بين اختتام قمة واي في تشرين الأول (أكتوبر) 1998 ونهاية أيلول (سبتمبر) 2000، لم تقع هجمات إرهابية داخل الخط الأخضر - وتلك استراحة للعنف تبدو مستحيلة التصوّر تقريباً اليوم.
وفي 28 أيلول 2000، قام آرييل شارون، زعيم حزب الليكود المعارض بزيارة لجبل الهيكل في القدس القديمة، وهو المكان الذي يضمّ بقايا الهياكل اليهودية القديمة، إضافة إلى قبة الصخرة والمسجد الأقصى، وربما أكثر قطعة أرض مثيرة للخلاف عرفها الإنسان.
كانت غاية شارون المعلنة النظر في شكاوى الجيولوجيين الإسرائيليين الذين كان المسلمون يتلفون موقعهم، لكنّه وصل محاطاً بألف جندي وشرطي إسرائيلي، بعد يوم واحد على مقتل رقيب في الجيش الإسرائيلي في هجوم إرهابي. وفي اليوم التالي للزيارة، بدأت الانتفاضة الثانية، ودبّت الفوضى في عملية السلام. وفي السنوات الخمس التالية، قُتل قرابة 950 إسرائيلياً، أكثر من نصفهم داخل إسرائيل وكثير منهم في تفجيرات انتحارية فظيعة. وفي نهاية سنة 2005، بلغت حصيلة القتلى الفلسطينيين نحو 3200.
لم تنهر عملية السلام في الشرق الأوسط من قلّة المحاولة. فقد شاركتُ في ثلاث اندفاعات أخرى للسلام في الشرق الأوسط في عهد كلينتون: ملحمة كامب ديفيد بدأت في 11 تموز (يوليو) واستمرّت مندون توقّف مدّة أسبوعين؛ واجتماع المتابعة في باريس الذي بدأ في 4 تشرين الأول 2000، بعد أقلّ من أسبوع على تصدّع السلام ثانية بفعل اندلاع الانتفاضة الثانية؛ وقمة 16 ـ 17 تشرين الأول في شرم الشيخ، التي شارك في رئاستها كلينتون والرئيس المصري حسني مبارك (...).
في الـ «سي آي إي»، اضطلعنا بدور لم يكن الكثير منّا في الوكالة وغالبية أعضاء الكونغرس وغيرهم مرتاحين إليه. فعلى المستوى الشخصي، بذلنا الكثير من الطاقة في التحدّي. فالجلوس في غرفة مع الفلسطينيين والإسرائيليين لا يشبه الجلوس في غرفة مع رؤساء أقسام الشركات أو حتى محامي الطلاق. بادئ ذي بدء، كنت أعرف في شكل مطلق أنّنا سنستمع في الساعات الثلاث أو الأربع الأولى إلى ما استمعنا إليه في اجتماعات سابقة بالضبط - سرد طويل للشكاوى. ذلك هو المعطى، ولا خيار لنا سوى القبول، مع العلم أنّه يمكن أن يكون في أي وقت 40 في المئة مما نسمعه غير صحيح. وكان من المسلّم به أيضاً أن ينشب في منتصف الجلسة نقاش عائلي ساخن جداً بحيث نخشى أن يصل الطرفان إلى اللكمات. هكذا كانت الأمور تجري. كان الفلسطينيون والإسرائيليون يتصايحون ويتصارخون. ولا يمكن أن يحدث شيء على الإطلاق في هذه المفاوضات.
كنت في قائمة الانتظار في قمة كامب ديفيد في تموز 2000. لم تشغل القضايا الأمنية الأهمية القصوى في المباحثات في البداية. فقد انتقلت المحادثات إلى قضايا أخرى وشملت فاعلين آخرين، في الجانب الإسرائيلي على الأقل، حيث ذهب نتانياهو وحلّ محلّه باراك. غير أنّ عرفات كان لا يزال يرأس الجانب الفلسطيني ومن الصعب زحزحته، إذا لم تكن مستحيلة، كالعادة. وليس للمسؤولين الرئيسين المشاركين أي تأثير تقريباً حين يكون معنياً. كانت علاقة مادلين أولبرايت بعرفات تتراوح بين المحبّة والكراهية، وفي ذلك الوقت كان جانب «الكراهية» طاغياً على جانب «المحبّة». وكان يمكن الرئيس كلينتون أن يزحزحه، لكنّ عرفات استعصى.
