فجر أول أيام الجنون العالمي 12/9/2001 يشهد اتهام ريتشارد بيرل المبكر للعراق
طلع فجر الأربعاء 12 أيلول (سبتمبر) 2001، مفتتحاً أول يوم يضرب فيه الجنون العالم. في الصباح الباكر، بعد سويعات من النوم، توجّهت نحو الباب الأمامي للسيارة المصفّحة «فورد إكسبدِشن» التي كانت تنتظر لتقلّني للاجتماع برئيس الولايات المتحدة.
كانت التدابير الأمنية خارج منزلي في ضواحي واشنطن في مريلند أكثر شدة من ذي قبل. وعندما وصلت إلى البيت الأبيض، شاهدت الانتشار الكثيف لرجال جهاز الأمن السري الذين تفصل واحدهم عن الآخر بضعة أقدام وهم يلوّحون بأسلحتهم. وكانت الطائرات المقاتلة التي تجوب الأجواء فوق العاصمة مرئية بوضوح. فقبل أقل من أربع وعشرين ساعة، تعرّضت أميركا لهجوم شنّه جيش أجنبي غير حكومي. قُتل آلاف في مدينة نيويورك، والبنتاغون، وفي حقل في بنسلفانيا. وكان لدينا في السي آي اي سبب وجيه للاعتقاد باحتمال وقوع مزيد من الهجمات في الساعات أو الأيام التالية، وأنّ 11/9 ليس سوى الرشقة الأولى من هجوم متشعّب على البرّ الأميركي.
هذه الأفكار كلها كانت تثقل ذهني عندما مشيت تحت المظلّة التي تؤدّي إلى الجناح الغربي، وشاهدت ريتشارد بيرل خارجاً من المبنى فيما أهمّ بدخوله. وبيرل هو أحد عرّابي حركة المحافظين الجدد، وكان ذات يوم رئيس مجلس السياسة الدفاعية، وهو مجموعة مستقلة تقدّم المشورة لوزير الدفاع. لم تكن العلاقة بيننا أكثر بكثير من معرفة عابرة. وعندما أغلقت الأبواب خلفه، نظر كل منّا إلى الآخر وهزّ رأسه. وعندما وصلت إلى الباب، التفت بيرل إليّ وقال: «يجب أن يدفع العراق ثمن ما حدث أمس. إنّهم يتحمّلون المسؤولية».
ذُهلت، لكنّني لم أقل شيئاً، فقبل ثماني عشرة ساعة، تفحّصت كشوف المسافرين على متن الطائرات المختطفة الأربع وأظهر ذلك بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ «القاعدة» تقف وراء الهجمات. وفي الأشهر والسنين التالية، تفحّصنا بعناية احتمال وجود دور تعاوني لدول راعية، ولم تعثر الاستخبارات لا في ذلك الوقت ولا الآن على أي دليل على تواطؤ عراقي.
التفتّ إلى بيرل عند حاجز جهاز الأمن السري وتساءلت: تُرى عمّ يتحدّث؟ وبعد لحظات، خطر في بالي سؤال ثانٍ: مع من كان ريتشارد بيرل مجتمعاً في البيت الأبيض في صباح هذا اليوم الباكر بالذات؟ ولم أتوصّل قط إلى جواب عن السؤال الثاني.
طغى موضوعا الإرهاب والعراق التوأمان، في السرّاء أو في الضراء، على سنواتي السبع كمدير لوكالة الاستخبارات المركزية. وعندما تركت منصبي في تموز (يوليو) 2004، بدا أنّ هذين الموضوعين حجبا كل عمل آخر أنجزته وكالة الاستخبارات المركزية، وكل القضايا الأخرى التي واجهتها في عملي. ومنذ ذلك الوقت وأنا أفكّر في ذلك اللقاء الوجيز مع ريتشارد بيرل بأنّه اللحظة التي تقاطع فيها هذان الموضوعان المسيطران في حياتي المهنية، على رغم أنّني لم أدرك ذلك في حينه.
* * *
نشأتُ في حي كوينز في مدينة نيويورك كابن لمهاجرَين من الطبقة العاملة، ولم أتصوّر يوماً أنّني سأجد نفسي في مثل هذا الموقع. كنت أطمح إلى العمل في الحكومة لكن لم أفكّر لحظة قط في الحياة في عالم الاستخبارات الخفي. مع ذلك وجدت نفسي، من خلال سلسلة من الانعطافات والالتواءات المهنية غير المتوقّعة، في متاهة المرايا.
الاستخبارات كمسار مهني تتكوّن من أجزاء متساوية من النشوة والإحباط، لأنّها تتعامل بحكم التعريف مع المبهم والمجهول والمخفي عن عمد. فما يحاول أعداء الولايات المتحدة أن يخفوه جاهدين، يعمل رجال ونساء الاستخبارات الأميركية على كشفه بصعوبة. وطوال حياتي العملية، حاولت باتباع الخصائص المميّزة للاستخبارات، البقاء بعيداً عن الأضواء - ألاّ أظهر أو أسمع كثيراً في العلن.
