الحياة الإقتصادية
قد كانت الزراعة والرعي الموردين الرئيسين لاقتصاد الآخيين. وكانت المحصولات الرئيسة هي الحبوب و الكروم , وكانت أعمال الزراعة شاقة, لأن أكثر الأراضي جبلية, والمناخ يميل إِلى الجفاف, فلا يتبقى من الأماكن التي تصلح للزراعة إِلا نحو ربع مساحة الجبال, أو خمس مساحة البلاد, وكان الأغنياء يملكون قُطعاناً كبيرة من البقر والماعز والغنم, ويكتفي الفقراء بأكل السمك والحبوب, أو بما يصطادونه من الحيوانات البرية والطيور فقد كان الصيد آنئذ ضرورة من ضرورات الحياة.
ولم يكن الآخيون يستخرجون المعادن من الأرض. بل كانوا يستوردون ما يلزمهم من النحاس و القصدير و الفضة و الذهب من البلاد الأخرى. وكان الحديد من المواد النادرة الثمينة, وتصنع أكثر الأسلحة من البرونز.
وتتحدث الإِلياذة والأوديسة عن البنّائين والنجارين والسّراجين الذين كانوا يشتغلون في بيوت من يطلب ذلك. ولم تكن الحرف متطورة, إِذ كان أفراد الأسرة يصنعون في الغالب ما يحتاجون إِليه بأنفسهم.
بدأ الآخيّون في عهد الأبطال يتعرفون التجارة. ولم يقتصر نشاطهم على التجارة الداخلية بين مدن اليونان ومناطقها. فقد جاء في الإِلياذة والأوديسة ذكر المنسوجات الشفّافة الُموشَّاة الآتية من صَيْدُوْن (صيدا), والأدوات المصنوعة من الذهب الآتية من فينيقية, ومجموعة من المصنوعات الأخرى كالسلال والمزهريات المجدولة من أسلاك الفضة والأدوات المصنوعة من العاج والبرونز والصفيح. وكان الآخيون من جانبهم يقايضون على هذه الواردات بالماشية والمعادن. وليس في الإِلياذة أو غيرها ذكرٌ للنقود. وكانوا يعدّون البقر وحدة قياسية للتبادل التجاري ويستخدمون كذلك سبائك الحديد أو البرونز أو الذهب, وصنعوا سبيكة ذهبية فيما بعد بمقياس معين يدعى «تالَنْتُون».
وكان في مقدور الأرض أن تخرج المعادن كما تخرج الطعام ، ولكن الآخيين أهملوا استخراج المعادن واكتفوا باستيراد النحاس ، و القصدير ، و الفضة و الذهب ، ومادة أخرى جديدة عجيبة من أسباب الترف ، وهي الحديد. فنرى كتلة غير مشكلة من الحديد تقدم هدية ثمينة في الألعاب التي أقيمت تكريماً لبتروكلوس Patroclus6 ، ويقول عنها أكليز (أخيل) إنه سوف يُصنع منها كثير من الأدوات الزراعية. وهو لا يذكر في هذا المقام شيئاً عن الأسلحة، وكانت لا تزال تصنع من البرونز ، وتصف الأوديسة سقي الحديد ، ولكن هذه الملحمة قد وصلت إلينا في أكبر الظن من عصر متأخر عن عصر الإلياذة. وكان الحداد أمام كوره ، والفخراني أمام عجلته ، يعملان في حانوتيهما ، وكان غيرهم من الصناع الذين ورد ذكرهم في أشعار هومر - كصناع السروج ، والبنائين ، والنجارين ، وصناع الأثاث - كان هؤلاء يعملون في منازل من يكلفونهم بعمل لهم ؛ ولم يكونوا يعملون للأسواق ، أو للبيع ، أو للكسب ؛ وكانوا يداومون العمل ساعات طوالاً ، لكنهم كانوا يعملون على مهل وليس وراءهم دافع من المنافسة الظاهرة.
وكانت الأسرة نفسها تقوم بصنع أكثر حاجياتها ، فكان كل فرد يعمل بيديه ، وكان رب الأسرة ، بل كان الملك المحلى نفسه مثل أديسيوس ، يصنع ما يحتاجه بيته من سرر وكراسي ، وما يلزمه هو من أحذية وسروج ، وكان - على عكس اليونان المتأخرين - يفخر بمهارته في الأشغال اليدوية. ولقد كانت بنبي ، وهلين ، وأندروماك وخادماتهن لا ينقطعن عن الاشتغال بالغزل والنسج والتطريز ، والأعمال المنزلية. وتبدو هلين وهي تعرض تطريزها على تلماك ، أجمل منها وهي تتبختر فوق أسوار طروادة.