في الظاهر، كان من المدهش مقدار التضحية التي أبدى الإسرائيليون استعدادهم لتقديمها باسم التوصّل إلى نوع من الاتفاق الدائم، ومن الصعب فهم سبب رفض عرفات. مع ذلك فإنّ تقويم الـ «سي آي إي» السابق للقمة أظهر أنّ باراك قادم إلى كامب ديفيد لإبرام اتفاقية إطار للحل الدائم، لكن لم يكن لدى عرفات مثل هذه النية. فقد كان عرفات يعتقد أنّه حصل على التزام مؤكّد من باراك بتسليم ثلاث قرى عربية قرب القدس. وعندما اتضح لعرفات في أواسط أيار (مايو) أنّه لن يحصل على القرى عما قريب، استنتج أنّه لا يستطيع الثقة بباراك في شأن تنفيذ وعوده. فحجّة باراك أنّ وضعه الدقيق في الداخل يقتضي منه المحافظة على رأسماله السياسي لمحادثات الوضع النهائي بدلاً من تبديده على سلسلة من الخطوات المرحلية لم تبدُ منطقية بالنسبة إلى عرفات. وهكذا جاء عرفات إلى القمة لأنّه لا يريد إهانة الرئيس كلينتون. لكن من دون إرجاع القرى وإبداء المرونة الإسرائيلية فإنّه سيتريّث حتى انتهاء المسعى الحالي.
بعد عشرة أيام من المحادثات تغيّرت حالة الانتظار التي كنت أتخذها. فقد اتصلت بي مادلين أولبرايت القلقة وطلبت أن أحضر إلى كامب ديفيد بعد ظهر 22 تموز لإقناع عرفات بالتفاوض على أساس خطة باراك. اجتمعت أنا وغيوف أوكونِل، خليفة ستان موسكوفِتز، مع مادلين أولبرايت القانطة وفريق السلام في حجرة وزيرة الخارجية. فأبلغتنا بأنّ المفاوضات انهارت إلى حدّ ما بعد تلك الصورة الشهيرة لباراك وعرفات وهما يحضّان أحدهما الآخر على الدخول أولاً إلى مقرّ الرئيس. والواقع أنّ باراك وعرفات لم يجتمعا معاً منذ ذلك الحين (...).
في تشرين الأول 2000 اجتمع الأطراف ثانية في باريس. في ذلك الوقت، كان مضى على الانتفاضة أسبوع، كنّا نحاول التوصّل إلى شيء مثير لإيقاف العنف. فاجأتني مادلين بالتوجّه نحوي في وقت مبكّر من الاجتماع والقول، «تولّ الأمر». قبلت على مضض. وراجعت في ذهني نقاط الحديث التي لدي، وخلال وقت قصير توصّلنا إلى عشر خطوات يجب اتخاذها - عشر خطوات وافق الطرفان عليها، وذلك اختراق كبير. وفيما عمد دنيس روس إلى إيجاز الخطوات العشر ووضعها على الورق، غادر عرفات لزيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك، وبدأ كل شيء ينحرف عن مساره ثانية.
بحث الرئيس الفلسطيني مع شيراك أكثر النقاط العشر إثارة للخلاف - التحقيق في أسباب الانتفاضة. في اجتماعنا وافق الطرفان على لجنة تحكيم برئاسة أميركية، يشارك فيها الأوروبيون، لكنّ عرفات ضغط على شيراك من أجل محكمة دولية، محاكمة استعراضية مع هيئة محلّفين جذّابة لن ترضى بها إسرائيل قط. وأيّد شيراك عرفات، وعدنا إلى المراوحة ثانية (...).
