قصة اللجنة العسكرية للبعث السوري ( 4 / 4 )
د. كمال خلف الطويل : ( كلنا شركاء)
كانت موسكو شديدة الرضا عن تغيير شباط وصعود النيو-بعث وذلك لسببين: أن تجد حليفا إقليميا على يسار عبد الناصر لتبتزه به وتكسر احتكار البوابة عبره وأن ترى في هذا الحليف ميسرا لنشاط - ولو غير رسمي - لحزبها الشيوعي المحلي. بالمقابل كان عبد الناصر يرى أن فوائد انتصار النيو-بعث تفوق بقاء البعث القديم فهم في نهاية المطاف قليلو خبرة ويحتاجون لظهير إقليمي يرضى بهم وعليهم وسط جو العزلة الداخلي شعبيا والعداوة الإقليمية من دول الجوار والإقليم وبالتالي فهو يستطيع التأثير على إيقاعهم ومسلكهم ودون مظنات الماضي الأليم مع أسلافهم. أما بالنسبة لعراق عارف فالأمر عنده سيان فالبعث لديه بعث وهو كاره له بالجملة فيما شعر بومدين - المنقلب على بن بللا الناصري الهوى - أن صلاح جديد أقرب إليه ممن سبقوه خصوصا وأن ثلاثة من رجاله المدنيين (الأتاسي وزعين وماخوس) سبق وأن خدموا أطباء في صفوف جيش التحرير الوطني خلال حرب الاستقلال. وسرعان ما وصل كوسيجن رئيس الوزراء السوفيتي إلى القاهرة في مايو 1966 ليصارح عبد الناصر بأن موسكو تطلب منه أن يكون ظهير نظام دمشق وحاميه وفي ذات الوقت ملطف غلوه وضابط أفعاله. ثم استقبل بعد عودته لموسكو رئيس الوزراء السوري الجديد يوسف زعين ليعقد معه اتفاق بناء سد الفرات رمزا للصداقة الدافئة والمتصاعدة بين الاتحاد السوفيتي وسوريا النيو-بعث. قامت القيادة القطرية المؤقتة بإعادة تنظيم الحزب ليتطهر من آثار عفلق ثم مدت آفاقها عبر الساحة العربية سعيا وراء إنشاء تنظيم جديد يدين لها بالولاء. والثابت أن المشهد الحزبي خارج سوريا كان مختمرا ليتفاعل مع هذا السعي إذ ما لبث البعث الجديد في العراق وأن طغى بما لا يقاس على بقايا البعث القديم مالئا صفوفه بالألوف من المثقفين والعمال والكسبة مع بعض امتداد فلاحي وأصغر منه عسكري لدرجة أن ما اصطلح على تسميته بعث اليسار أصبح هو الرائج بامتياز. كان من نجومه العقيد عبد الكريم نصرت (أحد رموز انقلاب البعث الأول/63) وفؤاد شاكر مصطفى وعمار الراوي وسلمان العبد الله ومحمود الحمصي وأحمد العزاوي وباقر ياسين وغيرهم. إنشق الحزب عموديا في لبنان والأردن/فلسطين والجزيرة/الخليج واليمن وبالتالي استطاع صلاح جديد من موقعه في دمشق أن يستند إلى تنظيم قومي الامتداد في صراعه على الشرعية الحزبية ولم يعد منشقا سوريا برر لنفسه اللجوء للغة السلاح عاصيا قيادته.
كانت تلك أيام اليسار بكل تلاوينه وبالأخص منها الطفولية Infantile وهو ما سبب أن يحاول من اتهم باليمين في هكذا انشقاق أن يبرهن على جدارته اليسارية بالمزيد من المغالاة وهكذا دواليك. بالمقابل حاول أنصار عفلق تجميع أنفسهم عبر عامي 66 و 67 لكنهم كانوا إلى أفول لولا الهزيمة المنكرة التي وقعت في حزيران 67.
