لقد توخيت في هذا الكتيب أن أنظر إلى الوضع العربي ككل واحد لفترة الالفي سنة الماضية وحتى لا أدخل في متاهات التاريخ والجغرافية فقد اعتمدت فكرة الحرية عند العرب باعتبارها اضعف الحلقات حتى تسهل عليَّ الحركة والتنقل ضمن الموضوعات المشار إليها أدناه بما يخدم معرفة الخلل الّذي نعاني منه ومقترح علاجه. وقد رأيت أنّ الأساس الاجتماعي للعرب هو: المجتمع القبلي في الجاهلية وصدر الاسلام حتى معركة كربلاء وفي هذا الكتيب ثلاثة فصول هي:
أ- الأساس الاجتماعي ويتألف من:
1- الحرية في العصر الجاهلي 2- الحرية في عهد الرسول 3- الحرية في العصر الراشدي 4-غموض مرحلة ما بعد الرسول حتى معركة كربلاء
ب- أسباب الخلل الاجتماعي: ويتألف من:
1) مرض الأنا 2) غياب المثل الأعلى الاجتماعي للعرب على هذه الأرض (الدولة) 3)الغرباء
ج- تحقيق الدولة: ويتألف من:
1) أسلوب تحقيق الدولة 2)عقيدة الدولة 3)نتيجة هامّة
وإن كنت لم أذكر المراجع فأنا لست بمعرض المحاجة مع أحد وإنما أشير إلى الحادثة لإثارة ما تستحق من الاهتمام والمثير للإستغراب هو أن معظم أسباب النجاح وأسباب الخلل قد دفنتها القرون ومع ذلك لا نزال نعيش اسباب الخلل حتى في حياتنا اليوميّة، بينما أبعدنا من حياتنا أسباب النجاح التي منحتنا الرفعة والتقدم زمناً لا بأس به، تلك الأُسس المضيئة المدفونة في الأعماق لا زالت تشير أن في السماء قمر اسمه المستقبل فمسؤولية إظهارها ووصلها في الزمن الحاضر على الأجيال الحاضرة.
6/9/2001
لقد أنهيت كتابة هذه السطور أعلاه قبل حوادث أيلول في أمريكا بعدة أيام وقد أعلنت أمريكا الحرب على العرب والإسلام بعنوان الإرهاب ولهذا وضعت ما كتبت تحت الاختبار لما يجري على الساحة الأفغانية وكأن ما يجري قد أعدّ سلفاً فالآن هو اليوم السادس عشر من كانون الأول 2001 وقد سقطت آخر معاقل طالبان في تورابورا ولم أر تعديل أية فكرة أوردتها عن الحكام العرب وعلاقتهم بالأنكلوساكسون ويهودهم سوى أني مقصر في تبيان مثالب القوم والإصرار على ما اقترحت من الأفكار وإن الوضع العربي والإسلامي أصبح أكثر سوءاً.
16/12/2001
إنّ الاستنتاج الكبير مما جرى ويجري في أفغانستان والشيشان وفلسطين والبلقان وكما هو قادم لأمكنة أخرى من دنيا العرب والإسلام أن الأنكلوساكسون ويهودهم هو العدو الأول للعرب والإسلام وإن ما حدث ويحدث قد اسقط جميع السياسات القائمة على امتداد الساحة العربية وأدواتها الرسمية وغير الرسمية الدائرة في فلكها في بحر من الخزي والعجز وضعها خارج المنطق والسلوك القومي العربي، إلا أنّ المنطق الإسلامي كان أكثر تعقلاً وواقعيةً والّذي يواجه بحراً من العداء يمثله الحكام العرب على قاعدة دعمٍ غير محدود من الأنكلوساكسون ويهودهم. وهؤلاء قد أخذوا دور الشيطان فعندما يقبل المسلمون غوايتهم كما يحدث في الأماكن المذكورة أعلاه فالأنكلوساكسون ويهودهم يتبرؤون منهم وينقلبون عليهم ويبيدوهم وآسيا الوسطى الآن خير مثال وكذلك الفلسطينيون والعراقيون في حرب الخليج الثانية. 20/4/2002
ولما كان التيار الإسلامي العربي يتبنى برنامجاً كونياً عماده القرآن على مدى أربعة عشر قرناً ونيف فعليه الآن اعتماد برنامج سياسي خاص فيه وليد الأول لسبب بسيط أن التيار المشار إليه لا يملك قيادة الإسلام ولا المسلمين ولا العرب ولا حتى يقود نفسه المجزأة أيضاً. وإني أتمنى علىالتقدميين العرب أن يعيدوا النظر في أفكارهم وطروحاتهم إذ أن العلم التجريبي يثبت يوماً بعد يوم صحة قيم ومبادىء عقيدة الرحمن القرآن أكثر من أية عقيدةٍ شهدها هذا الكوكب الأرضي حتى يومنا هذا، سيّان كانت شيوعية أو رأسمالية وما بينهما حيث لا يمكن تحقيق مبادىء مثل مجتمعنا العربي بدون تعاون جميع القوى فيه مهما كانت تقدميةً أو متدينة إذ لا يمكن لأي منظر عربي أو مصلحٍ اجتماعي أن يضع مشروعاً متكاملاً وصحيحاً للنهوض بالمجتمع العربي وهو يتجاهل المخط الإنشائي الأساس للعقل العربي. والمخطط التنظيمي الأساس للإنسان العربي الذي وضعهما ذلك المهندس العربي العظيم محمد بن عبد الله بموجب أسس ومبادىء عقيدة الرحمن القرآن .
لعلّ في هذه السطور ما يجد فيه الشارع العربي شيئاً يوقظ فيه إحساساً ما كان نائماً لفترة طويلة وحنيناً إلى ماضي دولة أقامتها سواعد الأجداد وضاعت على عتبة خلافات الأبناء حيث مرض الأنا البغيض وقد برز بأبشع صوره في زمننا هذا من هذه الحرب الظالمة التي يشنها الأنكلوساكسون ويهودهم على العراق.