وكان الصناع من الأحرار ، ولم يكونوا قط من الرقيق كما كانوا عند اليونان الأقدمين ؛ وكان من المستطاع عند الحاجة تجنيد الفلاحين للعمل في خدمة الملك ، ولكننا لا نسمع قط بالأقنان اللاصقين بالأرض المرتبطين بها ؛ ولم يكن الأرقاء كثيرين ، ولم تكن منزلتهم منحطة ، وكان معظم الرقيق من الجواري خادمات المنازل ، وكانت منزلتهن في الواقع لا تقل عن منزلة خادمات المنازل في هذه الأيام ، إذا استثنينا أنهن كن يُشترين أو يبعن لآجال طوال ، لا للقيام بأعمال قصيرة غير ثابتة كحالهن في هذه الأيام. وكن في بعض الأحيان يعاملن بقسوة وحشية ؛ لكنهم في العادة كن كأعضاء في الأسرة التي يعملن لها ، يُعنى بهن في مرضهن أو عجزهن أو شيخوختهن ؛ وكن يرتبطن في بعض الأحيان بعلائق الود والمحبة مع رب الأسرة أو ربتها. فقد كانت نوسكا Nausica تساعد جواريها في غسل الملابس في النهر ، وتلعب الكرة معهن ، وتعاملهن في جميع الأحوال معاملة الرفيقات. وإذا ولدت الجارية ولداً من سيدها كان هذا الولد في العادة من الأحرار ، غير أنه كان ككل إنسان معرضاً لأن يكون رقيقاً إذا وقع أسيراً في الحرب أو في غارة القراصنة. وكان هذا أسوأ ما في الحياة الآخية.
والمجتمع الآخيوي مجتمع ريفي ، وحتى "مدنه" لا تعدو أن تكون قرى تشرف عليها قلاع قائمة فوق التلال المجاورة لها. وكانت الرسائل تنقل على أيدي السُعاة أو الرُسل ، وإذا كانت المسافة طويلة نقلت الرسالة بإشارات النار تبعث من إحدى قلل الجبال إلى قلة أخرى. وكان النقل البري تعوقه الجبال الخالية من الطرق ، كما تعوقه المستنقعات ، والمجاري الخالية من القناطر. وكان النجارون يصنعون عربات ذات أربع عجلات لها تروس وأطر من الخشب ، ولكن معظم البضائع كانت رغم وجود هذه العربات تنقل على ظهور البغال أو الرجال ؛ وكانت التجارة البحرية أقل مشقة من التجارة البرية رغم القراصنة والعواصف ، فقد كانت الموانئ الطبيعية كثيرة، ولم تكن السفن تنقطع عن رؤية الأرض إلا في أثناء الرحلة الخطرة التي تدوم أربعة أيام من كريت إلى مصر.
وكانت السفن عادة ترسو إلى البر في الليل ، وينام البحارة والمسافرون في مكان أمين على الأرض. وكان الفينيقيون في العصر الذي نتحدث عنه لا يزالون أفضل من اليونان في التجارة والملاحة ، وكان اليونان يثأرون لأنفسهم من هذا النقص باحتقار التجارة وإيثار القرصنة. ولم يكن عند اليونان الهومريين نقود، فكانوا يستخدمون بدل النقود المضروبة سبائك من الحديد ، والبرونز ، والذهب ؛ وكان الثور والبقرة يتخذان واسطة للتبادل.
وكانت السبيكة الذهبية التي تزن سبعة وخمسين رطلاً تسمى تالنت (من تالنتون أي وزنه). وكانت المقايضة كثيرة رغم ما كان عندهم من وسائط متعددة للتبادل ، وكانت ثروة الشخص تقدر بما عنده من بضائع وخاصة بما عنده من ماشية ، لا بما يملك من قطع من المعدن أو الورق ، قد تفقد قيمتها أو يعتريها التغيير والتبديل في أي وقت من الأوقات ، إذا ما بدل الناس عقائدهم الاقتصادية. وفي أشعار هومر كما في الحياة الواقعية أغنياء وفقراء ؛ ذلك بأن المجتمع أشبه ما يكون بعربة تجعجع في طريق لا مستو ولا معبد ، ومهما أتقن صنع العربة وتركيبها فإن بعض ما تحمله من متاع سوف يرسب في قاعها ويطفو بعضه الآخر إلى أعلى سطحها. ولم يصنع الفخراني آنيته كلها من طينة واحدة ، كما لم يصنعها كلها بنفس القوة والهشاشة ؛ ومن أجل هذا لا يكاد يستهل عصر الكتاب الثاني من كتب الإلياذة حتى تستمع إلى حرب الطبقات ، وحين يستشيط ثرسيتس Theresites غضباً ويطبق لسانه في أجممنون ، ندرك من فورنا أن هذا عرض قديم من أعراض ذلك الداء المزمن الوبيل.
