آخر الأخبار

أكرم الحوراني يكتب عن ذكرياته في سجن المزة

أواخر عام 1965 : في سجن المزة

منذ اليوم الأول لاعتقالي وضعت منفردا في غرفة صغيرة من الطابق العلوي في سجن المزة، لها نافذة صغيرة مرتفعة تطل على دمشق وغوطتها، ولم أكن استطيع الوصول إليها إلا إذا اعتليت السرير الحديدي الصدئ الذي مد عليه فراش ومخدة من القش اليابس، مع بطانيتين متسختين مما يلتحف به أفراد الجيش السوري.

بعد انقضاء اليوم الأول زارني مدير السجن الملازم طاهر سلطان وعرفني بنفسه وقال لي انه لن ينسى المعونة التي أسديتها الى أسرته عندما طردهم نجيب البرازي من قريتهم بلين خلال فصل الشتاء، فساعدتهم على ايجاد مكان في قرية أخرى.

لقد سمح لنا بالتنفس نصف ساعة يوميا على سطح الطابق العلوي من السجن، فعرفت في اليوم الثاني من اعتقالنا أسماء رفاقنا المعتقلين، لأن هذه الفسحة جمعتني بالدكتور فيصل الركبي وبالاستاذ عبد الفتاح الزلط والمقدم مصطفى حمدون وبأخيه عدنان حمدون، أما الآخرون فقد عرفت أنهم وزعوا على غرف الطابق الأول من السجن، وقد لفت نظري عدم اعتقال عبد الغني قنوت، فقلت في نفسي ان استثناء عبد الغني وبعض القيادات الأخرى المسؤولة في حركتنا مثل فتحي علوش انما هو محاولة فاشلة تستهدف إثارة الشكوك وانعدام الثقة بيننا وبين رفاقنا الذين لم يعتقلوا.

كان بعض حراسنا من الجنود ومعظمهم من أرياف سورية- يحاولون التكلم معي خلسة وقال لي بعضهم، إننا نستغرب سجنكم، انتم الذين دافعتم عنا، فحفظتم لنا كرامتنا وأعراضنا، ورفعتم عن أعناقنا نير الاقطاع، بينما لم نر في تلك الأيام ولم نسمع باسم أحد هؤلاء الذين زجوا بكم في السجن، ولم أكن أستطيع إجابة هؤلاء القرويين البسطاء على أسئلتهم ، فلم يكن هنالك مجال ولا متسع من الوقت، وكان بعضهم من قرية (بارين) وهي قرية كبيرة يملكها آل الكيلاني، تابعة لقضاء مصياف، ترك فيها الصليبيون آثارهم، بعد جلائهم عن تلك المناطق التي احتلوها في عمق الساحل السوري.

لقد سمح لنا مدير السجن بشراء (بابور كاز) مع كمية من السكر والشاي والقهوة وعلب التبغ، كما سمح لنا بطلب ما نشاء من مكتبة السجن، ولكنها كانت مكتبة فقيرة بالكتب.

قلت في نفسي بعد هذه المعاملة : نستطيع أن نتحمل السجن مهما طال، وانها فرصة جيدة للقراءة، وقد فكرت بأن نطلب من مدير السجن بأن يسمح لنا بجلب ما نطلبه من كتب من خارج السجن، وخلال الأيام الأولى من سجننا وزع علينا مدير السجن عددا من جريدة البعث فيه مقال لصلاح البيطار يهاجم حكم العسكر جاء فيه :

"إن الحركة الثورية ليست التنظيم الآلي ولا العسكري الذي يحرك الأعضاء بالأمر والنهي والإرهاب، بل هي التنظيم الحي القائم على الشرح والتوضيح والاقناع والتوعية".

"يقول الثوري بالكلام :

بقدر ما أغضب وأحقد واعذب وأقتل أكون ثوريا، فيصل به ذلك الى ارتكاب واحتراف أشد انواع الايذاء والتعذيب والقتل".

"انهم يستخدمون الثورية الكلامية والغوغائية ليقفزوا الى صفوف القيادات طلبا للسلطة".