2/4/2003
لقد استمرت التعديلات في الحقيقة المرة مع كتابة ملحقها طيلة الفترة بين عام (2001) ومطلع (2005) وهنا أأكد أني في إيراد النصوص القرآنية لم أدرس حلالاً ولا حراماً ولا أحكاماً ولا فرائض فقط أردت إبراز السياسة الإلهية في القرآن وهي من صميم مجتمع مكة والمدينة نزلت كقرآن حتى لا تضيع حقوق المسلمين مهما طال الزمن وهذه السياسة تقوم على نظرية هي التوحيد وأداة وأسلوب. وألقيت الضوء على دور الأداة وهي ذرية ابراهيم المطهرة من ابراهيم إلى محمد وآله وأستطيع أن أشير هنا إلى اللحظة الزمنية الأولى التي بدء بها مجانبة الصواب عندما اختزل العرب شخصية رجل الحرية الذي كان يمثلها في الجاهلية قصي بن كلاب وذريته من هاشم وفي الاسلام محمد وآله إلى شخصية رجل العدل الذي يمثلها الراشدون، ثم إلى شخصية رجل الظلم الذي يمثلها الحكام الأمويون والعباسيون وما بعدهم إلى يومنا هذا. وثالثاً عندما استبدل الحاكم العربي بحاكمٍ مسلم ورابعاً وهو الأسوأ والأخطر هو تجزئة الدولة إلى اثنتين وعشرين دولة، وبالمناسبة أما كان الأجدر لمن يسمون أنفسهم آيات وعلماء في العراق وغيره أن يتحرّوا عن مصالح المسلمين السياسيّة في الحرية والمواطنة والتعايش في القرآن ويكرّسوا وقتهم في سبيل ذلك بدلاً من أن يضيعوا القرون في البغضاء والجدال حتى يأتي الغريب الأمريكي ليعلمهم وبأكثر الأساليب إذلالاً كيف يتفقوا بالحوار ويحتكموا إلى الشورى وقد أمروا بذلك قبل أن تُخلق دولة هذا الغريب بأكثر من ألف ومائتي سنة خط بياني متراجع لم يتوقف حتى تاريخه. 1*/2/2**5
الحُرية عندَ العرب
العرب أمة واحدة أقامت دولة لمئات من السنين
أ- في الجاهلية: الحرية هي هبة الله لخلقه من بني البشر قال تعالى: وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه أن في ذلك لآيات لقومٍ يتفكّرون /جاثية (13). وتتمثل الحرية بالنسبة للإنسان البدائي بالحركة التي رأى نفسه فيها على هذه الطبيعة وتقتضيها ظروف حياته في الحصول على الطعام أو إيجاد المكان الآمن لإقامته ومنامه ولم يكن هناك حرّيات بالمعنى المتعارف عليه ولكن كان هناك ميادين يمارس فيها الإنسان العربي نشاطه سواء كان فرداً أو جماعة و أهم هذه الميادين هي:
1- مجتمع القبيلة: نظّم العرب أنفسهم على أساسٍ من القبيلة فالمجتمع العربي هو مجتمع قبلي تشكل القبيلة فيه وحدة اجتماعية سياسيّة اقتصادية يقودها ويوجهها رئيسها وذوو الجاه فيها بكل الميادين سلماً أو حرباً، والرئاسة عادةً وراثيّة ورئيس القبيلة مطلق الصلاحيّة، وإن كان الرئيس يستنير بآراء وجوه القبيلة فهي غير ملزمة له يمكن أن يتجاوزها، وليس للفرد في القبيلة من حرّية إلاّ في إطار قيَم وعادات قبيلته فقد تمكّنت القبيلة من ضبط الأنا الفرديّة وكَبح جماحها، وبقيت حرّية الفرد في حركته التي تفرضها طبيعة الحياة الصحراوية التي لم تكن تقدّم للبدوي من طعام سوى نتاج ماشيته التي يرعاها أو الحيوان الّذي يصطاده، فالطعام كان يشكّل العقبة الرئيسيّة للأفراد والجماعات ، يطلبه حيث يجده متنقلاً من مكان لآخر، وإنّ شخصاً لا يهتم إلاّ بطعامه والحفاظ على حياته وحركته وراء صيده وماشيته وكلّها اهتمامات غريزيّة تمجّد الأنا، وأصبحت حرّية الحركة لدى البدوي أهم شيء في حياته فلا يكاد الأعرابي يدخل الحضر حتى يشعر وكأنه في سجن عليه أن يغادر إلى حيث حريته وقائلةٍ:
لَبيتٌ تخفق الأرواح فيه أحبُّ إليَّ من قصرٍ منيفِ
وقد أفرط العرب في التمسك بالحرية الفردية لدرجة تجاوزت الحدّ وأصبحت مرضاً حقيقيّاً يرطم وجوهنا حتّى في أيامنا هذه فما يكاد الفرد يتسلّم مسؤولية أو يحصل على درجة اجتماعيّة معيّنة هيأتها له الظروف، حتى يتمسّك بها تمسّكهُ بروحه ولا يقرّ لأحد بمشاركته إيّاها، بل في أغلب الأحيان يتحوّل إلى مؤذٍ. وحريّة القبيلة واهتماماتها هي حرية واهتمامات الأفراد وإنما على مستوى القبيلة، حيث حريتها طلباً للماء والمرعى وتأمين الطعام والحماية للأفراد والماشية وتزيد عن الفرد بالعلاقات مع القبائل الأخرى.
