجرتها في موسمها الأول بالإضافة إلى أحداث سبر جديد حمل الرمز E ، ففي السبر A كشفت التقنيات عن قسم من الحصن الشرقي للباب الغربي وفي السبر D تم اكتشاف معبد حال دون تعميق الحفريات فيه في هذا الموسم أهمية البناء المكتشف(20) ولكن تم اكتشاف حوض من الكلس في الزاوية الجنوبية الغربية منه أي من معبد المنطقة D تبلغ أطواله 1.1× 0.65× 0.64م يتميز بأنه ذو جرنين وهو مزين من أطرافه الثلاثة بنقوش تمثل طقوساً ومناسك على وجهه الأساسي وصوراً دينية على الوجوه الجانبية وهو يشبه الحوض البازلتي الذي ذكرناه سابقاً(21)، وكذلك تم العثور على تمثال بازلتي وجد في غير مكانه الأصلي في منطقة السبر A وهو تمثال دون رأس يمثل رجلاً ملتحياً يجلس على مقعد مكعب الشكل يمسك
بيده اليمنى كأساً، يمكن أن يعود التمثال إلى الفترة الواقعة ما بين 2200-1800 ق. م أو الفترة الواقعة ما بين 1900-1800ق. م(22).
في الموسم الثالث 28/8-5/10/66(23) تابعت البعثة أعمالها في القطاعات E, D, B, A وقد تمكنت في هذا الموسم من تحديد الفترات السكنية في تل مرديخ بشكل تقريبي وهي كالتالي:
الفترة I: وهذه الفترة تقابل سوية F من العمق وسوية حماه وسوية مرسين XIII-XIV وآخر الدور الحجري النحاسي في طرسوس تعتبر هذه الفترة أقدم فترات التل حتى الآن، وعثر على مخلفاتها متوضعة على الطبقة الصخرية مباشرة في القطاع B تحت أساسات معبد المدينة المنخفضة، كما التقطت بعض الكسر الفخارية التي تعود لهذه الفترة والتي كانت متناثرة على السطح وخاصة الذروة والسور.
الفترة II: وتقابل سوية حماه J وسوية العمق J-I وسوية البرونز القديم III-IV عند اليرايت، هذه الفترة أهم فترات التل وأغناها بالمنشآت المعمارية والمخلفات الحضارية، عثر عليها في مكانها الأصلي في القطاع الشمالي من الأكروبول تحت الأقسام الشمالية الغربية من القصر العائد للفترة III وفي الأسبار التي أجريت في السطح المرصوف المشيد من اللبن ليكون أساساً للمعبد الكبير. لا يوجد ما يثير الانتباه في المدينة المنخفضة في هذه الفترة، إلا أن السور يبدو أنه يعود لهذه الفترة.
الفترة III: تقابل سوية حماة H وسوية العمق K وتعادل سوية البرونز الوسيط I-III وجزئياً سوية البونز الوسيط IIB (عند اليرايت) على الأقل، في هذه الفترة اتسعت المدينة ولا تعرف كم دام ذلك وبقي الأكروبول مقر الحكم واستمرت بعض أبنية الفترة وكذلك السور ويبدو أن هذه الفترة انتهت بأزمة خطيرة وتعرضت فيها المدينة للحريق أو النهب.
الفترة IV: تقابل سوية حماه G وتعادل بشكل عام عصر البرونز الحديث، لقد انحصرت بقايا الاستيطان في هذه الفترة (بالأكربول) دون نظام أما في المدينة المنخفضة والسور فلم نجد ما يخص العصر البرونزي الحديث، وعليه يمكن الافتراض هنا أن (الأكربول) سكن في هذه الفترة من قبل جماعات صغيرة وعلى فترات متقطعة ساهم المعبد الذي بقي قائماً على إبقاء الناس حوله.
الفترة IV : وتقابل سوية حماة E-F وتعادل عصر الحديد الأول والثاني في هذه الفترة يقتصر السكن في تل مرديخ على الأكروبول ويصبح عبارة عن قرية هامة من قرى عصر الحديد.
