قصة الهندسة(17)-العمالقة: جانوس بولايي.الجزء الأول
Janos Bolyai, 1802-1860
عن العمالقة...
حين ننظر للنموذجين اللذين قدمتهمالهندسةلوباتشيفسكي، يتضح لنا بما لا يدع مجالا للشك أن هذه الهندسة صحيحة، يعني أنها صحيحة بنفس مقدارصحة هندسة إقليدس: فهما إما خاطئتان معا أو صحيحتان معا.
لكن هذين النموذجين لم يظهرا إلا في نهاية القرن التاسع عشر و في بداية القرن العشرين، ذلك أن النقطة العصية في كل من هذين النموذجين هي تعريف البعد: هذا التعريف الذي يسمح لنا بالإدعاء أن طول "المستقيم" في هندسة لوباتشيفسكي هو مقدار لا نهائي، أي كما طالب إقليدس في مسلمته الثانية:
"يمكن أن نمدد مستقيما ما إلى ما لا نهاية له".
كان كلا من غوص، بولايي و لوباتشيفسكي مضطرا أن يعمل و يبرهن النظريات و في ذهنه شكل المستوي الإقليدي المألوف، و كانت نظريات الهندسة اللاإقليدية تتحدى "الحس السليم"، لكنها كانت منطقية و لا غبار عليها.
فكان كلا منهم يعمل و يبذل قصارى الجهد كي يثبت صحة ما تكذبه حواسه.
كمثال على ما أقول، هاكم نظرية من الهندسة اللاإقليدية، قام ببرهانها كل من بولايي و لوباتشيفسكي:
لقد قام كل من بولايي و لوباتشيفسكي، و أيضا غوص (بما أننا نصدق شهادته بحق نفسه)، قام كل منهم بمحاربة "حسه السليم" و ما تدعيه حواسه كي يبرهن بشكل منطقي بحت ما يبدو له من نظريات غريبة و عجيبة، فلم يتخاذلوا و لم يضعفوا، و كانوا عند حسن ظن العقل الإنساني بهم...
فاستحقوا أن أصفهم بالعمالقة، و هذا أبسط الواجب...
العمالقة: جانوس بولايي.
الجزء الأول
Janos Bolyai, 1802-1860
كان فاركاس بولايي صديق "أمير الرياضيات"، غوص، خلال الجامعة. أكثر من ذلك: كان صديقه الوحيد.
كان فاركاس بولايي مدرس رياضيات في مدرسة صغيرة. كان فاركاس بولايي إنسانا فقيرا، يكسب ما يكفيه بالكاد كي يعيل أسرته.
لكنه كان إنسانا شريفا، و فوق ذلك ذكيا: فحين شاهد قدرات ابنه جانوس على تعلم الرياضيات أدرك أن هذا الطفل هو رياضي عظيم. و تلك كانت فرصة فاركاس بولايي كي يرد مظالم القدر: جانوس سيقوم بما لم يقدر فاركاس أن يقوم به.
تولى فاركاس بنفسه تدريس الرياضيات لابنه. و حين أتى وقت الدراسة الجامعية أرسل لصديقه القديم، أمير الرياضيات، كارل فريديريك غوص، مطالبا إياه أن يأخذ جانوس تحت رعايته.
دعونا ننظر للمسألة من وجهة نظر فاركاس بولايي:
فاركاس بولايي كان يعلم علم اليقين أن ابنه، جانوس، هو أحد أعظم رياضيي المستقبل، و أنه مفخرة لمن يأخذه كطالب.
ثم إن أعظم رياضيي عصره، غوص، كان صديقه ايام الجامعة، فلا شك أنه سيقدم له هذه الخدمة الصغيرة: أن يأخذ ابنه كطالب...
خصوصا و أن مثل هذه الخدمة هي خدمة أيضا لمجد غوص: أولا يكفيه أن يدرس تحت يديه أحد أعظم رياضيي المستقبل؟
لكن دعونا الآن ننظر للمسألة من وجهة نظر غوص:
ففاركاس بولايي ليس رياضيا كبيرا! و هو يمارس التدريس في مدرسة صغيرة!
فرأيه، يعني تقييمه للرياضيين، هو، و بكل صراحة ربنا، لا يعتد به... خصوصا... حين يتعلق هذا الرأي بابنه، و نحن نعلم مدى مغالاة الآباء في وصف الذكاء المفترض لدى أبنائهم...
لم يكن بإمكان غوص أن يرفض صراحة طلب صديقه، و لكنه لم يقبله... فأهمله و لم يرد عليه...
والآن، دعونا ننظر للقضية من وجهة نظر الشاب جانوس: جانوس، و منذ نعومة أظفاره، تربى على عشق الرياضيات. و مثله الأعلى هوذلك العالم العظيم الذي لا ينفك أبوه، فاركاس، يحدثه عنه و عن ذكرياتهما أيام الجامعة.
جانوس، و هو يعلم قدر نفسه، كان يحلم و يظن -محقا- أن من حقه أن يدرس بجوار غوص.
ثم إن أضفت لذلك أن والده -و هو الصديق الحميم لغوص- قد أرسل لغوص طالبا منه ذلك، فلا شك أن غوص سيسارع لتلبية طلب صديقه... حتى و لو كان ذلك على سبيل التجربة!
لكن الأيام تمر... و لا جواب من غوص.
و كل يوم، ينتظر الشاب جانوس وصول البريد و قلبه يخفق: لعل فيه الرسالة المنتظرة؟
لكن هذه الرسالة لا تصل...
و تمر الأيام تتبعها الأيام، و لا جواب من غوص...
كما لو أنه كان يحتقر أشد الإحتقار بولايي، الإبن و الأب معا...
تلك كانت الطعنة الأولى التي تلقاها بولايي من غوص... و ستتبعها طعنات...