2- الأحلاف: من الميادين التي تبرز فيها الآراء الأخرى، هي ظاهرة الأحلاف المتعاونة والأحلاف المضادة في الجاهليّة حيث منعت الأحلاف بالإسلام إلاّ ما كان قائماً على العدل، فالحلف يعني التعاقد والتعاهد على التعاضد، وتحالفوا تعني تعاهدوا وعقدوا اتفاقاً وتآخوا على العمل يداً واحدةً، ومنها أن آخى الرسول بين المهاجرين والأنصار أيّ تحالفوا، ومن عادة العرب إذا تحالفوا أن يبسطوا أيمانهم أيّ يؤدوا قسماً فكان أهل مكة عندما يتحالفون يأتون اثنين .. اثنين .. واحد من كل فريق يضعان أيديهما على الرّكن ثم يحلفان بالحرم والرّكن وبأكثر الأشياء قدسيّة لديهم أن يناصروا بعضهم بعضاً على الخلق جميعاً، وكان للحلف نظرة قدسيّة فالحانث بيمينه ينظر إليه بازدراء. وتقام الأحلاف لضرورات الدفاع عن الأرض والمصالح وهناك أحلاف هجوميّة لغزو بقصد النهب أو لصدّ غزو ومنعه من النهب أو الثأر، وهناك أحلاف عقدت لمصالح اقتصاديّة مثل أكثر أحلاف قريش ومنها أحلاف تثبيت نظم وإقرار قوانين وأخذ حقوق وردع ظالم وإنصاف مظلوم كحلف الفضول في مكّه. ومن عادة المتحالفين عند القسَم أن يدخلوا أيديهم في الطيب أو الدّم أو الماء والملح ليتعاقدوا عليه باشتراكهم بشيء واحد وتدوّن بنود التحالف أحياناً لتوكيدها وإيداعها مع أطراف التحالف وتوضع نسخة منها في مكان عام ليراه الناس كالصحيفة التي وضعها المشركون في الكعبة تبيِّن ما اتفق عليه المشركون في مقاطعة بني هاشم، كما دوّنت عَبس وذُبيان في كتاب وأقسموا على اتباع وعمل ما كُتِبَ فيه بعد كتابة أسماء رؤساء القبائل وختمه بخواتيمهم وعلى الأغلب يكون هناك شهود ويشهدون على صحة ما تمَّ التوقيع عليه، وتنتهي مراسم الحلف عادةً بوليمة يشترك في الأكل كل الأطراف الموقّعة على التحالف حتى يتمالحوا حيث وجب عليهم مراعاة الخبز والملح. والأحلاف بنوعيها أحلاف القبائل وأحلاف الأفراد لا تدوم طويلاً ولا سيما أحلاف القبائل لأنها في تنقّل وحركة، و مصالحها وضرورات الحياة عندها متغيّرة غير ثابتة وأحلاف تقوم على مثل هذه الأوضاع لا يمكن أن تعمِّر طويلاً، وخاصّةً إذا تنقلت قبائل الحلف وتباعدت في المكان فتضعف الروابط والصلات والضرورات التي جمعتها، ويستمرّ الحلف ما دامت مصالح وضرورات الأطراف الداخلة فيه قائمة إمّا في حالة لم يعد لطرف أو أكثر مصلحة في الاستمرار بالحلف فينسحب لينضمّ إلى تحالف آخر وهكذا نرى أنّ مجتمع القبائل في حالة تغيّر مستمرّ، فيه أحلاف تتكوّن وأخرى تَنحلّ أو تضعف فلا يبقى من الحلف غير الإسم دون أن يكون هناك تخالع أو تقاتل أو تباغض، ينتهي الحلف لأنّ الظروف التي دعت إلى عقده زالت فلا يبقى إلاّ الذكرى.
3- ظاهرة الخلع: وهي تمثّل ميداناً آخر للرأي السائد والرأي المضاد ويحدث إذا خرج أحدهم عن قيم القبيلة أو أخلّ بواجباته المفروضة عليه فتخلعه القبيلة أو يخلعه أهله لأسباب مشابهة فيسمى حينئذٍ الخليع حيث يسقط عن قبيلته كل التزام بسبب أيّ عمل من أعماله كما أنّ القبيلة لا تطلب تعويضاً عمّا يصيبه ويتم الخلع في المناسبات التي تجمع خلقاً كثيراً كالحج أو سوق عُكاظ وما شابَه ذلك وكان أهل مكّه يكلِّفون منادياً يطوف بأحياء وشعب مكّه يعلن للنّاس خلع أو اسم الشخصيّة المراد خلعها، وقد عاش الخلعاء حياة صعبة وتجمعوا وشكّلوا ما يسمّى بالصعاليك وكان منهم فرسان وشعراء مشهورون أمثال عروة بن الورد وهو شاعر والسليك بن سلكه وكان شاعراً ومن العدّائين وحاجز بن عوف بن الحرث وهو شاعر ومن العدّائين أيضاً وقيس بن الحدادية والشنفرة وتأبط شرّاً وكان أشهرهم وحامل لوائهم عروة بن الورد سيّد الصعاليك. وكان الشعراء في الجاهلية هم أعلام الرأي العام في ذلك الزمن، وأقدر من غيرهم على تبيان الرأيّ وإيراد الحجة على الآخرين ولذا كان الصعاليك أكثر وضوحاً وشرحاً عن ظروفهم وأحوالهم وآرائهم، وسيّدهم عروة بن الورد لم يكن معدماً فقيراً كما يفهم من كلمة صعلوك بل كان يمكنه أن يكون غنياً ممّا كان يحصل عليه في غاراته على الآخرين لكنه فضّل الصعلكة على إكتناز المال ورَجَّحَ إشراك الفقراء فيما يغنمه على جمعه واستئثاره به وحده لأنّ له مروءة تأبى عليه أن ينام شبعاناً وجاره جوعان، فهو صاحب مَذهب إنساني أحسَّ بالألم وأدرك ما أصابه يوم خلعه من أهله من شدّةٍ وضَنك فأراد أن يخفّف من آلام أمثاله من الخلعاء فكان يجمعهم في حظيره ويغزو بهم ويرزقهم مما يغنمه فعروة الصعاليك هذا فلسف الصعلكَة بأن جعلها مثلاً من مُثل الحياة، فكان إذا شكا إليه فتّى من فتيان قومه الفقر أعطاه فرساً وسلاحاً وقال له إن لم تستغنِ بهما فلا أغناك الله، وقد ردَّ على منتقديه ومن يعيره بهزال جسمه يوماً بـ:
و أنت امرؤ عافـى إنـاءك واحـد وأي امرؤ عافى إنائي شركـــة
بجسمي شحوب الحق والحق جاهـد أتهزأ منّي إن سمنت و إن تـــرى
وأحسو قراح الماء والماء بـــارد أفرِّقُ جسمي في جسوم كثـيـرةٍ
وقد كوَّن الصعاليك من مختلف القبائل قوَّة يحسب حسابها حتّى خافهم الناس وتجنّبوا التحرُّشَ بهم قدر إمكانهم ويقال أنّ البعض جاور الصعاليك وردَّ عنهم وأحسنَ إليهم فاستفاد منهم واستفادوا منه.