فكان هذا المقال، حسب رأيي ورأي الرفاق، دليلا على استفحال الخلاف بين القيادة القومية وأمين الحافظ وجماعته مع صلاح جديد وجماعته، وقلت يومذاك :

ان الاستاذ صلاح استغل معارضتنا لحكم عسكر البعث فشجعه ذلك على كتابة هذا المقال الذي اعتبره وسيلة للضغط على العسكريين ليعود ثانية الى الحكم الذي أقصي عنه.

الآن، وبعد اكثر من خمسة وعشرين عاما على كتابة هذا المقال، أتساءل:

أكان ذلك بداية ليقظة الضمير والحساب مع النفس؟

أرجح ذلك ، فلقد أتم الاستاذ صلاح هذا المقال يوم استشهاده في عام 1980، منفيا في باريس، بمقاله الأخير في مجلة الاحياء العربي التي اصدرها في فرنسا، وكان المقال تحت عنوان : عفوك شعب سورية العظيم.

لقد شاركت محزونا في حفل الأربعين الذي أقيم للاستاذ صلاح في بغداد بعد اغتياله، ولكنني اعتذرت فيما بعد عن إرسال برقية تعزية أو حضور الحفل الأربعيني الذي أقيم لمشيل عفلق في بغداد عام 1989، رغم رجاء جبران مجدلاني وطلال شراره وزوجته، موفدين من حزب البعث في العراق، أن أرسل برقية تعزية بمناسبة حفل الأربعين ، وقلت لهم يومذاك :

إن صلاح البيطار قد غسل بدمه جميع أخطائه، أما ميشيل عفلق فقد استمر في سلوكه الانتهازي حتى آخر أيامه.

مضت الأيام العشرة الأولى من سجننا وأنا مرتاح ومستعد للتحمل مهما طال هذا السجن. كنت أشعر، وأنا أقرأ في تلك الغرفة الصغيرة العارية إلا من السرير الحديدي ، وكأنني عدت طالبا في مدرسة دار العلم والتربية في حماه، ولكن هذه الأيام انقضت بسرعة، فقد أبلغنا طاهر سلطان بأسف، ان الاوامر صدرت لوضعنا في زنزانات السجن ، وإن حمد عبيد قد احتج في مجلس الوزراء، على معاملتنا التي اعتبرها معاملة كريمة لا معاملة مسجونين وانه يجب التضييق علينا وحرماننا حتى من النزهة الصباحية.

كانت زنزانات الطابق العلوي التي وضعت في إحداها أحسن حالا بكثير من زنزانات الطابق السفلي التي كانت أشد بردا ورطوبة، ومن مزايا زنزانات الطابق العلوي انها تتيح السماح لنزلائها بالذهاب الى المرحاض برفقة أحد الحراس، وكانت الزنزانة التي وضعت فيها رطبة بارده ولا تتعدى مساحتها مساحة سرير حديدي صغير، ولكنني لم أقض بها سوى يوما واحدا، حيث أمر الفريق أمين الحافظ - مشكورا - بإخراجي ومصطفى حمدون وإرجاعنا الى غرفنا المنفردة ، كما أمر بوضع أسرة حديدية صغيرة في كل زنزانة للمعتقلين الآخرين، وقد زارنا الضابط في الشرطة العسكرية آنذاك عارف كيالي موفدا من قبل الحافظ مبديا لنا مشاعره الطيبة ومشاعر الفريق الحافظ، الذي قام بعد ذلك بزيارتنا في السجن فتعانقنا وشكرت له موقفه وحميته تجاهنا.

لقد ظل أمر حرماننا الفسحة الصباحية ساري المفعول طيلة مدة سجننا، تلك الفسحة التي كنت التقي بها مع الرفاق فتزيل من نفسي ما كنت أشعر به من كآبة ووحشة ، وهكذا لم نعد نشعر باتصالنا بالعالم الخارجي إلا عندما كان السجان يفتح الباب الحديدي ليأتينا بطعام السجن.

كان يؤنسني كل صباح ومساء أن أعتلي السرير لأطل من النافذة الصغيرة على دمشق وعلى منزلي في المنطقة المقابلة للسجن ، وكنت استمتع بمنظر دمشق وغوطتها عندما يتنفس الصبح ويلفهما بملاءة من الضباب الرقيق الشفاف.