كيف وصل النيو-بعث إلى أعتاب الهزيمة وكيف تصرف عشيتها وغداتها ولسنوات أربع؟
كانت الشهور الأولى من حكم النيو-بعث حافلة بمهام تصليب قواعد وارتكازات النظام الجديد خصوصا وأنه حمل في تلافيفه نويات صراع تناحري تمثلت في حرد ثم تململ ثم تمرد قياداته الدرزية. والحاصل أن البداية كانت في حلب حين فشل وزير الدفاع المقال من قبل عفلق وعهده القصير والمزكى من قبل جديد في أيلول الفائت أي حمد عبيد في تأمين ولاء قوات المنطقة الشمالية للانقلاب مما أدى لنشوب معارك بين القوات التابعة للطرفين حسمها انحياز المقدم ناصر ناصر قائد أحد الألوية المدرعة لجديد. لكن مشكلة المشاكل كانت في أحد أهم صناع الإنقلاب وقائد قوة المغاوير المرابطة في قابون دمشق والحامية لمبنى الإذاعة والتلفزيون القريب من الأركان العامة .. سليم حاطوم. هنا تصح العودة إلى صيف 65 بعض الشيء إذ شهد وبعد تسوية مايو بين القوميين والقطريين عودة الطرفين للعبة عض الأصابع والمناورة وتحسين المواقع مما أوصل القيادة القطرية المنتخبة في مارس إلى الاستقالة واستدعاء المؤتمر القطري لانعقاد استثنائي في أغسطس. في هذا الانعقاد انتخبت قيادة قطرية جديدة رجح فيها أيضا بشكل مهيمن القطريون وحلفاؤهم العسكريون ودخلها بينهم سليم حاطوم تثمينا منهم لدوره المعزز لهم خصوصا بعد أن نقل البارودة من كتف أمين الحافظ إلى كتف صلاح جديد قبلها بشهور.
كان ذلك الانتخاب إغراءً له باجتياز نقطة العودة في الانحياز خصوصا وأن جديد يعرف منذ ربيع 65 أن الأمور لا بد واصلة إلى الصدام المسلح مع الحافظ وأن حاطوم بيضة قبان مؤثرة ولا بد من اكتسابها وبحرص. وبعد أن أنجز حاطوم دوره المطلوب وبدموية ملحوظة واجه تنكر جديد له مجسدا في عدم إعادة انتخابه عضوا في القيادة القطرية المؤقتة التي انتخبها مؤتمر قطري استثنائي جديد عقد في مارس 66 بعد نجاح الانقلاب. والثابت أن تلك كانت لطمة شكلت نقطة تحول في موقف حاطوم مما جرى ويجري.
بدأ حاطوم في تكتيل مؤيدين حوله وبالأخص من الضباط الدروز ومن أهمهم العقيد طلال أبو عسلي عضو اللجنة العسكرية وقائد الجبهة. في ذات الحين كان منيف الرزاز الأمين القومي المقال متخفيا في دمشق ناسجا خيوطا كثيرة مع ضباط بعثيين يدينون بالولاء للقيادة القومية وعلى رأسهم اللواء فهد الشاعر ومعه شريف سعود وعلي سلطان ومجلي العقيد وإسماعيل هلال وعلي الضماد وحسين زيدان وشريف الشاقي وعبده الديري. اشترط الشاعر علي الرزاز ألا يضم التنظيم العسكري السري أي ضابط علوي وذلك لضرورات أمن التنظيم. ورغم أن الرزاز وافق على الشرط إلا أنه حافظ على خيط اتصال مع أحد ضباط إنقلاب شباط هو المقدم علي مصطفى القريب الصلة بحافظ أسد. لماذا فعل الرزاز ذلك؟ لمعرفته الوثيقة أن عضو القيادة القومية حافظ أسد انحاز - بعد تردد طويل - إلى صلاح جديد فقط لكرهه الشديد لأمين الحافظ وليس ولاء حاسما لجديد بل وأن له كتلته الخاصة التي لم تقتصر على طيارين (مثل محمود عزام ومصباح الصمصام وناجي جميل وأحمد عنتر ومحمد الخولي وحسن قعقع) بل وامتدت إلى القوات البرية.