الفترة VI: تعود هذه الفترة للعهد الفارسي والعهد الهلنسيتي، وتمتاز هذه الفترة بازدهار التوطن الآرامي وتوسعه في القسم الشمالي من الأكروبول أو على الأرجح في بعض المناطق المنخفضة.
الفترة VII: وتعود إلى العهد الروماني المتأخر والعهد البيزنطي، ليس ثمة بقايا من هذه الفترة اللهم إلا بعض القبور في منطقة المعبد الكبير تحت السطح مباشرة في القطاع D ولكن هناك بعض المباني القليلة التي تعود إلى هذه الفترة على السطح الغربي من الأكروبول، ربما كانت عبارة عن محطة على الطريق.
الفترة VIII: وتعود إلى العهد الأموي، يمكن أن يعود لهذه الفترة جدار حجري عند الباب الجنوبي حيث وجدت عليه كتابة عربية يمكن تأريخها بالعهد الأموي.
في الموسم الرابع الذي امتد من 10/10/-5/12/1967(24)، تابعت البعثة أعمالها في المناطق التي عملت فيها في المواسم السابقة، في منطقة القطاع A عند باب المدينة الجنوبي حيث تم كشف عدة غرف داخل الحصن الشرقي كذلك أجرت أسباراً في أعلى سويات السور غربي الباب الجنوبي، وفي القطاع C استمر التنقيب في القبر البئر الذي بدأ في الموسم الثالث دون الوصول إلى أسفل المدفن، وفي القسم الغربي من الأكروبول تم اكتشاف معبد ثلاثي الحجرات وفي القطاع E تابعت كذلك البعثة جلاء السويات السطحية، أما في القطاع F الذي افتتح مجدداً فأجري سبران للتحقق من البنية الطبقة للأكروبول في المنطقة الواقعة بين المعبد والقصر.
وفي الموسم الخامس في الفترة الواقعة ما بين 27/8-16/10/1968(25)، تابعت البعثة أعمال التنقيب في بعض القطاعات السابقة وفتح قطاع جديد هو القطاع G الذي كان الهدف منه معرفة مدخل القلعة القديم، زودنا هذا القطاع بأهم النتائج حيث اكتشف جزء من تمثال بازلتي عليه 26 سطراً من الكتابة الأسفينية ستة منها مشوهة والباقي جيد(26) ويحمل هذا التمثال الرقم TM 68 G 61 ، قام عالم السماريات البروفسور ثيناتو بترجمة الكتابة وقد تبين له أن التمثال أقيم أمام الربة عشتار من قبل ابت ليم بن أجرش- حييا أحد ملوك إبلا وقد ورد اسم إبلا في النص مرتين، وهذا أول نص مكتوب عثرت عليه البعثة يحمل اسم "إبلا" المدينة القديمة.
بعد الموسم الخامس لم تقم البعثة بنشر تقاريرها الأولية عن نتائج تنقيباتها الأثرية واكتشفت بتناول موضوعات هامة بالدراسة-والمناقشة مثل، حربتان من تل مرديخ(27)، طبعة ختم (28) من الفترة السورية القديمة في تل مرديخ، القصر الملكي، أرشيف القصر الملكي، إبلا في العصر الآكادي وغيرها من المقالات الكثيرة التي سنستخدمها في هذا البحث.
بوجه الإجمال يمكن القول بأن التنقيبات الأثرية في تل مرديخ حتى عام 1973 اقتصرت على فترة تل مرديخ (IIIA- B) من العصر البرونزي الوسيط (I-II) في المدينة المنخفضة في القطاعين B, A إلى الجنوب الغربي من الحي المرتفع (الأكروبول)، وفي القطاع N الواقع في الجهة الشمالية من المدينة المنخفضة أما تنقيبات عام 1973 وما تلاها حتى اليوم فقد كانت تجري في فترة مرديخ II B-I التي تعود إلى العصر
البرونزي المبكر (الدور الرابع IV) وكان أهمها على الإطلاق تلك التي جرت في القطاع G في المنحدر الجنوبي الغربي من (الأكروبول) حيث اكتشف القصر الملكي الذي يعود إلى فترة سرجون الآكادي والذي أمدنا بمحفوظات عام 1974 ومحفوظات عام 1975 ومحفوظات 1976 إلى جانب بعض اللقى الصغيرة ومن المتوقع العثور على مكتشفات هامة جداً في التنقيبات المقبلة فإذا كانت تنقيبات الألف الثاني قبل الميلاد قد ألمحنا قبل قليل إنها التنقيبات التي جرت قبل عام 1973 قد أعطتنا معلومات هامة عن حضارة سوريا الشمالية فإننا نتوقع من التنقيبات المرتفعة في سويات الألف الثالثة قبل الميلاد أن تعطينا الكثير من المعلومات عن حضارة سوريا في هذه الفترة عندها تحدث ثورة حقيقية في جوهر المعرفة التاريخية(29).