كانت تسليتنا الوحيدة هي التعليق على ما نقرأه من كتب، ثم كتابة هذا التعليق على ورقة كنا نتبادلها بوضعها وراء شلال المرحاض المشترك. وقد طلبت ذات مرة كتاب الايديولوجية الانقلابية لنديم البيطار، واستمعت بقراءة ما كتب عن المذاهب الفلسفية، ولكنني خرجت لدى انتهاء القراءة بانطباع جعلني أسيء الظن بالمؤلف لأنه كان ينظر للحكم العسكري ولكل ما يرتكبه العسكر من جرائم باسم الثورة والثورية.

ذات يوم، وزع علينا مدير السجن، وبصورة مفاجئة عددا من جريدة الثورة كتب افتتاحيته مصلح السالم، وفيها حملة على انتهاج حزب البعث ما أسماه بسياسة الباب المفتوح، أي السماح لكل من أراد بالانتساب للحزب، وكان ذلك تعريضا بالقيادة القومية التي حاولت بعد انقلاب الثامن من آذار إغراق الحزب بالمدنيين للوقوف في وجه العسكر، وكان أشد ما فاجأني في هذا المقال اتهامي والاشتراكيين العرب بمقتل الشهيد العقيد عدنان المالكي لتبرئة الحزب السوري القومي من هذه الجريمة، ولكنني لم أستأ من هذا الاتهام الذي لا يمكن لأحد أن يصدقه بالوقت الذي يسيء فيه إلى صلاح جديد لأنه يذكر الناس بجريمة أخيه فؤاد جديد.

بعد توزيع هذا المقال، زارني طاهر سلطان ليستطلع رأيي، وأغلب الظن أنه كان مكلفا بذلك من قبل صلاح جديد، فقلت له ان هذا المقال يزيد من عطف الناس علي كما ينكرهم بجريمة اغتيال العقيد المالكي، فبلغ اللواء جديد، وقل له :

كنت أظن أنه أذكى من أن يسمح لإمعة مثل مصلح السالم أن يكتب مثل هذا الافتراء العجيب، الذي يسيء إليه ويذكر الناس بجريمة أخيه.

ان مصلح السالم الذي أصبح منظرا لصلاح جديد والقيادة القطرية، هو طالب الحقوق الذي قضى في هذه الكلية مدة اثني عشر عاما أي ثلاثة أضعاف المدة المطلوبة، وقد أحرجت عندما طلب مني أحد رفاقه أن أوصي به استاذ الحقوق رزق الله انطاكي نائب حلب واستاذ المالية في كلية الحقوق، وهكذا تم تخرج مصلح السالم.

لقد كان مصلح السالم يقضي وقته، عندما كان طالبا، في مقهى الهافانا بالثرثرة واستطلاع الحظوظ بواسطة ورق اللعب، وكان يعتبر نفسه منظرا للبعث يقلد ميشيل عفلق في طريقة كلامه ومشيته وحمل السبحة، وقد كتب هذا المقال اثر الضجة التي أثيرت عندما أصدر حزب البعث عفوا عاما عن المتهمين باغتيال عدنان المالكي وكان من بينهم فؤاد جديد أخو صلاح جديد والأمينة الأولى للحزب السوري القومي (زوجة سعاده).

بعد الافراج عن قتلة عدنان المالكي الذي أدى الى كثير من الاستياء في الاوساط الشعبية، ولا سيما في دمشق، وبعد حماقة اتهامنا بمقتل المالكي، لم يعد أحد يصدق أن صلاح جديد هو بعثي ، وانما أصبحوا يعتقدون أنه سوري قومي تلطى وراء حزب البعث ليصل إلى السلطة، وقد حاول صلاح جديد أن ينفي عن نفسه ازواجية الانتماء، وذلك في حديثه مع الصحافي اللبناني محمد باقر شري الذي نشرته جريدة الكفاح البيروتية بتاريخ 13/4/1966 ، مع ملاحظة ان الصحافي حاول أن يغطي أن المتحدث معه صلاح جديد "لأن العسكريين قطعوا على أنفسهم عهدا بعدم الكلام إلا بتفويض من الحزب".