4- الشعر: ظاهرة ثقافيّة قلّ نظيرها عند العرب قبل الإسلام وميدان واسع للتعبير عن الآراء من مختلف الألوان وفي شتّى الميادين، فالشعر كما يقال ديوان العرب وخزانة حكمتها ومستنبط آدابها ومستودع علومها وكثير من تأريخ حوادثها فكان يقوم مقام الكتابة في ذلك الزمن ويروى عن ابن عبّاس أنه قال: إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله فاطلبوه في الشعر فإنه ديوان العرب وقيل عنه ما فسّر آية من كتاب الله إلاّ نزع فيها بيتاً من الشعر، فالشعراء والخطباء كانوا سواد الرأي العام وأداته على العموم في الجاهلية فهم من أهل المعرفة والثقافة وعلى مستوى عالٍ من الفكر والرأي في فهم الأمور، فالشاعر هو أداة إعلام وتسجيل يعلم القبيلة عن حوادث وقعت كأنه يؤرّخها كذكر المعارك التي وقعت بين العرب والروم (440م) والأشعار التي كان يتغنّى بها العرب يوم ذي قار كما يتغنّون بشعرهم عند غزوهم بعضهم بعضاً أو حتّى عندما يتبارز فارسان يُرجزون بأبيات من الشعر، والشاعر تجده في أكثر القبائل، نادراً ما تجد قبيلة بدون شاعر لأنه الدافع عن قبيلته وساتر عيوبها وموضح ميّزاتها ومثار فخرها فبني أنف الناقة كانوا يتحرّجون من اسمهم حتى امتدحهم الحُطيئة باسمهم فصار مثاراً لفخرهم:
ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
والشاعر هو المهاجم لخصوم قومه ومُربكهم كما حصل لبني نُمير وهم جَمرة من جمرات العرب عندما هجاهم الفرزدق أصبحوا يخجلون من نمير وينتسبون إلى عامر بن صَعصعَة:
فلا كعباً بلغت و لا كلابا فغضَّ الطرفَ إنك من نميرٍ
كما كان بعض الشعراء يأخذ دور السفير لقبيلته لدى الجهات الهامّة كما كان النابغة لدى المناذرة، فالشعراء أهل معرفة وفهم وقد رُويَ عن سعد بن أبي وقّاص في يوم أرماث مثلاً أن قام إلى قادة الكلام من رجال النثر والشعر يدعوهم إلى استخدام سلاحهم في هذه المعارك فكان ممن حضر عنده من الخطباء طليحة وقيس بن هبيرة الأسدي وحُذيفة وغالب وعَمرو بن مَعد يَكرب وابن الهذيل الأسدي وعاصم بن عَمرو وربيع بن البلاد السعدي وربعي بن عامر ومن الشعراء الشماخ والحُطيئة وعبده بن الطيب فقال لهم سعد قوموا في الناس بما يحقّ عليكم و يحقّ عليهم عند مواطن البأس فإنكم من العرب بالمكان الّذي أنتم به وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم، فسيروا بين الناس فذكروهم وحرّضوهم على القتال. ويرى الجاحظ أنّ الشاعر أرفع قَدراً من الخَطيب والعرب إليه أحوَج لردِّه مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيامهم فلما كثر الشعراء والشعر صار الخطيب أعظم قدراً من الشاعر وكان الشعراء يتجمعون عندما تقام الأسواق يتبارون ويتفاخرون، كما يأتي الحكَّام للفصل في المباريات الشعرية، يُروى أنّ النابغة جلسَ يوماً للتَحكيم في سوق عكاظ فأنشده الشاعر حسّان بن ثابت والأعشى ثم أنشده شعراء آخرون ثم جاءت الخَنساء فأنشدته فقال لها النابغة: والله لولا أن أبا بصير الأعشى أنشدني آنفاً لقلت إنك أشعر الجن والإنس فقال حسَّان: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك وجدِّكَ فقبضَ النابغة على يده ثم قال: يا ابن أخي إنك لا تُحسن أن تقول مثل قولي:
وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع فإنك كالليل الّذي هو مُدركي
ثمّ قال للخنساء أنشديه فأنشدته فقال: والله ما رأيت ذات مثانة أشعر منك فقالت له: الخنساء والله ولا ذا خصيتين، كما كانت المعلّقات تملأ الكعبة كما هو معروف، كما يُروى عن وفد تميم عندما قَدِمَ على الرسول صلعم لم يُعلن إسلامه إلاّ بعد مباراة شعريّة وخطابيّة انتهت إلى أنّ خطيب الرسول أخطب من خطيبهم وشاعره أشعر من شاعرهم، فالشاعر كان ولا يزال شخصيّة مرموقة يلجأ القوم إليها قديماً للزود عنهم كما حصل لبني النّجار من الأنصار عندما هجاهم الشاعر النجاشي فشكوا ذلك لحسّان بن ثابت فقال قصيدة في هجائه و هجاء قومه ثمّ قال اكتبوها صكوكاً وألقوها إلى صُبيان الحيِّ لضمان انتشارها فجاء على أثرها الاعتذار.