عرف الرزاز أيضا أن موقف حافظ أسد عشية 23 شباط/فبراير كان مهما - إن لم يكن حاسما - في ترجيح كفة جديد عسكريا وأن حسمه موقفه كان بالضرورة وليس بالرغبة. من هنا راهن الرزاز على استجلاب أسد شيئا فشيئا إلى تنظيمه ليكون حصان طروادة من داخل النظام الإنقلابي. والثابت أن محاولة الرزاز لم تفلح كثيرا رغم أن أسد لم يوصد الباب أمام الاتصال غير المباشر خصوصا وأن تنظيم الشاعر الموالي للرزاز انهار كخيوط العنكبوت في أغسطس 66 عبر خيانة أحد أعضائه إسماعيل هلال وتبليغه عبد الكريم الجندي مدير المخابرات العامة - الجهاز المستحدث حينها - عن الترتيبات السرية للتنظيم. أين محل حاطوم من إعراب هذه القصة؟ عرف حاطوم بتنظيم الشاعر بعد فترة من نشوئه وقام بالاتصال بالأخير عارضا التعاون بين التنظيمين وطي صفحة الماضي - القريب - والائتلاف للإطاحة بجديد ونظامه الوليد.
وافق الرزاز على التعاون لكن وشاية هلال وتساقط تنظيم الشاعر أربكا حاطوم بشدة لشعوره بأنه انكشف أمام جديد متواطئا ومتآمرا. لهذا السبب وجدناه يسارع في 8 أيلول لتفجير الموقف عبر اعتقال نور الدين الأتاسي وصلاح جديد وإبراهيم العلي أثناء زيارتهم للسويداء لبحث الموقف الحزبي هناك إثر تمرد الفرع على القيادة مطالبا بعودة المنشقين - وغالبيتهم دروز - لصفوف الحزب مدفوعين من حاطوم ومؤيدين. هنا كان بيضة القبان ثانية حافظ أسد الذي ومن موقعه في الأركان اتصل بحاطوم وهدده بضربه جوا وبرا (اللواء 70 المدرع) إن لم يطلق سراح أسراه على الفور وهو ما فعله وفر على أثره إلى الأردن ضيفا على هاشميي عمان.
مثير هنا ذكر أن مساعد حاطوم العقيد طلال أبو عسلي فرّ من عمان إلى بيروت ومن ثم القاهرة في ديسمبر 66 ليعلن أن انقلاب حاطوم الفاشل كان مرعيا من أجهزة مخابرات غربية (أمريكية و/أو بريطانية). السؤال هنا هل هذا موثق وهل الرزاز ضالع أيضا وهل صحيح أن أسد شجع حاطوم على التمرد واعدا إياه بالمساندة لينقلب عليه ويرسله هائما على وجهه إلى الأردن طريدا لاجئا وليضحي المنقذ لصلاح جديد والدائن له بحياته؟ يرجح عندي إلى أن يثبت العكس أن هذه كلها أقاصيص خصوم ضد بعضهم فلا الرزاز ولا حاطوم تحالفا مع المخابرات المركزية الأميركية أو المخابرات البريطانية M16 ولا أسد حض حاطوم على التمرد. المهم أنه بعد تصفية حاطوم تركز الثقل العسكري البعثي في الضباط العلويين وهم الأكثر عددا وكذلك بعض الضباط الإسماعيليين والبعض من السنة والمسيحيين والقليل من الدروز. والشاهد أن الضباط السنة ومنذ 1957 دخلوا في طور لامتناه من التآكل والانكماش العددي بفعل شروخاتهم وصراعاتهم المستمرة ... قومي مقابل يميني ... قومي مقابل شيوعي ... قومي مقابل انفصالي ... ناصري مقابل بعثي ... اشتراكي مقابل الجميع ... بعثي يميني مقابل بعثي يساري وهكذا دواليك. وفي داخل جسم البعث العسكري فلقد كان لانقلاب شباط وتصفية تنظيم الشاعر عام 66 فعل الكارثة على عدد الضباط السنة ثم أيضا على عدد