وجه الصحافي محمد باقر شري هذا السؤال :

تعددت التهم التي توجه إليكم حول طبيعة تفكيركم، وتراوحت التهم التي توجه إليكم كقياديين بين اليمين واليسار، حتى بلغ الشطط بالبعض أن ألصق ببعضكم تهمة اعتناق اتجاه حزبي غير اتجاه الحزب الذي تشغلون فيه هذه المناصب القيادية، ما هو رأيكم بهذه التهمة؟

"قال: ما رأيك في رجل توجه اليه هذه التهمة قطع صلته بأهله ما بين عامي 1951 و 1963 بسبب اختلافه مع شقيقه في الرأي السياسي . وهو لم يحاول طيلة كل هذه الفترة ان يخفف عن أي منهم مما لحق بهم بسبب الحركة التي كان ينتمي اليها شقيقه. بل اريد، أن اعطيك سرا سوف تدهش له: لقد تطوع في عام 1952 وقبل ذهاب الشيشكلي ويعرف ذلك القادة الحزبيون، لازالة شقيقه من الطريق، عندما كان الحزب يدرس موضوع التخلص من حكم اديب الشيشكلي، وعندما كان يبدو للحزب ان شقيقه - قائد موقع حمص - في ذلك الوقت، دعامة اساسية لحكم اديب الشيشكلي يجب التخلص منها:

ولكن الحزب لم يقره على الفكرة، لانه يرفض اسلوب التصفيات الجسدية".

"اتعرف ماذا قال عندما بلغه نبأ مقتل شقيقه في بيروت؟ لقد قال دون أن يسفح دمعا أو يلطم خدا: على كل حال .. لم أكن انتظر له غير هذه النهاية".

والذي استطيع قوله تعليقا على هذه الواقعة التي ذكرها صلاح جديد، هو أن أحد الملازمين من ابناء حماه (الملازم زكار) الذين كانوا يسكنون معه في منزل واحد أبلغني ان الملازم صلاح جديد قد أظهر استعداده لاغتيال الشيشكلي ، ولكنني لا أذكر بالضبط فيما إذا كان قد أظهر استعداده لاغتيال شقيقه.

في أحد الايام دخل الى غرفتي حارس السجن ومعه شخص قدم نفسه بأنه الملازم طحطوح .. قلت له تفضل ماذا تريد؟ قال :

أريد منك أن تكتب لي تاريخ حياتك، قلت له :

ان تاريخ حياتي مدون في ضبوط المجالس النيابية وفي الصحف السورية والعربية، وقد عايشه أعضاء حزب البعث جميعا. قال :

لا ، أرجو منك أن تضع أنت بنفسك تاريخ حياتك، قلت له :

أأنت محقق، أم طالب تأليف كتاب عن تاريخ حياتي؟ ثم طلبت منه الانصراف، ولكن طحطوح أصر على ذلك بغلاظة جعلتني أفقد أعصابي فتناولت بابور الكاز الذي كان إلى جانبي ورفعته لأضربه به وأنا أقول له:

هذا تاريخ حياتي، ولكن حارس الغرفة حجز بيننا، فذهب طحطوح ولم يعد مرة أخرى، وقد أخبرني عبد الفتاح الزلط بواسطة جريدة (الشلال) أن طحطوح قد زاره وطلب منه أيضا أن يكتب له تاريخ حياته، ولكنه لم يعد.

فيما بعد، علمت ان السلطة شكلت لجنة من بعض الضباط، منهم على ما أذكر الضابط خالد رسلان، للبحث والتفتيش عن أخطائي الماضية، وقيل لي أن اللجنة خرجت بنتيجة تحقيقها ان كل ما اطلعوا عليه من معلومات هو في صالحي وان الاستاذين صلاح وميشيل هما أولى بالمحاكمة.