5- أسواق العرب: وتقام غالباً في الأشهر الحُرم وهي أربعة أشهر ثلاث متتاليات هي: (ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب مضربين جمادى وشعبان) ولكن هناك من القبائل يحرم لثمانية أشهر مثل: غطفان وقيس وبني عامر بن لؤيّ وعوف بن لؤي وليس لأربعة أشهر فحسب، وهناك من يحلُّ كل الأشهر ولا يحرّم منها شيء فكلّها بالنسبة له سواء، يذكر منهم خثعم وطيء وأحياء من قضاعة ويشكر بن الحارث يضاف إليهم الصعاليك وأصحاب التطاول تدفعهم الحاجة ليس لانتهاك الأشهر الحُرُم فَحسب بل حتى سرقة الحُرُم نفسه وهناك جماعات ليسوا من الجاهلية ولا من الإسلام وهم معتنقوا المسيحيّة واليهوديّة فلا يراعون حرمة تلك الأشهر الحرم ومنهم قبائل تغلب وشيبان وعبد القيس وغسّان والعبَّاد وتنوخ وعامله ولخم وجذام وغيرهم وهؤلاء لهم أعيادهم الخاصّة لا يقاتلون فيها إلاّ دفاعاً عن النفس ولهذا كانت الأشهر الحُرُم مناسبة هامّة لإقامة الأسواق حيث الأمان وحرّية الحركة للحج وزيارة الأماكن المقدّسة والاشتراك في الأسواق بغرض التجارة كما كانت تُعقد فيها الإتفاقات والعقود والمعاهدات القبلية والعائلية كما كانت مناسبات يُعلَن فيها عن التبني والخلع ويؤمّها الشعراء والخطباء وأهمهم: قسٌ بن ساعدة الإيّادي والتجار والمبشرون للاتصال بالقبائل وللتأثير في بعض أفرادها لإدخالهم في دينهم كما كان الرسول صلعم يخرج للنّاس في المواسم يدعوهم إلى الإسلام كما يؤمُّها الحكام للفصل بين المتبارين بالشعر والخطابَة والحكّام من نوع آخر للفصل في الخلافات بين الجهات المتخاصمة وأشهرهم الأقرع بن حابس التميمي كما كان يؤمها أشراف العرب ويتوافدون لتلك الأسواق ليحصل كل على سهمه من الربح لكون السوق في بلده، وكما ذكرنا سابقاً فإنّ هناك من الناس من هو على استعداد لانتهاك تلك الأسواق في الأشهر الحُرُم و هؤلاء يُسمّون (المُحلِّون) لأنهم يستحلون المظالم إذا حضروا الأسواق مع أنهم يعلمون أنّ هناك رأياً عاماً يؤيّده معظم العرب يحرِّم القتال أو الاعتداء في تلك الأسواق في الأشهر الحُرُم، ولهذا ظهر قوم من أهل المروءة والمعروف تواصوا بينهم على ردع السَفيه عن سفهه والفاسق عن غوايته ونصّبوا أنفسهم حماة على الأسواق يحملون سلاحهم فيها في أشهر الحلِّ أو أشهر الحُرُم للذود عن الحرمات وعرف هؤلاء بـ(الزادة المحرمون )، كما كان يأتي فُرسان العرب وعلى الغالب مقنّعين حتى لا يُعرَفوا إلاّ أبا سليط (طرفة بن تميم) إذ كان الكثير منهم يتصيّدون فُرص الأخذ بالثأر بعد انتهاء موسم السوق أو الحصول على غنائم بمهاجمة من يرصدونه من التجار ذوي الحمولات الثمينة، إضافة إلى ما ذكر كانت تلك الأسواق للتجارة في كل شيء حتى الإنسان ومن ثمّ البغاء حتى ظهر التشريع الجَديد فحرّمه ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا النور 33 وكانت تلك الأسواق كثيرة ومنتشرة في أماكن متعدّدة من جزيرة العرب وكانت جميعها مخفورة وتدفع أتاوة للقائمين عليها إلاّ سوق عُكاظ فكان أشبه بسوق حُرَّة لكل شيء من السياسة والأدب والتجارة والمحاكمات وإعلانات التبني والخلع وغيرها نظراً لهيمنة قُريش على تلك السوق حيث تريد أن يؤمّها أكبر عدد من الناس والبضائع والحجيج. وبالرغم من وجاهة هذه الميادين المذكورة لم تبلغ الأنا في الجاهلية مستوى أكبر من القبيلة ولم يستطع العرب في جاهليتهم الارتقاء بمستوى أفكارهم وآرائهم إلى الأمة أو القوميّة مع كل الأخطار المحدقة بهم والتي تتآكلهم وتفرض عليهم المَزيد من الحاجة والفقر فالأحباش على الضفة الشرقية للبحر الأحمر وقد وصلت شرورهم إلى مكة كما كان الرومان يحتلون أقاليم في الشمال والفرس من الشرق ومع معرفة العرب الكثير عن أحوال ونظم تلك الدول المحيطة بقيت معظم القبائل العربية على حالها حيث تقف الأنا القبلية حائلاً دون كل تفكير يرتقي عن مستوى القبيلة وقد ارتقت الأنا القبلية بالشكل وليس بالمضمون فقد شكّلت حكومات في الجنوب أمثال حكومة معين وقتبان وكندة والصفويين ولكن على أساس قبلي، فحكومة معين شكّلت حكومات مدن ومجلس استشاري لكل مدينة يدير شؤونها في السلم والحرب وله مكان إقامة معروف يقال له مزود ويمكن أن يكون في المدينة الكبيرة أكثر من مزود واحد يجتمعون فيه لتمضية الوقت وللبت في أمور الناس والفصل في الخلافات وهذه المزاود تشبه دار الندوة عند أهل مكه، كما كانت حكومة معين تسمح بأن يشترك أكثر من شخص بلقب ملك في الحكومة الواحدة، وكان الملك يستشير أقرباءه ورجال الدين وسادات القبائل ورؤساء مجالس المدن ثم يصدرون الأوامر باسم الآلهة.
ومن المكتشفات الأثريّة نقرأ وثيقة طويلة لأحد ملوك قتبان هي حصيلة اجتماعات عديدة لرؤساء القبائل وأعيان المملكة تداولوا فيها الرأي حول استثمار الأرض واقتسامها بين القبائل والعشائر والفلاحين وبعد إقرار النص وقّعه المجتمعون مع ذكر أسماء أسرهم وعشائرهم إشعاراً بالموافقة كما أقرّه أيضاً الكَهنَة وبعدها أصدره الملك وهذا يشبه لحد ما مجلس شيوخ دولة تدمر الذي كان يتمتع بسلطة سنّ القوانين إلاّ أنه كان لتدمر حزبها الوطني التدمري.