عندما تركت الحكومة، شعرت بالحاجة إلى التفكير قليلاً قبل أن أكتب أو أتحدّث. وبما أنّني استفدت من الوقت والمنظور، صرت أعتقد بأنّ من واجبي البوح ببعض الأشياء التي عرفتها في السنوات التي قضيتها على رأس الاستخبارات الأميركية. وشعرت بأنّني أدين لعائلتي وزملائي السابقين، والتاريخ، بقول ما يمكنني قوله عن الأحداث التي راقبتها.
* * *
تعتمد هذه المذكّرات على ذكرياتي عن فترة صاخبة في حياة أمتنا. ومثل هذه الأعمال لا يمكن أن تكون موضوعية تماماً، لكنّها نزيهة وغير ملمّعة بقدر ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. هناك أشياء كثيرة أفخر بها في عهدي كمدير للاستخبارات المركزية، وأشياء غير قليلة أتمنّى لو أنّني أستطيع أن أعيد عملها ثانية. وفي هذه الصفحات سأذكر أين أخطأت أنا، أو المنظمة التي أرأسها، ولن يجد القرّاء نقصاً في مثل هذه الاعترافات. وعندما أشير إلى مناسبات كان فيها أداؤنا قوياً، آمل أن تحظى هذه التأكيدات باهتمام منصف. لذا يعكس هذا الكتاب كيف بدت لي هذه الأشياء حرفياً في قلب العاصفة.
إنّ موقعك هو الذي يحدّد موقفك من القضايا. ومن موقعي شاهدت تزايد حجم موجة المدّ الإرهابي. كما شاهدت أيضاً مجموعة صغيرة من المحاربين المنفردين الذين لا يُمنحون التمويل الكافي يسبحون عكس التيّار - هناك بمفردهم يحذّرون من حركة عالمية تعمل في نحو سبعين بلداً وعازمة على تدميرنا ويردعونها ويفكّكونها ويحاولون تدميرها.
توضح هذه القصّة كيف رأينا التهديد، وماذا فعلنا حياله، وما الذي اقتُرح ولم ينفّذ، وكيف تطوّر تفكيرنا، ولماذا كان رجال وكالة الاستخبارات المركزية ونساؤها مستعدّين بخطة عمل للردّ بقوة على سقوط ثلاثة آلاف أميركي وأجنبي. وهي قصة توضح أيضاً كيف ساعدنا في نزع سلاح الدمار الشامل من دولة مارقة من دون أن نطلق طلقة واحدة وكيف قدّمنا أمام العدالة أخطر ناشر للأسلحة النووية عرفه العالم. وهي رواية للجهود المبذولة لجسر الخلافات التاريخية بين الإسرائيليين والفلسطينيين وإعطاء الديبلوماسيين فرصة للتوصّل إلى حل سياسي لأزمة قديمة. وهي أيضاً رواية تنبّه إلى التهديدات التي لم تجابه الى الآن والتي تبدو هجمات 11 أيلول باهتة أمامها.
حاول المسؤولون الكبار في الإدارتين اللتين خدمتهما، إدارتي كلينتون وبوش، عمل ما وجدوا أنّه الأفضل لأميركا. ويمكن المجادلة في النتائج التي توصّلوا إليها، بل يجب ذلك - لكن ليس في دوافعهم. وعندما يتعلّق الأمر بتعامل الحكومة الأميركية مع العراق، يوجد قلّة من الأبطال في واشنطن، ولكن، كثير منهم في ذلك البلد المضطرب. والإدارة نفسها التي ضلّت طريقها لاحقاً في أثناء التوجّه إلى بغداد كان أداؤها رائعاً عند تقويض القاعدة في أعقاب 11/9. لقد اضطلعت السي آي اي بمهمّة ضخمة بشجاعة عظيمة وتفانٍ لا يصدّق، لكنّنا لا نقرأ الكثير عن هؤلاء الأبطال.
أعتقد بأنّني حظيت بأفضل منصب في الحكومة، كمدير للاستخبارات المركزية، على رغم كل أعبائه وضغوطه. وكانت أعظم لحظات سعادتي التفاعل اليومي مع الرجال والنساء الذين تجرّأوا على المخاطرة بكل شيء يومياً لحماية بلدنا. لقد أتيحت لي فرصة خدمة بلدي ومحاولة المحافظة على سلامته في ما يحدق به من خطر عظيم. لم يحالفني النجاح دائماً، لكنّني أشعر بالراحة لأنّني حاولت أن أفعل الصواب في الميدان. وهذا امتياز لا يُعطى لابن مهاجرَين إلا في الولايات المتحدة. وسأظلّ شاكراً دائماً لأنّ جون وإفانجليا تنيت غادرا قريتهما في اليونان ليمنحاني هذه الفرصة.