16-) من حوارات همفر مع محمد بن عبدالوهاب
ذات مرة تكلمت مع الشيخ محمد عن الصوم وقلت له: إن القرآن يقول (وأن تصوموا خير لكم) ولم يقل أنه واجب عليكم، فالصوم بنظر الإسلام مندوب وليس واجب، لكنه قاوم الفكرة وقال لي:
يا محمد تريد أن تخرجني من ديني؟ قلت له: يا وهاب أن الدين هو صفاء القلب و سلامة الروح وعدم الاعتداء على الآخرين، ألم يقل النبي (الدين الحب)؟ وألم يقل الله في القرآن الحكيم (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)؟ فإذا حصل للإنسان اليقين بالله واليوم الآخر، وكان طيب القلب نظيف العمل كان من أفضل الناس. لكنه هز رأسه علامة النفي وعدم الارتياح. ومرة أخرى قلت له:
الصلاة ليست واجبة. قال: وكيف؟ قلت: لأن في القرآن يقول الله (وأقم الصلاة لذكري) فالمقصود من الصلاة ذكر الله تعالى، فلك أن تذكر الله تعالى عوضا عن الصلاة. قال محمد: نعم سمعت أن بعض العلماء كانوا يذكرون الله تعالى في أوقات الصلاة عوضا عن الصلاة. ففرحت لكلامه أيما فرح، وأخذت أنفخ بهذا الرأى حتى ظننت أني استوليت على لبه، وبعد ذلك وجدته لا يهتم لأمر الصلاة، فأحيانا يصلي وأحيانا لا يصلي خصوصا في الصباح، فإنه كان يترك الصلاة غالبا، حيث كنت أسهر معه إلى بعد منتصف الليل غالبا فكان منهوك القوى عند الصباح فلا يقوم للصلاة. وهكذا أخذت أسحب رداء الإيمان من عاتق الشيخ شيئا فشيئا.
وأردت ذات مرة أن أناقش حول الرسول لكنه صمد في وجهى صمودا كبيرا، و قال لى: إن تكلمت بعد ذلك حول هذا الموضوع قطعت علاقتى بك. وخشيت أن ينهار كل ما بنيته، من أجل ذلك أحجمت عن الكلام، لكن أخذت في إذكاء روحه في أن يكون لنفسه طريقا ثالثا غير السنة والشيعة، وكان يستجيب لهذا الأيحاء كل استجابة، لأنه يملئ غروره وتحرره. وبفضل (صفية) التي دامت علاقتها معه بعد الأسبوع أيضا في متعات متعددة تمكنا بالأخذ بقيادة الشيخ محمد كاملا. وذات مرة قلت للشيخ:
هل صحيح أن النبي آخى بين الصحابة؟ قال: نعم. قلت: هل أحكام الإسلام وقتية أم دائمة؟ قال محمد: بل دائمة لأن الرسول يقول (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة). قلت: إذا فالنواخي أنا وأنت. ومنذ ذلك الحين كنت أتبعه في كل سفر وحضر، وكنت أهتم لأن تأتي الشجرة التي غرستها ثمارها التي صرفت لأجلها أثمن أوقات شبابي. وكنت أكتب بالنتائج إلى وزارة المستعمرات كل شهر مرة.
كما كانت عادتى منذ أن خرجت من لندن وكان الجواب يأتي بالتشجيع الكافي، فكنت أنا ومحمد نسير بالطريق الذي رسمناه بخطي سريعة، ولم أكن أفارقه لا في السفر ولا في الحضر، وكانت مهمتى أن أنمي فيه روح الاستقلال والحرية، وحالة التشكيك، وكنت أبشره دائما بمستقبل باهر وأمدح فيه روحه الوقادة ونفسه النفاذه.
ولفقت له ذات مرة (حلما) فقلت له أني رأيت البارحة في المنام رسول الله - وصفته بما كنت سمعته من خطباء المنابر - جالسا على كرسى وحوله جماعة من العلماء لم أعرف أحدا منهم وإذا بي أراك قد دخلت ووجهك يشرق نورا فلما وصلت إلى الرسول قام الرسول إجلالا وقبّل بين عينيك وقال لك: يا محمد أنت سمييّ ووارث علمي والقائم مقامي في إدارة شؤون الدين والدنيا (فقلت أنت) يا رسول الله إني أخاف أن أظهر علمي على الناس؟ قال رسول الله لك: لا تخف إنك أنت الأعلى.