[تحرير] الحياة الفنية
وترك الآخيون إلى التجار والكتبة من أهل الطبقة الدنيا فن الكتابة الذي تلقوه في أغلب الظن من بلاد اليونان الميسنية ، ذلك أنهم كانوا يفضلون الدم عن المداد و اللحم عن الطين ، ولسنا نجد في أشعار هومر كلها إلا إشارة واحدة للكتابة. ونجدها في سياق فذ واضح الدلالة ، وهو أن لوحة مطوية تعطى لرسول ويؤمر فيها من سوف يتلقاها بأن يقتل حاملها. وإذا ما وجد الآخيون وقتاً يقضونه في ممارسة الأدب فإن ذلك لم يكن إلا حين يجدون بين الحروب والغارات فترة من الوقت يركنون فيها إلى السلم ؛ ووقتئذ يجمع الملك أو الأمير أتباعه حوله ، يولم لهم وليمة ويدعو شاعراً أو مغنياً جوالاً ينشدهم على قيثارته شعراً ساذجاً يقص أعمال الأبطال من أسلافهم الأولين. وكان ذلك شعر الآخيين وتاريخهم.
ولعل هومر قد أراد كما أراد فيدياس أن ينقش صورته على ملاحمه فأخذ يقص علينا كيف طلب ألسينوس ملك القباشانيين أن يحيي أديسيوس بشيء من هذه الأغاني : "ادع إلينا المنشد الإلهي دمدوكس Demodocus، لأن الله قد اختصه دون غيره بالمهارة في الغناء .... ثم اقترب الرسول يقود المنشد القدير الذي تحبه إلهة الشعر أكثر من سائر الناس، فوهبته من نعمتها وسلطت عليه من نقمتها، فحرمته قوة البصر ولكنها وهبته نعمة الصوت الجميل".
والفن الوحيد الذي يعنى به هومر غير فنه طرق الحديد وتشكيله. فهو لا يذكر شيئاً عن التصوير ولا النحت ولكنه يستجمع كل ما أوتي من إلهام ليصف المناظر المصورة بالجواهر أو المزركشة على ترس أكليز، أو المنقوشة نقشاً بارزاً على دبوس أديسيوس الذي يحلي به صدره. وإذا تحدث عن العمارة كان حديثه قصيراً ، ولكنه يلقي على هذا الفن كثيراً من الضوء. ففي وسعنا أن نستدل من حديثه على أن المساكن العادية في عصره كانت تشاد من اللبن على أساس من الحجارة ، وأرضها من الطين المطروق بالأقدام ، والذي كان ينظف بحكه بأداة خشنة ؛ وكان السقف يتخذ من الغاب تعلوه طبقة من الطين لا تميل إلا بالقدر الذي يمكن الأمطار من النزول. وكانت الأبواب مفردة أو مزدوجة ، وقد تكون لها مزالج أو مفاتيح. أما المساكن التي هي أعلى من هذه درجة فكانت جدرانها تطلى بالجبس الملون ، وتزين حافاتها أو تنقش ، وتعلق عليها الأسلحة والتروس والنسيج المنقوش. ولم يكن في الدار مطبخ ، ولا مدخنة ، ولا نوافذ ، وكان في سقف بهوها الأوسط فتحة يخرج منها بعض الدخان المنبعث من الموقد ، وتخرج بقيته من باب الدار ، أو تستقر صناجاً على الجدران.
وكانت الحمامات من المرافق التي تحتويها بيوت الأغنياء ، أما غيرهم فكانوا يقنعون بوعاء من الخشب بدل الحمام. وكانوا يتخذون أثاثهم من الخشب الثقيل ، وكثيراً ما كان يصقل وتحفر فيه أشكال فنية جميلة. وقد صنع إكماليوس لينلي كرسياً ذا متكأ مطعماً بالعاج والمعادن النفيسة ، وكذلك صنع أديسيوس له ولزوجته سريراً ضخماً متيناً قَدَّر له أن يبقى مائة عام.