* * *
ترأس عمر سليمان جهاز الاستخبارات المصرية منذ سنوات. وهو كلواء ورئيس للاستخبارات، طويل القامة ذو مظهر ملكي، وشخص قوي جداً، ويتحدّث بتمهّل شديد. كما أنّه شديد وجذّاب. وهو صريح تماماً في عالم مملوء بالظلال. كما أنّ عمر عمل بعيداً من الأضواء في محاولة لإحلال السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وينطبق ذلك أيضاً حتى عندما كانت الولايات المتحدة لا تزال منخرطة في العملية. وعندما لم يكن أحد يحاول الاجتماع بحماس، ولا يتحدّث أحد إلى الفلسطينيين. وعندما لم يكن أحد يتحدّث إلى الإسرائيليين، وعندما لم يكن هناك من يتقدّم بأفكار مبتكرة لمحاولة جعل الأطراف تتحدّث بعضها إلى بعض، كان عمر على الأرض يعرّض نفسه للمخاطر.
لم أكن أعرف حسني مبارك جيّداً، لكنّه أحد أكثر الشركاء موثوقية في محاربة الإرهاب ومحاولة تحقيق السلام في الشرق الأوسط. لم تكن علاقتنا علاقة الندّ للندّ. إنّه شخصية تاريخية مهمة. فهو يرأس مصر منذ سنة 1981، في أعقاب اغتيال السادات. وكان هو نفسه قاب قوسين أو أدنى من التعرّض للاغتيال سنة 1995، عندما كان في أثيوبيا، وبعد أربع سنوات نجا من الموت أيضاً عندما هاجمه أحدهم بسكين. إنّه يمتلك حكمة كبيرة، وثمة جانب مرح فيه على رغم أنّه رجل جدّي. وكانت قمة تشرين الأول في شرم الشيخ مثالاً على ذلك. فقد أمضيت أنا وعمر سليمان النهار بأكمله محبوسَين في غرفة مع الفلسطينيين والإسرائيليين للتوصل إلى صفقة أمنية. وعندما فرغنا، ذهبت لأطلع ياسر عرفات على التفاصيل، في حين جلس مبارك على كرسي في ركن الغرفة. كان لدى عرفات في مثل هذه الظروف طريقة في النظر إليّ كأنّني أتحدّث لغة أجنبية غير مفهومة. وذلك أمر معهود عنه، كان يشتري الوقت للتفكير في الأمور. لكن في هذه المناسبة لم يكن الأمر كما هو مألوف. فقد رأيت بزاوية عيني حسني مبارك، الرئيس المصري، ومستضيف المؤتمر، وأقرب ما يكون الضامن لفلسطين، ينظر إلي وإلى عرفات وهو يحرّك إصبعه قرب رأسه، وتلك هي الإشارة الشائعة التي تعني أنّ «الشخص الذي تتحدّث إليه مخبول»! وتابعت الاطلاع - فأنا مهني مدرّب في النهاية - لكن لم يكن الأمر سهلاً، وبخاصة عندما استسلم مبارك للضحك بهدوء بعد أدائه حركته المضحكة.
كانت الثقة بعرفات مشكلة عويصة دائماً، لا سيما في السنة الأخيرة من إدارة كلينتون. فقد كان يعرف مقدار تلهّف الرئيس الأميركي للتوصّل إلى سلام - لأسباب إنسانية واستراتيجية، ولكي يخلّف ميراثاً. وكان عرفات يريد شيئاً إضافياً دائماً، ولم يكن هذا الشيء الإضافي يكفي البتة لأنّ ما يريده حقّاً أن تبقى عملية السلام ناشطة دائماً من دون أن يتمّ التوصّل إلى حلّ. فبقاء العملية مستمرة يعطي عرفات نفوذاً. الوصول إلى حافّة الاتفاق ثم التراجع يجعلانه لاعباً مركزياً على المسرح العالمي، ويضفيان عليه الشرعية. وسيراه شعبه في أخبار الـ «سي أن أن». وكان يحبّ وجود الـ «سي آي إي» في وسط المفاوضات. فالـ «سي آي إي» تعويذة قوية في الشرق الأوسط. كان يأخذ ما يستطيع منّا، ولا يعطي بعد ذلك سوى القليل.
