كانت تقيم في شارع " موستاكر" امرأة في ريعان الصبا، فقدت زوجها إثر حادث
أليم ولم يمض على زواجها غير وقت قصير. وهاهي ذي قابعة في حجرتها الضيقة،
فقيرة مهجورة، تنتظر طفلها الذي قدر له أن يولد يتيماً. ولما كانت تعاني وحدة
لا يؤنسها فيها أي شيء، استقرت خواطرها دون انقطاع على الطفل المنتظر، فلم
تدع شيئا جميلا رائعا مرغوبا فيه دون أن تتمناه وتتطلع إليه، وتحلم به لطفلها
الصغير، فلم يكن يليق به أقل من قصر كبير مشيد بالحجارة، له نوافذ كبيرة من
البلّور، تحيط به حديقة تتوسطها نافورة. أما بالنسبة لمهنته، فكان لا بد أن
يكون على الأقل أستاذا في الجامعة أو ملكاً.
وكان يجاور السيدة "اليزابيث" عجوز طاعن في السن، أشيب الشعر، ضئيل الجسم، لا
يبرح منزله إلا أحيانا، فإذا راق له أن يفعل ذلك وضع على رأسه قلنسوة تتدلى
منها شرابة، وحمل مظلة خضراء عفا عليها الدهر، صنعت أسلاكها من عظام الحوت،
وكان الأطفال يخشونه، والكبار يتهامسون فيما بينهم بأنه لابد أن تكون له
أسبابه القوية التي تدفعه إلى حياة العزلة التي يحياها، وكانت تنقضي فترات
طويلة لا يكاد يشاهده فيها أحد، إلا أنه قد يحدث أحيانا في إحدى الأمسيات أن
تنبعث من منزله الصغير الخرب موسيقى رقيقة كأنها تخرج من عدد كبير من الآلات
الدقيقة المرهفة. وحينئذ كان الأطفال العابرون يسألون أمهاتهم : أهي ملائكة
تلك التي تنشد في الداخل، أم تراها جنيات؟ غير أن أمهاتهم كن يجهلن كل شيء عن
هذا الأمر، فيقلن : " كلا .. كلا ، إنه لابد أن يكون صندوقا موسيقيا ."
هذا الرجل الضئيل الذي كان يعرفه جيرانه باسم " السيد بنسفاجنر"، كانت تربطه
بالسيدة "اليزابيث" صداقة من نوع غريب. والواقع أن أحدهما لم يكن يتحدث إلى
الآخر أبدا، ولكن الشيخ العجوز كان ينحني انحناءة مليئة بالود كلما عبر
نافذتها، وكانت ترد عليه بإطراقة من رأسها في عرفان بالجميل، وفي كثير من
الميل إليه. وكان كل منهما يحدث نفسه قائلا : "لو أن الأمور ساءت بالنسبة
إلي، فسوف أذهب بكل تأكيد لطلب المعونة من منزل جاري" فإذا هبط الظلام جلست
السيدة "اليزابيث" وحيدة إلى نافذتها، يعاودها الأسى على زوجها الراحل
المحبوب، أو ربما فكرت في طفلها المرتقب، فراودتها الأحلام، فلا يلبث جارها
العجوز أن يفتح نافذته متلطفا؛ لتنطلق من حجرته المعتمة أنغام ناعمة مريحة
فضية مثل نور القمر حين يتسلل بين السحب. أما السيدة "اليزابيث" فكانت تتعهد
من جانبها بضعة من نباتات الحيرانيوم القديمة تتسلق نافذته الخلفية، وكان
ينسى دائما أن يرويها، ولكنها كانت دائمة الخضرة، حافلة بالأزهار، خالية من
أية ورقة ذابلة؛ لأن السيدة اليزابيث كانت ترعاها في وقت مبكر كل صباح .