ومن خصائص هذا العصر أن أهله يُغفلون الهياكل ويوجهون كل عنايتهم إلى تشييد القصور ، بعكس عصر بركليز فإن أهله كانوا يهملون القصور ويصرفون جهودهم في بناء الهياكل. فنحن نسمع عن "بيت باريس الفخم" الذي شاده ذلك الأمير بمعونة أمهر المهندسين في طروادة ، وبقصر الملك ألسنوس الفاخر الذي كانت جدرانه من البرونز ، وطنفه من عجين الزجاج الأزرق، وأبوابه من الفضة والذهب، إلى غير ذلك من الأوصاف التي تَصْدُق على الشعر أكثر مما تصدق على فن العمارة. ونسمع كذلك الشيء القليل عن بيت أجممنون الملكي في ميسيني كما نسمع الشيء الكثير عن قصر أديسيوس في أتكا. وقد كان لهذا القصر دهليز أمامي مرصوف بعضه بالحجارة ، ويحيط به سور مجصص ، ويزدان بالأشجار ومذاود الخيل ، وكومة من الروث الساخن ينام عليها أرجوس كلب أديسيوس في ضوء الشمس. ويؤدي إلى داخل القصر مدخل ذو عمد ينام فيه العبيد والزائرون في كثير من الأحيان ، أما داخل القصر نفسه فكان يحتوي على حجرة للانتظار تؤدي إلى بهو أوسط يستند إلى عمد يصل إليه الضوء من قمته في السقف، وفي بعض الأحيان من فتحة أخرى بين طنف البناء وعوارضه التي فوق الأعمدة. وكانت مجامر نحاسية مستقرة على قواعد عالية تضيء البيت إضاءة مضطربة غير مستقرة. وكان في وسط البهو مدفأة الدار تجتمع الأسرة حول نارها المقدسة أثناء الليل للدفء والطرب ، وللتحدث عن أخبار الجيران، وعناد الأطفال ، وتقلبات الأيام.
وفي العمارة, تبرز الإِلياذة والأوديسة فخامة الصنع ودقة الزخرفة عند الحديث عن قصور الملوك والزعماء. ويلمس القارئ في الكتابات المنسوبة إِلى هوميروس, أنَّ المجتمع الآخيّ كان أقل تطوراً مما كان عليه في مُوْكنَاي وأبعد عن النظام والقانون والقيود الأخلاقية التي كانت سائدة في حضارة كريت[ر] (إِقريطش). وأن الآخيين رجعوا بالحضارة خطوات إِلى الوراء بالموازنة مع ما كانت قد بلغته في بلاد بحر إِيجة في عصري البرونز الثاني والثالث (1450- 1100 ق.م). وتبدو حياة الآخيين, فقيرة بالفنون الأخرى بعيدة عن القيم الفكرية, مقتصرة غالباً على الانصراف إِلى الحروب والغارات.
[تحرير] انتشار الآخيين وتحركاتهم
تشير الكتابات الحثّية إِلى ازدياد قوة الآخيين في منتصف القرن الثالث عشر ق.م. وهي تذكر أن الملك الحثي توداليا الرابع (1250-1220 ق.م) اضطر إِلى محاربتهم مدةً طويلة, وأنهم كانوا خصوماً أقوياء بقيادة ملكهم آتاريسياس أي أتريوس - والد آجاممْنُون - ويزاحمون الحثيين, ويسعون إِلى التوسع والاستيلاء على بعض جزر بحر إِيجه.
وقد وجد الآخيين أنفسهم مضطرين إِلى البحث عن مصادر الرزق خارج بلادهم لضيق وسائله في بلادهم فمالوا إِلى الهجرة, حيثما وجدوا إِلى ذلك سبيلاً. ولم تتجه هجراتهم نحو داخل القارة الأوربية لأسباب اقتصادية وبشرية وعسكرية بل توجهوا بأنظارهم إِلى البحر. وشجعهم على الملاحة في الحوض الشرقي للبحر المتوسط تقارب سواحله في أكثر من موضعٍ, وكثرة الجزر في أرجائه, والمراكز الحضارية على شواطئه. وقد أدت الهجرات المتتالية التي انطلقت من بلاد اليونان منذ وقت مبكر, إِلى انتشار سكانها على شواطىء البحر المتوسط الشرقية أولاً ثم الغريبة فيما بعد, ومنها هجرات الآخيين في نهاية عصر البرونز الحديث ومطلع عصر الحديد (1200-1000 ق.م).
وليست حرب طروادة, التي تتحدث عنها الإِلياذة, إِلا إِحدى المحاولات المنظمة لتوسع الآخيين واستيطانهم شواطئ آسيا الصغرى وجزر بحر إِيجة.
وساعد ضغط الدوريين على انتشار الآخيين كما جاء في روايات الإِخباريين والكتاب اليونانيين. فقد كان «الاجتياح الدُوري», أو عودة «آل هرقل» كما يقولون, الحادث الأكبر الذي أدى إِلى انهيار الآخيين وفقدهم السيطرة على شبه جزيرة البلوبونيز بعد ثمانين عاماً من حرب طروادة (في نهاية القرن 12 ق.م), فتشتّتوا في جزر بحر إِيجة وشواطئ آسيا الصغرى, ولم يبق لهم ذكر في مجرى تاريخ بلاد اليونان.