حين كنت في مركز التيوس، كنت أهمل منهاج اللغة الفرنسية. و قد سبق لي و تحدثت عن قيام إدارة المعهد، و بصفاقة تحسد عليها، باستخدام ذلك لمحاربتي.
كان من عادة حمير مركز التيوس -يعني المسؤولين- أن يقولوا لي:
"طيب يا عمرو حين تذهب لفرنسا كيف ستفعل إن كنت لا تتقن اللغة الفرنسية؟"
و كان من عادتي أن أجيبهم -و بكل غرور و اعتداد بالنفس:
"إن ذهبت لفرنسا فسأتعلم و سأتكلم الفرنسية بأفضل بما لا يقاس من كل طلابكم البغم هؤلاء!"
لشرح مستوى لغتي الفرنسية وقتها: كنت "أتقن" اللغة الفرنسية التي تسمح لي بدراسة الرياضيات، يعني ما لا يتجاوز 200 كلمة و الكتابة فقط بصيغة الحاضر... و كي أزيدكم شرحا فإنني في اليوم الأول من وصولي لفرنسا ذهبت لمحطة القطار المعروفة باسم
Gare de Lyon
في باريس بهدف الذهاب لغرونوبل، كنت أرغب بالحصول على بطاقة قطار، مباشر، لغرونوبل، درجة ثانية. كما تلاحظون القضية تتألف من أربع كلمات: بطاقة، مباشر، غرونوبل، درجة ثانية... للفظ هذه الكلمات احتجت لأكثر من ربع ساعة، و للسخرية فإنني حين وصلت لكلمة "درجة ثانية" فإنني قلت
"Deuxième Degré"
عوضا عن
"Deuxième Classe"
والفرق بينهما أن الثانية تعني درجة ثانية في القطار والأولى تعني (كلاما ملغوما) أو ساخرا.
حصل ما حصل بعد ذلك... و كنت في غرونوبل... فهل صرت أحسن اللغة الفرنسية؟
يمكنني أن اقول و بكل تواضع أنني أتقن اللغة الفرنسية بأفضل من 90% من الشعب الفرنسي، و حتما بأفضل من 99% من الشعب السوري، و بالتأكيد أنا لا أقبل بمقارنة مستوى لغتي الفرنسية بمستوى لغة أي طالب من طلاب مركز التيوس إياه...
فكيف حصل ذلك؟
بكل بساطة: تعلم اللغة يكون بمخالطة البشر: في البارات مع الأصدقاء، و في غرف نوم الصديقات، و لا تعمل لي أفلام!
هذه القصة تكاد تلخص فلسفتي في الحياة: يوم أكون بحاجة لشيء ما فأنا سأحصل عليه. لن أتعب نفسي منذ اليوم بالعمل لأجله، ما لي و له؟ يعني قد لا أحتاجه ابدا! لكن إن حصل ذات يوم و احتجت له، فسأحصل عليه! ذلك أنني أثق بقدراتي و بطاقاتي و أعلم أنني قادر أن أحصل عليه.
سواء كان هذا الشيء هو إتقان اللغة الفرنسية، الحصول على جواز سفر، نيك الشقراوات (أو السمراوات أو ذوات الشعر الأحمر أو غيرهن...) : يوم أرغب بشيء أنا أحصل عليه، لكن قبل ذلك أنا لاااااااااااااااااااااااااااااااااا أتعب نفسي.
لكن هناك نقطة أخرى ألفت النظر إليها:
أنا، عمرو، أطالب بواجباتي قبل أن أؤدي حقوقي. على عكس الشعب السوري الذي لا يحسن إلا النق و المطالبة و يتهرب من واجباته، أنا لا أطالب بأي شيء إلا بتأدية واجباتي.
هنا يحضرني مقطع من رواية كثبان للكاتب الأمريكي الرائع فرانك هيربيرت حيث يقول الكونت فيرنينغ نقلا عن الإمبراطور شدام الرابع (يعني: صدام الرابع) ما يلي:
"يوجد لدى البشرية علم واحد... علم الشكوى!"
نعم... السوريون هم شعب الشكوى و النق، لا يعجبهم العجب و لا الصيام في رجب. تجدهم ينقون، يطالبون، يشتكون، يتكالبون على متع الحياة الدنيا فوا عجب عمرو و واااا عجب العاجبين! أيظن السوري أنه سيأخذ من هذه الحياة إلا قطنة تدحش في طيزه يوم يموت؟ فلم هذا التكالب على الأموال و لم هذه العجلة، و العجلة من الشيطان سبحانه و تعالى؟
حقا أيها السوريون: لقد ألهاكم التكاثر (و ما إليه) حتى زرتم المقابر!
فيما يخصني، أنا، عمرو، أكتفي من متع هذه الحياة الفانية بكتاب ممتع، بكأس عرق أو باستيس، برغيف خبز و بضعة زيتونات، و إن أمكن بصبية حلوة من حين لآخر...
لهذا فإنني حين كنت في سوريا كنت لا أرغب بالمجيء لفرنسا، و تحديدا أنا رفضت أن آتي لفرنسا حين عرض علي ذلك في نهاية سنتي الجامعية الثالثة، حين كان زملائي يتكالبون على الإيفاد... لاك يا عمي مالي و مال فرنسا أنا؟ و بنفس الصيغة: حين وصلت لفرنسا فأنا لست مستعجلا للعودة لسوريا، في حين يتكالب البشر على السياحة و السفر و التنقل: لاك يا عمي مالي و مال كل قصص السياحة هذه؟ أليست كتبي الممتعة بجانبي؟ أليست زجاجة الباستيس مليئة؟ أليست كل صبايا فرنسا و مونروج بتصرفي؟ مالي و للبشر؟
هذه الأفكار يستحيل أن يفهمها أي أهبل (و ملحقاته) ممن يتكالبون على متع الحياة كما لو أنها ستفيدهم بشيء! هذه الأفكار يستحيل أن يفهمها كل نقاق يظن أنه سيخرج من هذه الحياة بغير القطنة التي تحدثنا عنها أعلاه و التي ستدحش في طيزه يوم يموت غير مأسوف عليه! هذه الأفكار يستحيل أن يفهمها كل من لا يفهم أن سعادة الإنسان تأتي من داخله، و أن لذلك شرطان لعن الله الثلاثة:
أولهما أن يكون إنسانا،
و ثانيهما أن يكون هناك شيء ما بداخله، ألا يكون خاويا كالقربة أو كالطبل!
في ما يخصني: انتهى.