وفي نصٍ آخر نقرأ عن عصيان قام به مجموعة من الرجال دخلوا قصر سلحان مقرّ ملك (سبأ ذي ريدان) واعتصموا به حتى قام أوس من قبيلة غيمان بطرد الثائرين من القصر ولاحقهم بعض عشائر غيمان وقضوا عليهم في موقعهم الجديد كومنان دون ذكر الأسباب التي دعت المتمردين أن يثوروا على سيّدهم (ابن الشرح يحضب). وفي رواية عن بكر وائل لما تسافهت وغلبها سفهاؤها وتقطَّعت أرحامها ارتأى رؤساؤهم فقالوا: إنّ سفهاء ناقد غلبوا على أمرنا فأكل القوي الضعيف، فنرى أنّ نملِّك علينا ملكاً نعطيه الشاة والبعير فيأخذ للضعيف من القوي ويردّ للمظلوم من الظالم ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخرون فيفسد ذات بيننا ولكنّا نأتي تُبّعاً فنملكه علينا فأتوه وذكروا له أمرهم فملك عليهم الحارث بن عمرو آكل المرار الكندي.
وفي تطور آخر للأنا القبلية وعلى أساس تنظيمي لمجتمع القبيلة دونما حاجة إلى حكومة أو شرطة أو ملك أو حاكم عسكري أو مدير سجن لضبط الأمن عاشت الحرية فيه ردحاً من الزمن حالة متميّزة من تعاون أسري ولكن في إطار القبيلة وهي قبيلة قريش في مجتمعها الجديد مكه قبل الإسلام وفي أسلوب حياتي مغاير عماده التجارة تجاوزت فيه المنظور العربي إلى المستوى الدولي وخفضت حدَّة ومستوى النـزاعات مع القبائل إلى الحد الأدنى.
6- مُجتمع مكَّة: مع أن قريش ينتهي بالنسب إلى عدنان - اسماعيل - ابراهيم خليل الله إلاّ أن نسب قريش كقبيلة يعود إلى فهر بن مالك، فما دونه قريش وما فوقه عرب مثل كنانة وأسد وغيرها من قبائل مضر، وبالرغم أنّ قريش من كنانة إلاّ أنهم ميّزوا أنفسهم عنهم، ويعود الفضل إلى قصيّ بن كلاب في إسكان أبناء فهر في مكة (الأبطح - الظواهر) وهم في مفرداتهم بيوتات أو أسر فمنهم بنو عبد مناف وبنو عبد الدار وبنو عبد العزى وبنو عبد قصي بن قصي بن كلاب وبنو زهرة بن كلاب وبنو تيم بن مرَّة وبنو مخزوم بن يقظة بن مرّة وبنو سهم وبنو جمح إبنا عمرو بن هصيص بن كعب وبنو عدي بن كعب وبنو حسل بن عامر بن لؤي وبنو هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر وبنو عتيك بن عامر بن لؤي سكنوا بطاح مكه فَسُمّوا قريش البطاح وهم صميم مكه وأشرافها.أما بنو معيص بن عامر بن لؤي- وتيم الأدرم بن غالب بن فهر - والحارث إبنا فهر وعامة بني عامر بن لؤي وغيرهم عُرفوا جميعاً بـ قريش الظواهر لأنهم لم يهبطوا مع قصي الأبطح إلاّ رهط أبو عبيدة الجرَّاح وهم من بني الحارث بن فهر وبقيت سكناهم على أطراف مكة وجبالها، وهناك قسم ثالث من قريش تفرقوا والتحقوا بقبائل متعددة في أمكنة متباعدة - عمان اليمامة - والجزيرة وقد ألحقوا بقريش في خلافة عثمان، وساكن قريش مكه من كان قبلهم فيها مثل خزاعة وبقية كنانة وأسد وأسدة من خزيمة وهو من جُدود قريش وساكنهم أيضاً في ذيل جبل حبيش أسفل مكة بنو الحارث بن عبد مناة من كنانة وعضل والديش من بني الهون بن خزيمة وبني المصطلق والحيا من خزاعة ويسمون الأحابيش وقد عقدوا حلفاً مع قريش، وبعد أن تمَّ لقريش الاستقرار بمكة بزعامة قصيّ أبقى العرب على حجّهم وما كانوا عليه حيث يراه ديناً في نفسه لا يجوز تغييره، وبنى لقريش دار الندوة وجعل بابها على الكعبة فهي دار مشورة في أمور السلم والحرب ومجلس لرؤساء البطون أو الأسر المذكورة وأصحاب المشورة والرأي ورؤساء الأحياء أو الشعب وكانت قوافل قريش لا تنطلق إلاّ من دار الندوة ولا يقدمون حتى ينـزلوا بها ولم يكن يسمح لأحد الاشتراك في الاجتماعات وإبداء الرأي وحتى الدخول إلى دار الندوة إلاّ لمن بلغ الأربعين من العُمر على اعتبار أنَّ هذه السِّن تمثّل الحد الأدنى للنضج والكمال فالدار والحالة هذه ليست برلماناً أو مجلس شيوخ كما نعرف اليوم وإنما كانت دار ملأ مكةَ وأولو الرأي فيها للشورى أو عند وجوب اتخاذ قرار في أمر هام ولم تكن قرارات الدار ملزمة بل قد يخالفها سيّد ذو رأي ومكانة ولا يحصل الإجماع إلاّ باتفاق، ويتوقف تغيير الرأي على شخصية المتفقين بالرأي وعلى كفاءتهم في تنفيذ الإجراءات بحق المخالفين من مقاطعة ومن مساومة وإقناع تحاشياً لخروج أحدهم على القرار فلا يخرجونه إلاّ بعد دراسة معمقة وتفكير ومفاوضات مرنة يُراعَى فيها مصالح كل الأطراف موضوع البحث تخوفاً من حدوث إنشقاق يعرّض أمن مكة إلى الخطر، وكانت موضوعات دار الندوة غالباً تهم مجتمع مكه ككل، أمّا ما يحدث ضمن الأسر من نزاعات وخلافات فوجوه الشعب أو الأسر أقدر على فضّ الخلافات داخل الأسرة من دار الندوة ولأنها من اختصاص الأسرة ذاتها، وأهمية ودور الأشخاص في المجتمع المذكور يتوقف على كفاءة ومقدرة الشخص ذاته وعلاقاته وما بحوزته من الأموال، وقد يكون الشخص ذاته سبباً في رفع شأن أسرته أو خفضه، فالحكم في مكه إذاً حكم رؤساء وأصحاب جاه ونفوذ وشرف تطاع فيها الأحكام وتنفذ فيها الأوامر بموجب العرف والعادة