وكان أخطر ما صادفني خلال سجني هو الحديث الذي جرى بيني وبين طاهر سلطان عن قضية كوهين:

كنت خلال إحدى الزيارات اتحدث عن مساوئ الحكم فقال لي أنه يعلم هو ورفاقه من المساوئ اكثر مما نعلم، واستشهد بقضية كوهين الذي وضع في احدى زنزانات سجن المزة، وقال لي:

انه خلافا لوقائع المحكمة العلنية فإن كوهين قد أدلى باعترافات خطيرة للمحققين تدين بعض القيادات الحاكمة، وأظهر يأسه من إجراء أي اصلاح في البلاد ما لم يتم الكشف عن جميع ملابسات هذه القضية الخطيرة.. قلت له:

كيف يمكن ذلك بعد إعدامه؟ قال :

يمكن للسلطة أن تعيد النظر بالقضية بالاستناد الى الوقائع التي أدلى بها أمام المحققين.

في أواخر شهر تشرين الثاني، بدأت أشعر بآلام شديدة في أحشائي ولم أعد استطيع هضم ما يقدم لي من طعام، فطلبت معاينة حالتي الصحية من قبل طبيب السجن الذي زارني فنبهته الى خشيتي من أن أكون مصابا بمرض السرطان الذي أصيبت به سابقا، أختي وأخي وابن أخي، فأمر الطبيب بنقلي الى المستشفى العسكري لفحصي بواسطة الأشعة، حيث تلقاني أطباؤها بمشاعر العطف والاحتفاء والمودة، وبعد قراءتهم الصور الشعاعية ظهرت على وجوههم علائم القلق وقرروا إجراء تنظير للمعدة.

بدأ خبر مرضي يتسرب الى خارج السجن، فقد علمت فيما بعد، أن وفدا كبيرا من مختلف المدن السورية شكل ما يشبه المظاهرة بعد أن انضم إليه الكثيرون من أبناء دمشق، وقد قابل هذا الوفد أمين الحافظ الذي تلقاه بمودة، ولكن منيف الرزاز قابل الوفد بكآبة وبعد أن استمع الى احتجاجه قال:

إن من يدعي أنه مناضل عليه أن يتحمل السجن.

ومن الجدير بالملاحظة ان مختلف الصحف اللبنانية، وحتى الموجهة من قبل السلطة في سورية قد استنكرت اعتقالي وطالبت بالافراج عني بعد أن تسرب خبر مرضي (الكفاح، النهار، الحياة).

وهكذا فإن السلطة، تحت ضغط الرأي العام، اضطرت الى تشكيل لجنة من ستة أطباء بينهم ثلاثة من أساتذة الطب في الجامعة السورية وكان أحدهم الدكتور(1) يوسف صايغ وهو طبيب لم أسمع باسمه من قبل، وقد لفت نظري إصراره على عدم إجراء أي فحوصات أخرى ومعنى ذلك عدم الافراج عني، ولكن أعضاء اللجنة الآخرين قرروا إحالتي الى مؤسسة خاصة للتصوير الشعاعي حيث قرر صاحبها بعد فحص الصور انني مصاب بقرحة في الاثني عشر وانه من الضروري إجراء عملية لي.

بعد تقرير لجنة الاطباء، وبعد الفحص الشعاعي الذي أجرته المؤسسة الخاصة، اضطرت الحكومة تحت ضغط الرأي العام الى الافراج عني. وبتاريخ 6/ كانون أول دخل غرفتي مدير السجن طاهر سلطان ودعاني لتناول فنجان قهوة في غرفته حيث فوجئت بوجود عبد الكريم الجندي ومحمد عيد عشاوي وزير الداخلية الذي عين نائبا للحاكم العرفي فبادراني بتبليغي قرار السلطة بأنني أصبحت حرا ويمكنني الذهاب حالا الى منزلي، ولكنني رفضت بشكل حاسم الخروج من السجن ما دام رفاقي معتقلين. فقالا لي سنخرجك بالقوة، ولكنني بقيت مصرا على موقفي مما أخر خروجي من السجن يومين إذ غادرته بتاريخ 8/12 بعد أن بلغت بأن الافراج سيتم قريبا عن السجناء الآخرين من الاشتراكيين العرب.