وذات مساء قارس البرد عاصف الريح كان الموسم فيه يتجه صوب الخريف، وقد خلا
شارع " موستاكر" من الناس، أحست المرأة المسكينة بالمخاض، فارتاعت لأنها كانت
وحدها تماما، ولكن عندما أوغل الليل، أقبلت امرأة عجوز تحمل في يدها مصباحا،
فدخلت المنزل، وشرعت تغلي الما ، وتعد البياضات، وتقوم بكل ما يحتاج إليه طفل
يجيء إلى العالم، واستسلمت السيدة " اليزابث" للرعاية في صمت، ولم تنبس بشيء،
حتى إذا ولد الطفل، ولف في قماط ناعم جديد، ودخل في أول يوم له على الأرض،
سألت المرأة العجوز: متى جاءت؟
فأجابتها المرأة: " لقد أرسلني السيد بنسفاجنر" وسرعان ما غشى النوم الأم
التي أنهكها التعب. وعندما استيقظت في الصباح، وجدت لبنا مغليا في انتظارها
وكل شيء في الحجرة مرتبا في عناية فائقة، وإلى جانبها، رقد ابنها الصغير يصرخ
من الجوع. غير أن المرأة العجوز كانت قد رحلت، فضمت السيدة "اليزابيث" الطفل
إلى صدرها، وسرها أنه جميل قوي. وتذكرت أباه الراحل الذي لم يعش حتى يراه،
فاغرورقت عيناها بالدموع، ولكنها احتضنت الطفل اليتيم الصغير، وابتسمت مرة
أخرى، ثم عادت إلى النوم هي وصغيرها. فلما استيقظت، كان هناك مزيد من اللبن،
وطبق جاهز من الحساء، ووجدت الطفل ملفوفا في أغطية نظيفة.
ولم تلبث الأم أن استردت صحتها وعافيتها، بحيث استطاعت أن ترعى نفسها وطفلها
"أغسطس" وأدركت أنه لابد من تعميد ابنها، ولكنها لا تجد له إشبينا. وذات
مساء، عندما أقبل الغسق، وانطلقت الموسيقى العذبة مرة أخرى من المنزل الصغير
المجاور، ذهبت إلى باب السيد "بنسفاجنر"، وطرقته مترددة، فاستقبلها بصيغة
ودية، وقال لها: " ادخلي!" وفجأة توقفت الموسيقى، وفي الحجرة شاهدت مائدة
صغيرة عتيقة، يعلوها مصباح وكتاب. وكل شيء فيها عادي كما ينبغي أن يكون.
وقالت السيدة " اليزابيث": جئت لأشكرك على تلك المرأة الطيبة التي أرسلتها
إليّ وأرغب في أن أدفع أجرها حتى أستطيع العودة إلى العمل وكسب شيء من المال،
غير أنني مهمومة بشيء آخر فلا بد من تعميد الطفل، وتسميته أغسطس على اسم
أبيه، ولكنني لا أعرف أحدا، ولا أجد له إشبينا.
قال جارها وهو يتخلل بأصابعه لحيته التي وخطها الشيب: " أجل .. لقد فكرت في
هذا أيضا، وأحسب أنه من الخير أن تجدي له إشبينا عطوفا غنيا يمكن أن يتعهده
إذا مسك أذى، إنني وحيد أيضا وعجوز وليس لي سوى أصدقاء قلائل ؛ ولهذا لا
أستطيع أن أوصي بأحد، اللهم إلا نفسي، إذا تقبلت ذلك.