إن الرقم المكتشفة في القصر الملكي المشار إليه أعلاه أكدت بالدليل القاطع أن تل مرديخ هو "إبلا القديمة"، هذا الاكتشاف وأعني به رقم القصر يعتبر حتى الآن أهم اكتشاف أثري في سوريا وأقدم عهداً من أي اكتشاف سبقه من نوعه، نحن نعرف، أن سوريا كانت مسرحاً لتنقيبات أثرية هامة في العشرين وأوائل الثلاثينيات أهمها على الإطلاق تنقيبات أوغاريت (رأس شمرا) وماري (تل حريري) التي أمدتنا بأهم الكنوز الأثرية السورية من رقم وتماثيل ومنحوتات يزين معظمها اليوم قاعات المتاحف في سوريا وفرنسا، ولكن لم تكن أي من هذه التنقيبات بأهمية تنقيبات "إبلا"، فرأس شمرا كشفت عن حضارة سورية أصيلة تعود إلى العصر البرونزي المتأخر وماري باتت موقعاً متأثراً لدرجة كبيرة بالحضارة السومرية- الآكادية والبابلية في بلاد ما بين النهرين(30).
تحقيق هوية تل مرديخ وتطابقه مع إبلا القديمة:
باكتشاف جزء التمثال TM. 68. G. 61 الذي تحدثنا عنه آنفاً طرحت مسألة تحقيق هوية تل مرديخ على بساط البحث أن النص المسماري الذي وجد على جزء التمثال يجعل من الممكن الافتراض أن تكون "إبلا" هي تل مرديخ ولكن يظل هذا الافتراض ضيقاً إذ أنه لا يساعدنا على تأكيد ذلك بشكل قاطع إذ ليس من المستبعد أن يكون ملك إبلا قد قدم تمثالاً لعشتار في مدينة أخرى ولكن المدينة الموجودة في تل مرديخ هي من الأهمية بحيث لا يعقل أن يغفل هذا الملك اسمها على حد تعبير ماتتيه(31) ، ثم إن المدينة التي كانت في التل في هذه الفترة التي نحن بصددها قبل نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد باستثناء المشرفة- قطنا- أكبر مدينة في سورية الشمالية، هذا إلى جانب أن المعلومات التي تذكرها الكتب التاريخية عن إبلا تساعدنا على افتراض وجودها في تلنا هذا(32)، فضلاً عن أن المعطيات الأثرية تؤكد ازدهار منشآت التل في الفترة التي يعود إليها التمثال آنف الذكر في الواقع قبل اكتشاف جزء التمثال الذي يحمل النص المسماري والمشار إليه سابقاً لم يفترض أحد من العلماء انطلاقاً من المصادر المكتوبة أن إبلا يمكن أن تكون في جنوب حلب ومع ذلك فإن فايدنر(33) وغوته(34)، قد تصوروا وجودها في سوريا الشمالية بجوار حلب، وكل الفرضيات تقريباً كانت تقدر أن إبلا أما في وادي البليخ وهذا ما ذهب إليه أنغز(35) وألبرايت(36) الذي كان يتصور أنها في تل البيعة، وكوير(37) ذهب إلى ما ذهب إليه ألبرايت، أو أن تكون في مكان ما جنوب جبال طوروس على الحدود السورية- التركية الحالية مع ميل في المدة الأخيرة إلى تصور وجودها إلى الشمال الشرقي من جرابلس والذين يرون أنها في جنوب جبال طوروس هم لاندزيوغر(38) وبل(39)، وكلنقل(40)، وفلكشتاين(41)، وجلب(42)، وأونغناد(43)، أما سدني سميث الذي نسخ ونقل وترجم معظم النصوص العائدة للأسرة الآكادية والتي عثر عليها في أور، أبدى ملاحظات على المشاكل الجغرافية فكانت هناك أسماء كثيرة موضع جدل ماري، يارموتي، إبلا، غابة الأرز، جبل الفضة وغيرها، حيث أن يارموتي حسب رسائل تل العمارنة كانت ميناء بحرياً إلى الجنوب من ببيلوس وحيث أن طريق سرجون من حملته كما يشير سدني سميث نفسه من ماري إلى ميناء بحري