دستور مكه في تلك الأيام ولا مخالفة من كثير من أهل جزيرة العرب وخاصة الحلفاء، و لا يزال العرف و العادة قانوناً أو دستوراً يعمل به حتى يومنا هذا في أكثر من مكان من العالم كل هذا دون أن يكون هناك ملك أو حكومة أو أية أداة من أدوات الحكومة وكل أمرها أنها مجتمع في قرية كبيرة يتألف من شعاب كل شعب لبطن من تلك البطون المذكورة آنفاً وأمر كل شعب لرؤسائه وحدهم أصحاب الحلّ والربط والنهّي والتأديب فيه وليس باستطاعة متمرد مخالفة الأحكام وإلاّ أدَّبه حيَّه وأشرافه وهم عقلاء الشعب. وكان لقصي بن كلاب الدور القائد في تحقيق كل ما ذكر فقد تيمَّنت قريش بقصي فأطاعوه وعظَّموه فكانت لا تعقد أمراً ولا تفعل فعلاً إلاّ في داره ولا تعقد لواءً لحرب قوم من غيرهم إلاّ في داره وحتى عقود المعاملات وعقود الزواج لأيّ فتاة أو رجل فكان أمره في قومه كالدين المتبع لا يعمل بغيره تيمناً بأمره وعرفاناً بفضله وشرفه، وبعد أن استقرّ المقام لقريش بمكه خاطبهم قصيّ فقال: يا معشر قريش إنّكم جيران الله وأهل مكه وأهل الحرم وإن الحاج ضيف الله وزوّار بيته وهم أحقُّ بالضيافَة فاجعلوا لهم طعاماً وشراباً أيام الحج حتّى يرحلوا عنكم ففعلت قريش ذلك، فكانوا يخرجون من أموالهم كل عام خرجاً فيدفعونه إلى قصيّ لكي يصنع طعاماً للناس أيام مِنًى وبمكه وقد بقيت هذه السُنَّة بالإسلام وسماها الرفادة وهي مسألة أضيفت إلى صلاحياتة السّابقة الحجابة والسقاية واللواء فحاز شرف قريش كله وأحدث قصيّ إضافة إلى الرفادة إشعال النار بالمزدلفة وحفر بئر العجول. وكانت أهم منطلقات قريش الفكرية حول سياسة حياتهم الجديدة هي أنهم قوم يعتمدون على التجارة في تأمين مستلزمات حياتهم، والتجارة لا تزدهر وتثمر إلاّ في محيط هادىْ بعيد عن المعارك والحروب إلاّ في حالة الدفاع عن التجارة نفسها أو الموقع (مكه) لذلك ابتعدت قريش عن استعمال القوّة كوسيلة لتمشية مصالحها التجاريّة واعتمدت سياسة اللّين والحوار والمشاركة بالتجارة وبسياسة الحلم والكلام المعسول والرشوة وبالمسالمة والمفاوضات كانت تبدأ بحلّ ما يعترضها من صعوبات مع الناس كما أنهم أقرّوا مواساة أهل الفاقة ممن يردون على مكة وحماية الغرباء من أيّ اعتداء أو ظلم وكذلك الضعفاء والمساكين ومن لا يجد له عوناً يحميه، وإنصاف الوافدين إلى مكه من الغرباء وخاصّة التجار، لهذا تألّف في قريش ما يسمى بحلف الفضول وقد شهد الحلف بنو هاشم وبنو زهرة وبنو تيم وبنو الحارث وذُكِرَ أنهم تعاهدوا على أن يكونوا مع المظلوم حتى يؤدَّى إليه حقه وفي التآسي في المعاش وذهبوا إلى دار عبد الله بن جدعان و تحالفوا هناك، و ذُكر أن رجلاً من زبيد باليمن باع بضاعة له إلى العاص بن وائل السهمي وماطله العاص حتى يئس اليمني فصعد على مكان مطل من جبل أبي قبيس وقريش في مجالسها حول الكعبة فصاح مستجيراً بقريش لإنصافه من العاص فأنصفوه، وذكر أيضاً أنّ رجلاً من يني أسد جاء بتجارة فاشتراها رجل من بني سهم ولم يدفع الثمن فَعَلاَ الجبل وشكا ظُلامته فأنصفته قريش، وذكر أنّ رجلاً من خثعم قَدِمَ مكه و معه جارية جميلة فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج فشكا إلى حلف الفضول فأعادوا له الجارية ويبدو أنّ حلف الفضول هذا استمرّ لفترة في الإسلام ثمّ مات، ويروى أنّ مشادة حصلت بين الحُسين بن علي بن آبي طالب وبين الوليد بن عتبة بن أبي سُفيان حول مال للحُسين فماطله الوليد فقال الحُسين: أقسم بالله لتنصفني من حقي أو أحمل سيفي ثمّ لأقومن مسجد رسول الله صلعم ثمّ لأدعوَّن لحلف الفضول فأعاد الوليد المال.
يُذكر أنّ قصيّ لما بلغ السن أقام ابنه عبد الدار بدلاً منه وبعد وفاة قصي تداعى بنو هاشم للانتصاف من بني عبد الدار وتحزّبَ الناس بين الطرفين وبالحوار حُلّ الخلاف وانتقلت السقاية والرفادة لبني هاشم ثم الرئاسة ومما لاحظه القرشيون أنّ موقعهم بوادٍ غير ذي زرع وأنّ أموال التجارة تتجمَّع بأيدي حفنة قليلة من الناس بينما غالبية الناس يشكون الفقر، فإنّ تجاهلوا حالة الأكثرية فإنّ حالة من الذعر ستسود مجتمعهم ولذلك تواصوا بينهم على مواساة الفقراء وتحسين ظروفهم ورفع مستواهم وذلك بتشجيع كل مكي أن يسهم في أموال القوافل لكي يحصل على نصيب من الأرباح على قدر مساهمته وبذلك خفّف أهل مكة حدّة التناقض بين الأغنياء والفقراء وأمنوا من تطاول الشباب الفقراء على الأغنياء بأن فتح بعض الأغنياء بيوتهم للجياع يقدمون الطعام بشكل دائم، وفي تلك الأثناء جدَّدت قريش بناء الكعبة وقسمت البيت إلى أرباع أو حصص عهدت بناء كل ربع إلى قوم وذلك بالقرعة ولكنهم اختلفوا، من سيضع الحجر الأسود في مكانه وبعد المداولة والحوار كعادة قريش اتفقوا أن يثبتوا مكانهم ويحكموا أول داخل إلى البيت وكان ذلك محمّد رسول الله صلعم فتناول الحجر بيده من ممثلي الأرباع ووضعه مكانه.