الضباط الأكفاء في العموم. شكلت التصفيات المتلاحقة داخل جسم السلك العسكري عاملا مضعفا لكفاءة الجيش السوري والتي كانت قد وصلت خلال سني الوحدة مع مصر - رغم كل مثالبها الشديدة - إلى درجة مطمئنة بعد عقد من الضعف البنيوي الشديد تلا هزيمة حرب فلسطين. المهم أنه ما إن أوشكت سنة 67 على الدخول إلا وكانت الحالة القتالية والجهوزية للجيش السوري في أسوأ مقام. بالمقابل وما إن تمكن صلاح جديد من السلطة إلا وبدأ في تصعيد خطاب المواجهة مع إسرائيل. بدأ ذلك في ربيع وصيف 66 عبر تصدي الطيران السوري لغارات الطيران الإسرائيلي على مواقع تحويل روافد نهر الأردن السورية. لفت ذلك نظر عبد الناصر الذي رد بعرضه إتفاق دفاع مشترك على نظام جديد في خطابه يوم 22 تموز/يوليو 66 والذي سبق أن قدمه محمود رياض في زيارته لدمشق ذات الشهر. لنتذكر أن عبد الناصر أثبت هنا أنه مستجيب لدعوة كوسيجن له قبل شهرين بحماية جديد ولجمه في آن. في ربيع 66 دخل النيو-بعث في صراع شرس مع حركة فتح في محاولة للسيطرة عليها من الداخل عبر دمج عسكريي البعث الفلسطينيين في مرا تبها القيادية والذي قاومته الحركة لدرجة تصفية يوسف عرابي بالنار في إحدى شقق دمشق. أدى ذلك لسجن عبد الرؤوف عرفات القدوة وخليل الوزير لحوالي الشهرين قبل أن تصفى الأزمة وتعود العلاقة إلى بعض الطبيعية. سبب هذا الصراع قرارا للمؤتمر القومي للنيو-بعث في أكتوبر 66 بإنشاء منظمته المستقلة للعمل الفدائي الفلسطيني باسم الصاعقة وبتبنيه لمقولة حرب التحرير الشعبية.
أثارت هذه القرارات قلق عبد الناصر الذي أحسى أنه إن لم يضبط إيقاع صلاح جديد فإن نزعته المغامرة ستصل بالتوتر في المنطقة إلى حافة الانفجار وفي وقت غير ملائم لعبد الناصر بالمرة خصوصا وأن لديه 8 ألوية تقاتل في اليمن ولواءا تاسعا لحماية النظام القومي في العراق. والشاهد أن قرار صلاح جديد بالتصعيد مع إسرائيل غرائبي الطابع فهو يعلم - بل وكل مواطن عادي يعلم - أن جيشه في الدرك الأسفل وأن جيش عبد الناصر منشغل في ساحة أخرى وبعيدة وأن الجيش الهاشمي خارج المعادلة وأن الجيش العراقي مستنزف على يد أكراد الشمال .. إذن علامَ تعتمد في تصعيدك؟ الظن أنه كان يغلّب فوائد التصعيد على سوءاته بوهم أن ذلك سيضفي الشرعية الشعبية العربية على النيو-بعث وسيرتقي به إلى مصاف عبد الناصر منافسا له وندا وأن الرد الإسرائيلي لن يتخطى ما جرى أعوام 64-66 أي القصف المدفعي والجوي لمواقع بؤرية وللمنطقة المجردة من السلاح ذلك أن قرارا إسرائيليا بالحرب الشاملة لا بد له من موافقة أمريكية وهي في الأرجح مشلة بالتأييد السوفياتي الداعم لدمشق. على هذه الأوتار لعب صلاح جديد محاطا بأركان نظامه الأساسيين:
حافظ أسد وزير الدفاع وقائد الطيران .. عبد الكريم الجندي مدير المخابرات العامة .. أحمد سويداني رئيس الأركان العامة .. أحمد المير قائد الجبهة. وهم جميعا ومعهم رباح الطويل ما بقي من هيكل اللجنة العسكرية بالقياس مع العدد الواسع الذي وصلته عام 63. في نوفمبر 66 زار القاهرة رئيس الوزراء يوسف زعين ومعه وزير الخارجية إبراهيم ماخوس ورئيس الأركان أحمد سويداني وقرأ عبد الناصر عليهم ولساعات طوال مزامير التهدئة والتعقل والحسابات الباردة وموازين القوة والتفريق بين فيتنام وفلسطين إلخ. والتي وضح أنها وقعت على آذان مسدودة. عرض عبد الناصر توقيع اتفاق الدفاع المشترك كرمز لدعمه لنظام دمشق في وجه مؤامرات هاشميي عمان عليه وكرمز لإسناده له في وجه تصعيد إسرائيلي شامل ولكن مقابل أن تنتظم خطوات دمشق وفق أيقاع القاهرة. وكما الحال بين حليفين اضطراريين أحدهما أميل للتعقل والآخر للتهور فإن من يضبط الإيقاع في النهاية هو الأكثر صخبا وانفعالا. وليس العكس.
في يناير 67 عادت عمليات فتح المنطلقة من الجولان للتواتر رغم أن غارة السموع الإسرائيلية في نوفمبر 66 أظهرت كم الخيط رفيع بين الأزمة و ... الحرب. سافر صلاح جديد إلى موسكو في يناير واستقبل استقبال المحظيين مما أشهر مكانته لديها مستعيدا بعض ملامح مكانة عبد الكريم قاسم عندها 58-63. لم يسمع جديد حينها كلاما مهدئا من بريجنيف بخصوص سياسته الفلسطينية. في ذات الوقت كان عبد الكريم الجندي يسمح لنفسه من موقعه كمدير للمخابرات العامة باللجوء إلى سلاح أبعد ما يكون عن القومية وهو دعم التمرد الكردي المسلح في العراق. كان البرازاني والبزاز (رئيس الوزراء القومي المعتدل) قد وقعا اتفاق 29 حزيران/تموز 66 لحل المشكلة الكردية والذي اعترض عليه إبراهيم أحمد وصهره جلال الطالباني (كانا قد انشقا عن البرازاني عام 64). دخل الجندي على الخط محتضنا الطالباني لاستخدامه ورقة تستنزف النظام القومي الضعيف في بغداد آملا بتساقطه في أحضان بعث - اليسار .. امتداد النيو-بعث السوري. (امتدت هذه السياسة منذ 66 وحتى 2003 مع الأسف).
كان يوم 7 نيسان/أبريل 67 يوما فاصلا في مسيرة نظام دمشق نحو الحرب. اخترقت أسراب الطيران الاسرائيلي سماء دمشق في العيد العشرين للبعث ناصبة فخا محكما للطيران السوري المتصدي ومسقطه 6 طائرات منه فوق العاصمة وعلى مرآى ومسمع من المواطنين. الرسالة واضحة .. الآن الإهانة .. ولاحقا الاجتياح. سارع عبد الناصر بإرسال قائد القوات الجوية المصرية الفريق أول صدقي محمود إلى دمشق عارضا تسلم مصر قاعدتين جويتين جنوب سوريا لتستعملها في حماية الأجواء السورية، فرفضت دمشق الطلب خشية من استغلال عبد الناصر لهذا الوجود لصالح أنصاره الناصريين. لم يكن هذا الرفض جديدا بل متواصلا منذ 64 وبدء مؤتمرات القمة العربية. أمل عبد الناصر أن يستوعب صلاح جديد درس لطمة 7 نيسان رغم امتعاضه من النقد المبطن الذي أعلنته دمشق نحوه. لكنه في ذات الحين شعر أن السموع/نوفمبر 66 ودمشق/أبريل 67 لا تحتمل ثالثة تهز مكانته كقائد للأمة العربية ولحركة القومية العربية وكرئيس لمصر ثم قبل هذا كله وبعده تجعل من العالم العربي مكسر عصا لاستراتيجية الردع الإسرائيلية المؤيدة بل والمحمّسة أمريكيا.