خلال هذين اليومين سمح لزوجتي بزيارتي للمرة الأولى، وكانت قد حاولت ذلك سابقا ولكن طلبها كان يرفض دائما من قبل الشرطة العسكرية، أما في هذه المرة فقد اتصلت رأسا بالقصر الجمهوري، حيث طلب منها الضابط مصطفى العيسى مدير غرفة الفريق أمين الحافظ أن تأتي حالا الى القصر "لأن الجماعة يريدون رؤيتها" لقد ظنت زوجتي يومذاك أن "الجماعة" هي نقابة المحامين التي كان مقررا يومذاك أن تزور القصر الجمهوري مع نقيبها الاستاذ رياض المالكي من قادة الاشتراكيين العرب والذي انتخب نقيبا للمحامين رغم مقاومة انقلابيي الثامن من آذار، وكان هدف الزيارة الاحتجاج على حجزي رغم مرضي ومطالبة السلطة بزيارة السجناء.

عندما دخلت زوجتي الى القصر الجمهوري استقبلها الضابط مصطفى العيسى وطلب منها أن تصعد الى الطابق العلوي حيث ينتظرها الفريق أمين الحافظ رئيس مجلس الرئاسة وأعضاء هذا المجلس، ولكنها رفضت ذلك قائلة للضابط مصطفى العيسى :

كنت أظن ان الجماعة التي تعنيها هي نقابة المحامين، وهكذا اضطر نور الدين الأتاسي وحسان مريود عضوا مجلس الرئاسة ومحمد عيد عشاوي وزير الداخلية ونائب الحاكم العرفي للنزول الى الطابق الأول لمقابلتها حيث أخبرها العشاوي أنه سيذهب الآن الى سجن المزة للافراج عني، وحيث حاول نور الدين الأتاسي طمأنتها بقوله أن مرضي قديم وانني عولجت منه سابقا ولكنها نفت ذلك.

ومن جهة أخرى فإن الضابط مصطفى العيسى قد أوصاها قبل نزولهم، وذلك عن لسان الفريق الحافظ ألا "تقصر" فيهم لوما وانتقادا وتقريعا".

كانت نتيجة هذه الزيارة أن سمح لزوجتي بزيارة السجن، وهي زيارة لا أحب كثيرا أن أتذكر تفاصيلها:

كنت لم أر أختي أم غالب زوجة محيي الدين الشيشكلي، منذ أكثر من عشرين عاما، منذ أن قتل ابنها غالب أخي واصل، وهو موضوع تحدثت عنه مفصلا في هذه المذكرات، ولكن أختي هرعت الى زيارة زوجتي وأولادي عندما سمعت خبر مرضي في السجن.

لقد ظنت زوجتي أنها ستدخل شيئا من السلوى الى قلبي عندما حدثتني عن زيارة أختي، ولكنها لم تكن تنتظر أن تسمع بكائي وان ترى دموعي وقد أغرقت وجهي أمام مدير السجن.

بتاريخ 8/12/65 أفرج عني وقد نشرت السلطة بيانا رسميا يعلن الافراج عني بسبب حالتي الصحية، كما سمحت السلطة بعد مغادرتي السجن بخروج رفاقي من السجن الانفرادي وجعلتهم جميعا في مهجع مشترك، ولكن ما كان يقلقني هو حالة الاستاذ خليل الكلاس السيئة جدا، فقد تجاوز ضغطه العشرين عندما كنت في المعتقل.

لا شك أن اطلاق سراحي كان باعثا لارتياحي، فقد بدأت أشعر في الأيام الأخيرة لمرضي أن هذا السجن الانفرادي هو بمثابة الموت البطئ، وقد هرع الى منزلي فور وصولي عدد كبير من معارفي واصدقائي وممن ليس لي بهم معرفة، وبينهم عدد من العسكريين، كما أن صلاح جديد أرسل إلي أحد مرافقيه وهو الضابط الفلسطيني مجاهد سمعان لتهنئتي باسمه على خروجي من السجن، وقد سألني مجاهد سمعان عما يمكن أن أبلغه لصلاح جديد، إذ كان الجو في سورية ينبئ باصطدام مسلح بينه وبين أمين الحافظ، فقلت لسمعان :

انني أوصيه بإخلاص أن يعمل على عدم الاصطدام المسلح بين العسكريين بما أوتي من قوة، لأن ذلك، عدا أنه يحطم الجيش السوري، فإنه يقضي على الوحدة الوطنية ، ويمكن للواء صلاح جديد والفريق أمين الحافظ أن يحلا خلافهما بالحوار والاقناع بدلا من الاحتكام للسلاح.