فلما سمع محمد مني هذا المنام كاد أن يطير فرحا ، وسألني مكررا هل أنت صادق في رؤياك؟
وكلما سأل أجبته بالإيجاب حتى أطمئن، وأظن أنه صمم من ذلك اليوم على إظهار أمره
17-) انتقال همفر إلى النجف وكربلاء
في هذه الأيام جاءتني الأوامر من لندن أنه عليّ أن أتوجه إلى (كربلاء) و(النجف) مهوى قلوب الشيعة ومركز علمهم وروحانيتهم، ولهذين البلدين قصة طويلة.
18-) همفر قلق
كنت أيام مغادرتى البصرة إلى كربلاء والنجف قلقا أشد القلق على مصير (الشيخ محمد عبد الوهاب)، حيث كنت لا آمن الانحراف عن الطريقة التي رسمتها له، فأنه كان شديد التلون، عصبي المزاج، فكنت أخشى أن تنهار كل آمالي التي بنيتها عليه.
أنه حين أردت أن أفارقه كان يروم الذهاب إلى الاستانة للتطلع عليها لكني منعته عن ذلك أشد المنع وقلت له أخاف أن تقول هناك شيئا ما يوجب أن يكفروك ومصيرك حينذاك القتل.
قلت له هكذا ولكن كان في نفسي شيء آخر، وهو أن يلتقي ببعض العلماء هناك، فيقوّموا معوّجه ويرجعونه إلى طريق أهل السنة فتنهار كل آمالي. ولما كان الشيخ محمد لا يريد الإقامة في البصرة، أشرت عليه أن يذهب إلى (أصفهان وشيراز)، فإن هاتين المدينتين جميلتين، وأهاليها من أهل الشيعة، ومن المستبعد أن تؤثر الشيعة في الشيخ، وقد كنت بذلك أمنت أنحرافه.
وعند مفارقتى للشيخ قلت له: هل أنت تؤمن بالتقية؟ قال نعم، فقد أتقى أحد أصحاب الرسول (وأظنه قال أنه مقداد) حين أضطهده المشركون، وقتلوا أباه وأمه فأظهر الشرك وأقره على ذلك رسول الله. قلت له: إذن إتق من الشيعة ولا تظهر لهم إنك من أهل السنة لئلا تقع عليك كارثة، وتمتع ببلادهم، وتعرف على عاداتهم وتقاليدهم، فإنه ينفعك أشد النفع في مستقبل حياتك
19-) همفر يزود محمد بن عبدالوهاب بالمال
وقد زودت الشيخ حين أردت مفارقته بكمية من المال بعنوان (الزكاة) وهي ضريبة إسلامية تؤخذ لصرفها في مصالح المسلمين، كما وقد اشتريت له (دابة) للركوب بعنوان الهدية وفارقته. ومنذ مفارقتى له لم أعلم مصيره، وكنت قلقا لذلك أشد القلق، وقد اتفقنا أن نرجع كلانا إلى البصرة، وإذا رجع أحدنا ولم يجد صاحبه، يدع مكتوبا عند عبدالرضا يخبر فيه صديقه عن حاله
20-) همفر يعود إلى بريطانيا لتقديم تقريره
بعد مدة من مكوثي في (بغداد) أتتني الأوامر بضرورة التوجه إلى (لندن) فورا فتوجهت إليها، وهناك اجتمع بي السكرتير وبعض أعضاء الوزارة وأخبرتهم بمشاهداتي وما عملته في سفرتي الطويلة. ففرحوا بمعلوماتي عن العراق أشد الفرح وأبدوا إرتياحهم لها. وكان قد سبق إليهم تقريري عن الرحلة، وظهر لي فيما بعد أن صفية قرينة (الشيخ محمد عبدالوهاب) في البصرة أيضا كانت قد كتبت إليهم مما يطابق تقاريري. كما تبين أيضا أن الوزارة كانت تراقبني في كل سفرة، وأن المراقبين كتبوا عني تقارير مرضية، ومصدقة لما كتبت في تقريري، وِلما قلت عند مقابلة السكرتير
21-) وزارة المستعمرات البريطانية مهتمة لامر محمد بن عبدالوهاب
وضع لي السكرتير موعدا للاجتماع بنفس الوزير، ولما زرته رحب بي ترحيبا حارا يختلف عن ترحيبه السابق عندما عدتُ من الاستانة إلى لندن، وظهر لي أنني شغلت من قلبه مكانا لائقا. وقد أبدى الوزير إرتياحه الكبير من السيطرة على محمد، وقال: أنه ضالة الوزارة، وأكد علي مكررا بأن أعاهده بكل أنواع المعاهدة، وقال أنك لو لم تحصل في كل اتعابك إلا على الشيخ، كان ذلك جديرا بكل تلكم الاتعاب.