لقد ولدت حرب 67 من رحم السموع/دمشق إذ اعتملت في نفس عبد الناصر غداة 7 نيسان/أبريل عزيمة قلب المائدة وخلط الأوراق وإعادة التوازن لمعادلة الصراع في المنطقة والتي اختلت كثيرا بعد 64. والثابت أن الرجل في حساباته المجراة للموقف اعتقد بيقين أن تحريكه للموقف بشكل فاعل ومتصدي لن يجر عليه في أسوأ الأحوال إلا خوض معركة دفاعية ناجحة في صحن سيناء قبل أن يهرع القطبين الأعظم إلى وقف النار قبل اتساع الفتق على الراتق. وبهذا كله كان عبد الناصر يشعر أنه يعيد امتلاك زمام المبادأة الاستراتيجية في الإقليم .. يوقف العداء الأمريكي عند حدوده .. يلجم نظرية الردع الإسرائيلية .. يوفر غطاءً لانسحاب مشرف من اليمن مع الحفاظ على جمهوريته .. يعيد النيو-بعث إلى حجمة الطبيعي .. الصغير .. يحرم الرجعية العربية من أوكسجين البقاء .. يُشعر السوفياتي أنه صاحب القرار وأنهم اصدقاء وليس مشاريع هيمنة .. يؤكد ويؤبد زعامته المحلية والعربية والعالمية .. ويعزز أوراق التعامل مع المؤسسات الغربية المالية. كان صلاح جديد لاه عما يدور في عقل عبد الناصر والذي يصلح خطابه في 2 أيار/مايو/عيد العمال لتبين نبرة التحدي الفائض فيه لواشنطن وكأنه يوشك على التصريح بأنه مقبل على أمر ما جلل ذلك أن السكوت لا يستدر إلا المهانة.
والشاهد أن حسابات عبد الناصر كانت متوقعة لدى واشنطن وتل أبيب مع فارق ثقتهم التامة بأن هزيمة جيشه محتمة وهم لذلك رفعوا وتيرة التصعيد بإطلاق ليفي أشكول رئيس الوزراء وأسحق رابين رئيس الأركان تهديداتهما بغزو دمشق يومي 11 و 12 أيار/مايو. وما إن صدرت تلك التصريحات إلا وكان عبد الناصر يهرع إلى إعلان حالة التأهب القصوى في جيشه وينقل 5 فرق إلى سيناء تحت عنوان ردع إسرائيل عن مهاجمة سورية ويطلب إعادة توزيع قوات الطوارئ الدولية لتنسحب من خط رفح - إيلات. ليس هنا مجال الحديث عن حرب 67 فلقد تم التعرض لها في ورقتي مقدمات 67 والتآمر والخيانة/أحاجي 67. لكن ما هو مهم في معرض علاقة سورية بتلك الحرب تبيان كم تملكت الدهشة حكام دمشق من تحرك عبد الناصر المفاجئ وكم أخذوا على حين غرة.