عندما جاءت إدارة بوش إلى السلطة، لم تكن تبدي اهتماماً كبيراً بعرفات. لقد جعله فريق كلينتون جزءاً مركزياً من عملية السلام. مع ذلك لم يتمكّن عرفات من إنجاز الاتفاق. لذلك - وتلك نظرة كنت أؤيّدها - لن يُسمح له بالدخول من الباب الأمامي. ولن يصوّر بعد الآن كلاعب مركزي. ولا مزيد من المكافآت لتصرّف لا يقودنا إلى أي مكان (...).
عندما تدخّلنا في عملية السلام، كان من الصعب ألا نستغرق بها تماماً. فلدينا روابط عميقة جداً مع الإسرائيليين، الذين يشبهوننا من نواح عدة. وكانت العلاقات التي نسجناها مع رجال استخباراتهم المهنيين عميقة وذات مغزى. وقد أصبحت علاقات شخصية، حيث تحوّلت إلى صداقة دائمة مع داني ياطوم وإفرايم هاليفي وأفي دختر. فهؤلاء رجال يمكنني الاعتماد عليهم. ولدينا دوافع واهتمامات مشتركة.
في الوقت نفسه، كان من الصعب عدم نشوء مودّة مع الفلسطينيين. فقد كنت أدرك أنّهم يريدون وضع أنفسهم في مكان أفضل. لكنّ السياسة والعداوات التاريخية أشياء لا تستطيع المحادثات الأمنية وحدها التغلّب عليها. وكنت أرى أنّه إذا كان هناك من طريقة لتحسين حياة هذا الشعب الذي يعاني منذ مدة طويلة، فينبغي لنا أن نجرّبها. صحيح أنّها بيئة عاطفية، لكن ثمة مواهب وإمكانات كبيرة لدى الجانبين. وهناك احتمالات عظيمة. المسألة لا تتعلّق البتة بتأييد الإسرائيليين أو الفلسطينيين. فقد كنت أؤيّد الجانبين.
من الواضح أن الطرفين يتحمّلان المسؤولية النهائية عن نجاح العملية أو فشلها. فلا يمكننا أن نبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي ما هي احتياجاته الأمنية. ولا يمكننا أن نبلغ رئيس الوزراء الفلسطيني ما هي احتياجاته الأمنية. لكنّ الولايات المتحدة كانت في تلك الفترة وفي هذه القضية تلعب دوراً مميّزاً. وقد نجح ذلك، لا بالنسبة إلى الأمن والفائدة الأخلاقية فحسب، وإنّما لفائدة العالم أيضاً إلى حدّ كبير.
على رغم أنّ استراتيجيتنا كانت متركّزة أولاً وقبل كل شيء على الإسرائيليين والفلسطينيين، فقد كانت هناك منافع أخرى. لقد منحنا ذلك شرعية أكبر في العالم العربي لأنّنا أظهرنا الكرامة والاحترام في التعامل مع الشعب الفلسطيني. وأتاح لنا أن نُظهر للشارع العربي أنّنا نهتمّ بقضية استخدمها الإسلاميون والإرهابيون لتحريك مشاعر الظلم. وقد فُتحت أمامنا الأبواب لأنّنا ظهرنا منصفين. لم يقتصر ذلك فقط على رؤساء الاستخبارات في كل أنحاء المنطقة، بل تعدّاه إلى رؤساء الدول أيضاً، بحيث يقفون إلى جانبنا عندما نحتاج إلى مساعدتهم حقاً. وكان ذلك الوقت يقترب. ففي معظم الأحيان، كانت العقبة الكأداء أمام السلام تحمل الاسم نفسه: عرفات.