لقد كان الرأي العام في سورية ، في أوساط الشعب والجيش، يغلي وينبئ بالانفجار، بالوقت الذي كان فيه عبدالغني قنوت ينصحني بمغادرة سورية والتداوي خارجا، كما كان يشاطره هذا الرأي بعض رفاقنا.

لقد رفضت في البداية مغادرة سورية، ولكنني تبينت أن السلطة هي التي كانت تلح على سفري، ولم يكن هذا الالحاح من جماعة صلاح جديد، وانما من قبل جماعة الفريق أمين الحافظ، ولا شك أن ذلك كان بنية طيبة من قبل الفريق الذي أراد أن أكون بعيدا عن سورية في ذلك الجو الملتهب الذي يمكن أن يعرض حياتي للخطر نظرا لما كان يعرفه من نوايا بعض العسكريين ولذلك أرسل لي من عرض علي مبلغا من المال قبل سفري ولكنني رفضت ذلك، ثم جرت محاولة أخرى مع زوجتي من قبل مدير مكتبه الضابط مصطفى العيسى في بيت مصطفى حمدون حيث تمت المقابلة، وعندما طلب منها تقدير المبلغ الذي يمكن أن نحتاجه، أجابته عاتبة ورافضته :

شيك مفتوح، إشارة للاتهامات التي وزعها البعثيون يمينا ويسارا بعد انقلاب الثامن من آذار ومنها انني تلقيت من عبد الكريم قاسم شيكا مفتوحا لأضع فيه الرقم الذي أريد.

بعد ذلك جاءني عبد الغني قنوت بمبلغ ثمانية آلاف ليرة سورية قال لي انها قد جمعت للتداوي من قبل الاشتراكيين العرب واصدقائهم، فكان هذا المبلغ كل ما أملك عندما غادرت سورية.

بعد خروجي من السجن تحسن وضعي الصحي. ولكن هاجس مرض السرطان كان ما زال يؤرقني، فبعد رفضي مغادرة دمشق، وقولي للموفدين من قبل السلطة انني لا أقبل السفر من دمشق إلا مبعدا، قررت السفر للتداوي في الاتحاد السوفياتي، ولكن الذي فوجئت به كان رفض سفارة الاتحاد السوفيتي اعطائي تأشيرة دخول فكان هذا الرفض مستنكرا وغير مفسر في الأوساط الشعبية وحتى في أوساط الحزب الشيوعي، لذلك قررت التداوي في فرنسا التي رحبت بزيارتي.

______________________

(1) ورد اسم يوسف صايغ في كتاب باتريك سيل الذي ألفه بطلب من حافظ أسد كما يلي :

" لقد أخذ حافظ أسد أواخر صيف 1965 إجازة من مهماته كآمر للقوى الجوية وسافر الى لندن لمدة ثلاثة أشهر، واصطحب معه أحد كبار ضباط سلاح الجو ناجي جميل وآمر الشرطة العسكرية حسين ملحم والطبيب يوسف صايغ، وأقام الرجال الأربعة في شقة في منطقة كنزغتون، والذي عرف حتى الآن ان اتصال الأسد الوحيد بالرسميين البريطانيين كان زيارته لوزير الدولة للشؤون الخارجية اللورد طومسون في مكتبه بالوزارة .. والسبب الظاهري لرحلة الأسد الى بريطانيا كان لتلقي علاج لألم في ظهره وفي رقبته نتج عن هبوط اضطراري عندما كان طيارا متدربا، إلا ان أوجاع الاسد وآلامه ربما كانت من نوع المرض الدبلوماسي" (ص 167 من كتاب الاسد، دار الساقي لندن).

كان الدكتور يوسف صايغ طبيب السفارة الأميركية في دمشق، وقد اغتيل أواخر السبعينات.