في اليوم التالي لقرار عبد الناصر بالتحرك - 13 أيار/مايو - أوفد الفريق أول محمد فوزي رئيس الأركان المصري لدمشق للتثبت من معلومات سوفياتية وصلت لعبد الناصر بشكل طازج مفادها أن غزوا إسرائيليا لدمشق سيبدأ يوم 17 أيار/مايو بقوة 3 فرق ولمحاولة التنسيق بين الجيشين وفق معاهدة الدفاع المشترك ذات الشهور الست من العمر. واضح أن التثبت من المعلومة من عدمه سيان في فكر عبد الناصر الذي استقر على ضرورة التقدم لامتلاك زمام المبادأة ووقف الخصم الأمريكي - الإسرائيلي عند حده في مخاطرة ظنها محسوبة. لذلك وجدنا أن تأكيد حافظ أسد وأحمد سويداني للفريق فوزي بعدم وجود هكذا حشود إسرائيلية أمامهم لم يغير أو يبدل في قرار عبد الناصر بالتحرك. سارع صلاح جديد بعد سفر فوزي بإرسال وزير خارجيته الموثوق إبراهيم ماخوس للقاء عبد الناصر واستكشاف آفاق تحركه و نواظمه ومحدداته فوجده قد قرر المزيد من التصعيد بإغلاق خليج العقبة على خلفية تأكيد المشير عامر له بقدرة قوات مصر المسلحة على خوض معركة واسعة مع إسرائيل رغم وجود ما يزيد عن فرقتين في اليمن. وكعادة عبد الناصر في المفاصل الاستراتيجية الحاسمة كان شحيحا في كشف أوراقه ومتواضعا في مطالبه. أراد من دمشق الاستعداد الدفاعي والانتظار وطمأن مبعوثها بحقيقة أن حشود إسرائيل هي الآن أمام سيناء وليس الجولان وأنه يخوض مواجهة سياسية واسعة بهامش مناورة فسيح وما عليكم إلا ترقب التطورات بحذر. لم ترتح بقايا اللجنة العسكرية / القيادة القطرية لتصاعد الحوادث من حولها وهي في دور المتلقي وليس الفاعل فأوفدت رئيس الدولة الإسمي نور الدين الأتاسي إلى موسكو وفي ذات الحين رئيس الوزراء يوسف زعين إلى القاهرة لمزيد من التطمينات وهي العارفة بضحالة مواردها القتالية وسوء جاهزيتها لحرب حقيقية شاملة. خلال تلك الأيام الحاسمة من أواخر مايو رتبت المخابرات السورية عملية تفجير في الرمثا الأردنية كرسالة تحذير لنظيرتها الأردنية على ما تدبره من ترتيبات ضد نظام دمشق مستخدمة جماعة حاطوم الفارة ورد حسين عمان بقطع العلاقات الدبلوماسية مع دمشق. واللافت هنا هو أن عزلة نظام دمشق كانت مستحكمة فحتى مع نظام بغداد القومي -سكر خفيف أوصل العلاقة معه إلى درجة من النفور غير مسبوقة عبر تصعيد نزاعه مع شركة نفط العراق السورية على توزيع الريع وحصة الدولة السورية منه مما أفضى إلى وقف مرور النفط العراقي عبر خط بانياس السوري لما يزيد عن شهور أربعة أوصلت خزانة العراق ل درجة من النضوب محرجة ودونما أي تنسيق مع بلد المنشأ العراق. في ذات الحين تمنع نظام دمشق عن قبول قوات عراقية على أراضيه تحت نفس الحجة المستخدمة مع المصريين وهي قدرته الذاتية على الدفاع من أراضيه وأجوائه وتخوفه من تأثير هكذا وجود على أمنه السياسي. يوم 30 أيار/مايو وصل الملك حسين إلى القاهرة في تكرار مذهل لحكاية رسائل رمضان الاستغفارية في ربيع 61 تمهيدا لدوره البارز في مؤامرة الانفصال السوري بعدها بشهور ستة. أتى الملك مستغفرا متوددا واعدا ومرددا نشيد الانقياد والطاعة أمام الكبير ولدرجة قبول دخول قوات عراقية لأراضيه إضافة لوحدات مصرية من الصاعقة والدفاع الجوي. هنا أيضا أحس قادة النيو-بعث السوري بأنهم آخر من يعلم وبأن المياه تجري من تحتهم دون حسبان لهم من أحد. حاول عبد الناصر طمأنتهم بأن أوفد إليهم يوم 1 حزيران/يونيو نائبه زكريا محي الدين مصحوبا بأمين هويدي وحسن الخولي والفريق عبد المنعم رياض. بث قادة دمشق لواعجهم لزكريا مستذكرين عدم دقة حكاية الحشود وخطوات التصعيد غير المعروفة لهم إلا من الأخبار وأخيرا التنسيق مع عدوهم اللدود في عمان والذي يتربص بهم الدوائر. قال لهم زكريا بأن نسبة احتمال الحرب هي الآن 80% وعليهم تلقي الضربة الأولى وامتصاصها باقتدار ثم تنسيق الخطوات التالية مع القاهرة.