وكان هذا العرض مبعث سعادة للأم المسكينة، فشكرت الرجل العجوز ووافقت في
حماسة. وفي يوم الأحد التالي، حملت الطفل إلى الكنيسة، حيث قاموا بتعميده
وهناك ظهرت السيدة العجوز أيضا، ومنحت الطفل قطعة نقود فضية، وعندما اعتذرت
السيدة اليزابيث عن قبولها، قالت العجوز : " كلا .. خذيها، فأنا امرأة عجوز
ولدي ما أحتاج إليه ... ولعل هذه القطعة من النقود تجلب له الحظ، وأنا سعيدة
إذا أسديت للسيد بنسفاجنر هذا الجميل، فنحن صديقان قديمان "
وذهبا معا إلى حجرة السيدة "اليزابيث"، فقدمت القهوة لضيفها، وكان " السيد
بنسفاجنر" قد أحضر كعكة ، هكذا تحولت المناسبة إلى حفل تعميد حقيقي . وبعد أن
فرغوا من الطعام والشراب ، وكان الطفل قد خلد إلى النوم منذ أمد بعيد ، قال
الشيخ العجوز على استحياء : " الآن وقد أصبحت إشبين أغسطس الصغير ، كنت أحب
أن أهدي إليه قصر ملك ، وأن أنفحه كيسا مليئا بالقطع الذهبية ، إلا أن هذه
أشياء لا أملكها ، ولا يسعني إلا أن أضيف قطعة فضية إلى القطعة التي جادت بها
جارتنا ، وعلى كل حال ، ما أستطيع أن أفعله له ، سأفعله ، وليس من شك أنك
أردت لابنك الصغير ما تشتهيه الأم من أشياء جميلة رائعة . والآن ، فكري جيدا
في الشيء الذي يبدو لك أفضل ما تشتهينه له ، وسأدبر الأمر ؛ لكي يتحقق ما
تشتهين. لديك أمنية واحدة لطفلك أيا كانت ، أمنية واحدة فحسب ، أمعني الفكر .
وفي هذا المساء ، عندما تسمعين الموسيقى من صندوقي ، اهمسي بأمنيتك في الأذن
اليسرى لطفلك الصغير ، وستتحقق الأمنية ."
وما كاد ينتهي من قوله ، حتى خرج مغادرا الحجرة تصحبه الجارة العجوز ، تاركين
السيدة اليزابيث في حالة من الذهول . ولولا أنها أبصرت قطعتي النقود في المهد
والكعكة على المائدة ، لظنت أن الأمر لا يعدو أن يكون حلما . جلست إلى جوار
المهد ، وهي تهز طفلها ، على حين استغرقت في التأمل واستعراض كثير من
الأمنيات الجميلة . وخطر لها لأول وهلة أن تجعله غنيا وسيما ، ثم خطر لها أن
تجعله قويا قوة خارقة ، ثم لماحا ، ذكيا ، ولكنها شعرت في كل اختيار بشيء من
التردد ، وانتهت أخيرا إلى أن هذا كله لا يعدو أن يكون مزاحا أراد العجوز أن
يداعبها به .
وساد الظلام فعلا ، وكاد النعاس يغلبها وهي جالسة بجوار المهد ، فقد أنهكها
التعب على إثر قيامها بدور المضيفة ، ومن متاعبها ، وتفكيرها في تلك الأمنيات
الكثيرة . وفجأة تناهت إليها من الباب المجاور ، موسيقى لطيفة ، أجمل وأرق من
أية ألحان يمكن أن تنبعث من صندوق موسيقى . وأجفلت السيدة "اليزابيث" عند
سماعها ذلك الصوت ، وتذكرت . وآمنت الآن مرة أخرى بجارها "السيد بنسفاجنر"
وبهديته بوصفه إشبينا ، ولكنها كلما أمعنت الفكر ، واشتدت رغبتها في أن تستقر
على أمنية ، اشتد عقلها حيرة ، وعجزت عن اختيار أي شيء .
وجدت نفسها في كرب شديد ، فانسكبت الدموع من عينيها ، وهناك ازدادت الموسيقى
نعومة وخفوتا ، وأدركت أنها إن لم تبد أمنيتها في تلك اللحظة فقد يفوت الأوان
.
تنهدت بصوت مرتفع ، وانحنت على الطفل ، وهمست في أذنه اليسرى : ابني الصغير ،
أتمنى لك - وكلما ازدادت الموسيقى خفوتا استبد بها الفزع 0 فقالت مسرعة :
"أتمنى لك أن يحبك كل إنسان" .
هرمان هسة