جنوب ببيلوس ومن هناك إلى جبال الأمانوس مروراً بإبلا التي كانت منطقة جبلية، من هذه الحقائق ينتهي سدني سميث أن إبلا تقع في المنطقة الواقعة ما بين جبيل والاسكندرونة ليس بعيداً عن الساحل ومرة أخرى نجد سدني سميث يصل إلى نتيجة مؤكدة حيث يعتبر أن مقاطعات أرمان/ حلب وإبلا تمتد من الفرات إلى البحر المتوسط هاتين المقاطعتين اللتين اتحدتا تحت راية Rid Adad ملك أرمان (44)، وقد قبل J. Lewy هذه النتائج ولكن أضاف بعض التفاصيل العامة حيث ذكر إبلا فوق جبل عاروده(45).
والآن أين إبلا؟ إن الاكتشافات الأثرية المشيرة في تل مرديخ كالتمثال البازلتي (1968)، وأرشيف (1974) وأرشيف (1975) قطعت الشك باليقين وتأكد بالدليل القاطع أن إبلا هي تل مرديخ اليوم فنالت البعثة الإيطالية برئاسة الأستاذ باولو ماتييه شرف اكتشاف مدينة إبلا وبذلك انضمت إبلا إلى قافلة المدن السورية التي تم الكشف عنها وتحقيق وجودها مثل ماري (تل حريري)(46)، أوغاريت /رأس شمرا/(47)، ايمار /مسكنة القديمة/(48) أزو/ تل حديدي/ (49)، وياخاريشا (تل الفوى/(50).
الرقم الفخارية في إبلا (الأرشيف):
ذكرنا أن اكتشاف جزء التمثال البازلتي عام 1968 الذي يحمل نقشاً يدل على أنه تمثال ملك إبلا Ibbit-lim المقدم للربة عشتار، كان المفتاح الذي قادنا إلى اكتشاف إبلا، وفي عام 1974 عاد الحديث عنها مرة ثانية عندما اكتشف الأول في مكانه الأصلي(51)، مرة ثالثة طرح الحديث بشكل جدي عنها أي عن إبلا عام 1975 عندما تم اكتشاف الغرفة الأولى من الأرشيف الملكي الذي يعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد(52)، والآن تعال لنتحدث عن مضمون الرقم المكتشفة وما هي طبيعة المعلومات التاريخية التي قدمتها لنا.
الرقم المكتشفة في عام 1974 تؤلف مجموعة من 42 رقيماً معظمها ذات طبيعة إدارية-تجارية تعالج مواضيع المعادن والأخشاب والنسيج فيما عدا الرقيم الذي يحمل الرقم TM. 74 G. 120 فهو عبارة عن لوح مدرسي يضم أسماء كانت شائعة في إبلا(52) أما الرقم المكتشفة عام 1975(54) فقد اكتشفت في غرفتين، الأولى في السوية (L. 2712) واكشف بها 1000 رقيم محفوظة بشكل جيد ومعها بعض الكسر وهي جميعاً رقم اقتصادية وفي الغرفة الثانية (L. 2769) اكتشف حوالي 15 ألف رقيم تعالج مواضيع مختلفة. وفي عام 1976 اكتشف في باحة القصر الملكي حوالي 23 رقيماً كبيراً بعضها كامل والبعض الآخر مجزوء إلى جانب حوالي 160 رقيماً صغيراً أخرى اكتشفت في القصر الملكي أيضاً- هذه الرقم المكتشفة عام 1976 لم تنشر بعد وعليه سيقتصر الحديث عن الرقم المكتشفة وعام 1975 تصنيفاً أولياً على النحو التالي(55):
1-أكبر قسم منها ذو صبغة إدارية-اقتصادية، تضم مثلاً قوائم تخص تموين القصر وأسماء بعض الأشخاص والسفراء الذين يرسلهم الملوك إلى الدول الصديقة، تقدمات العابد، قوائم الجزى المدفوعة إلى إبلا، الموظفين وشؤونهم، وتضم كذلك رقماً تعالج المواضيع الزراعية مثل زراعة القمح والكروم وتربية الماشية، وصناعية مثل صناعة المعادن المختلفة والنسيج والأخشاب والحجارة الكريمة، وكذلك رقماً تتحدث عن التجارة الدولية في إبلا خاصة في حقلي النسيج والمعادن.