22-) إجماع تقارير جواسيس بريطانيا ترشح محمد بن عبدالوهاب
بقيت في لندن مدة شهر أخر حتى أتتنا أوامر الوزارة بالتوجه إلى العراق مرة أخرى، لتكميل الشوط مع (محمد عبدالوهاب) وقد أمرني السكرتير بأن لا أفرط في حقه مقدار ذرة حيث قال أنه حصل من مختلف التقارير الواردة اليه من العملاء أن الشيخ أفضل شخص يمكن الاعتماد عليه ليكون مطية لمآرب الوزارة. ثم قال السكرتير: تكلم مع الشيخ بصراحة. وقال أن عميلنا في أصفهان، تكلم معه بصراحة، وقبل الشيخ العرض على أن نحفظه من الحكومات والعلماء الذين لابد وأن يهاجموه بكافة السبل حينما يبدي آرائه وأفكاره، وأن يزوده بالمال الكافي والسلاح إذا إقتضى الأمر ذلك، وأن نجعل له إمارة ولو صغيرة في أطراف بلاده (نجد) وقد قبلت الوزارة كل ذلك
23- محمد بن عبدالوهاب والوثيقة البريطانية معه
لقد كدتُ أخرج عن جلدى من شدة الفرح بهذا النبأ، قلت للسكرتير: إذن فما هو العمل الآن؟
وبماذا أكلف الشيخ، ومن أين أبدأ؟ قال السكرتير: لقد وضعت الوزارة خطة دقيقة لأن ينفذها الشيخ وهي:
1-) تكفير كل المسلمين وإباحة قتلهم وسلب أموالهم وهتك أعراضهم وبيعهم في أسواق النخاسة، رجالهم جعلهم عبيدا ونسائهم جواري
2-) وهدم الكعبة باسم أنها آثار وثنية إن أمكن ومنع الناس عن الحج وإغراء القبائل بسلب الحجاج وقتلهم
3-) والسعي لخلع طاعة الخليفة، والإغراء لمحاربته وتجهيز الجيوش لذلك، ومن اللازم أيضا محاربة (أشراف الحجاز) بكل الوسائل الممكنة، والتقليل من نفوذهم
4-) وهدم القباب والأضرحة والأماكن المقدسة عند المسلمين في مكة والمدينة وسائر البلاد التي يمكنه ذلك فيها باسم أنها وثنية وشرك والاستهانة بشخصية النبي (محمد) وخلفائه ورجال الإسلام بما يتيسر
5-) ونشر الفوضى والإرهاب في البلاد حسب ما يمكنه
6-) ونشر قرآن فيه التعديل الذي ثبت في الأحاديث من زيادة ونقيصة.
24- نصائح وزارة المستعمرات البريطانية لهمفر
قال السكرتير لي بعدما بيّن البرنامج المذكور: لا يهولنك هذا البرنامج الضخم فإن الواجب علينا أن نبذر البذرة وستأتي الأجيال الآتية ليكملوا المسيرة، وقد إعتادت حكومة بريطانيا العظمى على النفس الطويل، والسير خطوة خطوة، وهل محمد النبي إلا رجل واحد تمكن من ذلك الانقلاب المذهل؟ فليكن (محمد عبد الوهاب) مثل نبيه (محمد) ليتمكن من هذا الانقلاب المنشود
25-) همفر في البصرة مرة ثانية
وخرجت قاصدا نحو البصرة، وبعد سفرة مضنية وصلت إليها ليلا، وذهبت إلى دار (عبد الرضا) وكان نائما، ولما رآني رحب بي واستقبلني استقبالا حارا ونمت هناك حتى الصباح وقال لى: إن الشيخ محمد رجع إلى البصرة ثم سافر وأودع عندي كتابا موجها إليك. وفي الصباح قرأت الكتاب وإذا به يخبرني فيه أنه سافر إلى نجد، وقد ذكر عنوان محله في نجد.