ذات اليوم كان موشي ديان قد عُين وزيرا للدفاع في إسرائيل وبتعيينه وصل احتمال الحرب إلى 100% خصوصا وأن القوات العراقية بدأت في دخول الأردن وهو أمر يعتبر في عرف صانع القرار الإسرائيلي من مسببات الحرب القاطعة كما الحال مع إغلاق خليج العقبة أو باب المندب. ها نحن الآن صبيحة 5 حزيران/يونيو .. ماذا جرى في سوريا يومها وفي الأيام التالية؟ كان لدى سوريا حينها قرابة المائة مقاتلة وقاذفة يطير عليها ما لا يزيد عن 60 طيار عامل وكما كان الحال في القاهرة ذاك الصباح المشؤوم فإن هذه الطائرات كانت مكشوفة في العراء على الأرض تنتظر انقضاض العدو لتدميرها. لكن المفارقة هي أن هذا الانقضاض لم يبدأ في التاسعة إلا ربع صباحا - كالقاهرة - وإنما ما بعد الثانية عشر ظهرا أي مع اقتراب الهجوم الجوي الشامل على مصر من الانتهاء وبالتالي فلقد كان أمام حافظ أسد قائد الطيران السوري فترة إنذار تفوق عن ثلاث ساعات لإبقاء طائراته في السماء كمظلة جوية جاهزة للاشتباك مع المغير أو تهريبها بالجملة إلى مطارات العراق أو الانقضاض بها - وطيران إسرائيل منشغل بالصيد المصري الأثمن - على قواعد الشمال الإسرائيلي الجوية وأهداف استراتيجية أخرى هناك. الذي حدث هو أن الطائرات كانت بطات قابعة منتظرة للتدمير وفي هذا فلقد كنت شاهد عيان صعد إلى سطح منزله بفيلات المزة الغربية ليرى بالمنظار - بل بالعين المجردة - إنقضاض الميراج والميستير على الميج. السوخوي في قاعدة المزة الجوية القريبة. ما الذي جرى بعد ذلك؟ باختصار لا شيء ولا شيء كبيرة. قبعت قوات الجبهة في خنادقها طيلة أيام 5 و 6 و 7 و 8 حزيران/يونيو في حالة سكون تام سوى بضعة قصفات مدفعية لمستوطنات الجليل القريبة على مذهب إبراء الذمة وتسجيل الموقف. ومع نهاية الخميس الثامن من حزيران/يونيو كان قادة النيو- بعث في دمشق يدعون للباري أن تقف المسائل عند حد احتلال سيناء والقطاع والضفة مع تركهم جانبا في حالهم وظنوا أن ذلك هو البلسم المشتق من السم. أي أن عبد الناصر خرج من الساحة حكما بفعل هزيمته المنكرة أما حسين فهو مشهور السيرة وخاسر لباقي فلسطين ولا يبقى في الميدان إلا النيو-بعث سالما غانما ومتأهبا لتصدر الساحة العربية باسم الناجين من الهزيمة. أحلام الظهيرة هذه تلاشت مع صباح الجمعة 9 حزيران/يونيو.
عشية هذا اليوم كان عبد الناصر قد أرسل برقية لأتاسي دمشق يخبره فيها رسميا بخروج مصر من الحرب مهزومة للنخاع وناصحا إياه بالاستمرار في وقفة دفاعية تبتعد عن الاشتباك التعرضي مع المنتصر الإسرائيلي