2-نصوص لغوية وتضم تمارين مدرسية مختلفة وقوائم علمية تتعلق بالحيوانات كالأسماك والطيور وقوائم يحتمل أن تكون أطالس جغرافية تضم أسماء المدن والأشخاص، هذه القوائم قريبة الصلة إلى التقاليد المعروفة في بلاد ما بين النهرين حيث تشبه القوائم التي وجدت في فارا "وأبو صلابيخ".
3-نصوص تاريخية ونصوص تشريعية:
وهي تضم الأوامر الملكية والمراسيم والكتب الرسمية الخاصة بالدولة، وقوائم أسماء المدن الخاضعة لإبلا، تعيينات رجال الدين، الزواج الملكي، المعاهدات الملكية، هذا إلى جانب نصوص تتعلق بتوثيق العقود التجارية وقسمة البضائع وبعض القوانين.
4-النصوص الأدبية: وتضم قصصاً وترانيم الأرباب ومجموعة أمثال والميثولوجيا مكتوبة باللغة الإبلية وهي تعالج مواضيع ترتبط بأرباب بلاد ما بين النهرين مثل أنكي Enki وأنليل Enlil إلى جانب أوتو Utu وأنانا Inanna.
5-فهارس لتعليم اللغة السومرية: وتضم نصوص قواعدية ويبلغ عددها تقريباً 32 رقيماً وهي الأول من نوعها في التاريخ. صورة رقم 4. والسؤال الذي يبرر هنا ما هي الفوائد التي يمكن أن نستنبطها من هذا الرقم؟ والجواب على هذا السؤال كالتالي:
أولاً: في مجال التاريخ السياسي لسوريا في الألف الثالثة قبل الميلاد- مكنتنا المعلومات التي أمكن معرفتها من الرقم التاريخية والاقتصادية
من تكوين صورة عن الحياة السياسية في الشرق الأدنى القديم أثناء النصف الثاني من الألف الثالثة قبل الميلاد وهذا يسد الفراغ في المعلومات التاريخية المتوفرة بين أيدينا حتى الآن، والتي تحدث عن سوريا وفلسطين بأنهما كانتا مأهولتان بقبائل بدوية في هذه الفترة ولكن الآن-والفضل يعود لرقم إبلا- عرفنا وجود دول كثيرة لها ملوكها ولها علاقاتها الدولية أهم هذه الدول كان ولا شك إبلا التي كانت تسيطر على بعض الدول المحيطة بها وكانت تقف في وجه التوسع الآكادي نحو الغرب لدرجة أنها فرضت في بعض الأحيان على آكاد أن تكون تابعة لها، أن التأثير الأبلوي وصل إلى سيناء جنوباً شاملاً فلسطين ولبنان وسوريا وإلى الغرب وصل إلى قبرص وفي الشمال امتد حتى كانيش Kanis وربما إلى خاتو Hattu بينما في الشرق لامس أعالي بلاد ما بين النهرين(56)، من الواضح أن هذه الحدود هي حدود التأثير التجاري لإبلا التي غالباً ما تطابقت مع الحدود السياسية ومما يلفت نظر طلاب الآثار السورية-الفلسطينية وكذلك طلاب العهد القديم وجود أسماء مدن في رقم إبلا تعود إلى الألف الثالث عرفت في الألفين الثاني والأول قبل الميلاد مثل: سالم، حازور، لاشيش، مجدو، غزة، دور، سيناء، اشتروت، جوبا.