26-) همفر في منزل محمد بن عبدالوهاب في نجد
فسافرت في الصباح وجهة نجد ووصلتها بعد مشقة بالغة وجدت الشيخ محمد في داره، وقد ظهرت عليه آثار الضعف فلم أبح له بشيء، ثم تبين لي فيما بعد أنه تزوج وأنه ينهك قواه مع زوجته، فنصحته بالإقلاع فسمع كلامي، وقد صار القرار أن أجعل نفسي عبدا له قد إشتراه من السوق وأن العبد الآن جاء من السفر، وهكذا كان، فشهر عند أصدقائه أني عبده إشتراه من البصرة وأنه كان في سفر أمره بذلك السفر وأنه جاء الآن، وتلقاني الناس بهذا الاسم وبقيت عنده سنتين وهيأنا الترتيب اللازم لإظهار الدعوة
27- بدء حملة ابن عبدالوهاب برعاية بريطانيا
وفي سنة 1143 هجرية قويت عزيمته وقد جمع أنصارا لا بأس بهم فأظهر الدعوة بكلمات مبهمة والفاظ مجملة لأخص خواصه، ثم جعل يوسع رقعة الدعوة، وألففت أنا حوله عصابة شديدة المراس زودناهم بالمال وكنت أشد عزيمتهم كل ما أصابهم خوف من أجل مهاجمة أعدائه له، وكلما أظهر الدعوة أكثر صار أعدائه أكثر، وأحيانا كان يريد التراجع من ضغط بعض الإشاعات ضده، لكني كنت أشد من عزيمته، وأقول له: أن محمد النبي رأى أكثر من ذلك وأن هذا طريق المجد وأن كل مصلح لابد وأن يتلقى العنت والإرهاق
28-) شيء من سيرة الحركة الوهابية
وهكذا كنا مع الأعداء بين الكر والفر وقد وضعتُ على أعداء الشيخ جواسيس اشتريتهم بالمال، فكلما أرادوا إثارة فتنة أخبرنا الجواسيس بقصدهم فنتمكن من قلب الخطة، وذات مرة أُخبرتُ أن بعض أعدائه أرادوا اغتياله فوضعتُ الترتيبات اللازمة لإفشال الخطة، ولما ظهر قصد أعدائه بإرادتهم (اغتيال الشيخ) أنقلبت الخطة عليهم وأخذ الناس ينفرون منهم
لقد وعدني (الشيخ) بتنفيذ كل الخطة السداسية إلا أنه قال: أنه لا يتمكن في الحال الحاضر إلا على الإجهار ببعضها وهكذا كان، وقد استبعد الشيخ أن يقدر على (هدم الكعبة) عند الاستيلاء عليها، كما لم يبح عند الناس بأنها وثنية وكذلك استبعد قدرته على صياغة قرآن جديد وكان أشد خوفه من السلطة في (مكة) وفي (الاستانة) وكان يقول: إذا أظهرنا هذين الأمرين لابد وأن يجهز إلينا جيوش لا قبل لنا بها، وقبلت منه العذر لأن الأجواء لم تكن مهيئة كما قال الشيخ
29-) محمد بن سعود يعاون محمد بن عبدالوهاب بتوجيه بريطاني
بعد سنوات من العمل تمكنت الوزارة من جلب (محمد بن سعود) إلى جانبنا فأرسلوا إليه رسولا يبين لي ذلك ويظهر وجوب التعاون بين (المحمدين) فمن محمد عبد الوهاب الدين ومن محمد السعود السلطة،
ليستولوا على قلوب الناس واجسادهم، فإن التاريخ قد أثبت أن الحكومات الدينية أكثر دواما وأشد نفوذا وأرهب جانبا.
وهكذا كان وبذلك قوي جانبنا قوة كبيرة وقد اتخذنا (الدرعية) عاصمة للحكم (والدين الجديد) وكانت الوزارة تزود الحكومة الجديدة سرا بالمال الكافي كما اشترت الحكومة الجديدة في الظاهر عدة من العبيد كانوا خيرة ضباط الوزارة الذين دربوا على اللغة العربية والحروب الصحراوية فكنت أنا وإياهم (وعددهم أحد عشر) نتعاون بوضع الخطط اللازمة وكان (المحمدان) يسيران على ما نضع لهما من الخطط، وكثيرا ما نناقش الأمر مناقشة موضوعية إذا لم يكن أمر خاص من الوزارة
30-) خاتمة مذكرات همفر
وقد تزوجنا جميعا من بنات العشائر، وقد أعجبنا بإخلاص المرأة المسلمة لزوجها وبذلك اشتبكت أواصر الصلة بيننا وبين العشائر أكثر فأكثر والأمر الآن يسير من حسن إلى أحسن، والمركزية تتقوى يوما بعد يوم وإذا لم تقع كارثة مفاجئة فقد بذرت البذرة الصالحة لأن تنمو وتنمو حتى تؤتي الثمار المطلوبة.
المركز الدولي لدراسات أمريكا والغرب