في البداية كانت تجارة قريش محليّة مع مَن يرد إلى مكه في المواسم وسوق عكاظ وبذي المجاز ولكن قريش عملت نقله نوعية في تجارتها حيث أصبحت دولية بعد أن كانت محليّة بفضل أبنائها الأكفّاء، وأول من خرج إلى الشام فأبعد بالسفر وقابل الملوك ومرّ بالأعداء وأخذ منهم الإيلاف المذكور في القرآن الكريم هو هاشم بن عبد مناف حيث حصل على كتاب من قيصر بتأمين تجارة قريش في أراضي الروم إلى دمشق وأثناء العودة كلما مرّ على حيّ أو قبيلة من العرب كتب معهم عقداً بتأمين قوافل قريش في أراضيهم منهم أو من غيرهم مقابل أن تدفع لهم قريش ما يرضيهم من بضاعة أو مال أو تشركهم معها بالتجارة كما حصل على عقد مع ملوك غسَّان لذلك كانت تجارته تصل إلى غزّة كما حصل عبد شمس على عقد تجاري من النجاشي الأكبر حيث فتحت الطريق إلى الحبشة و حصل نوفل على عقد تجاري من الأكاسرة ففتحت الطريق أيضاً إلى العراق وأرض فارس وحصل المطلب على عقد تجاري من ملوك حِميَر فذهبت قوافلهم إلى اليمن كما حصلوا على عقود من القبائل المقيمة على طرق القوافل بأسلوب هاشم بالحوار والمفاوضات والهدايا واقتسام المنافع بعيداً عن القوّة أو التهديد بها، إذاً فالإيلاف ليس تأليف قلوب رؤساء القبائل لصدهم عن التحرّش بأهل مكه وعدم التعرّض لقوافلهم فحسب بل هو عهود ومواثيق مع سادات القبائل لحماية قوافل قريش مقابل ضرائب معيّنة تُدْفَع لهم ونسباً من الأرباح تؤدى لهم مع إعطائهم رؤوس أموالهم في حال مشاركتهم بالتجارة، وقد حصل نوع من التنافس والتحاسد بين مكة والطائف، إذ حاول أهل الطائف جلب القوافل إليهم وجعل مدينتهم محطة يستريح فيها التجار وقد نجحوا جزئياً لمّا استولى الفُرس على اليمن فصارت قوافل كسرى ولطائم ملوك حِميَر تمرُّ بالطائف ذهاباً وإيّاباً إلى اليمن فنغَّصت على أهل مكه ردحاً من الزمن حتى تمكّن أهل مكه من التغلغل بالطائف وبسط سلطانهم عليها وذلك عن طريق شراء الأراضي وإقراض المال إلى سادة الطائف وأقاموا فيها مشاريع خاصّة ومشتركة و هكذا حوَّل أذكياء مكه الطائف إلى تابع لهم، وعليه نرى أنّ قريشاً نقلت تجارتها إلى المستوى الدولي وأغنتها حتى أخذت مداها واستوعبت كل الأفراد والجماعات المساهمين فيها فرفع من مستوى مكه الاجتماعي والسياسي ومكانتها لدى أكبر الدول في ذلك الزمن. وما عرفناه حتى الآن عن قريش وعلاقاتها التجارية وضرورات هذه العلاقة يُفْتَرَض من جانبنا أن تخرج من قريش إلى العلن أفكار تنادي بوجود حلول للواقع العربي ترتقي بالأنا القبلية القرشية إلى الأنا العربية حيث قريش وبيئتها الخصبة بالثقافة والأفكار وخاصّةً تيار الأحناف التوحيدي، هذا الوسط الاجتماعي هو الوحيد المؤهل لتخريج أفكار وفرسان التغيير على المستوى العربي، وكل تحسين على مستوى جمع شمل القبائل العربية وطرد القوى الأجنبيّة والقضاء على الفقر والمنازعات القبلية يخدم الواقع التجاري القرشي فإذا لم يكن التغيير من أجل العرب فعلى الأقلّ من أجل التجارة ولكن هذا لم يحدث من قريش الوثنية. ومع كل التفوق وتلك السوية العالية لشخصية قصيّ بن كلاب وذرية قصيّ من بعده في الفهم العميق لطبيعة منطقتهم وإتباعهم سلوكيّة محليّة وإقليميّة ودولية قائمة على الاحترام المتبادل واقتسام المنافع والأمان والعون لمن يفد إليهم جعلت من مجتمع مكه حالة مُثلى في الإدارة ونموذجاً يُقتدى به لم يفكّروا بدور أكبر من دورهم التجاري الذي أحبوه واستغرقوا بكليتهم فيه وهذا سبب كبير والثاني وهو الأهم أنّ القبيلة كوحدة اجتماعيّة وسياسيّة لها قيمها وعاداتها ومثلها الأعلى ممثلاً بإلهها جعلها مستغنية روحياً عن الغير ومما زاد الطين بلَّة كما يُقال وعزَّز الأنا القبلية وكرّسها هي فكرة الإله المشخّص كظاهرة ليست في قُريش أو بلاد العرب فحسب بل على مستوى العالم وإن كان التعبير عن الإله المشخص الموصوف والمحدد يختلف باختلاف الناس فهناك من يمثل الإله بصنم كما في أكثر بلاد العرب أو رجل كما في بعض قبائل بلاد العرب وإن كانوا أهل كتاب وهناك من يرى إلهه في كوكب أو نار أو بقرة وغير ذلك، ومع كل الحديث عن تغيير قادم على يد رسول عظيم لم يدفع بأيّ شخص أو جماعة تتبنّى أو تعتقد بإله مشخّص أن يدعوا إلى تغيير الواقع العربي وفعلاً وبعد معاناة قيَّض الله للعرب رجلاً يدعو إلى التغيير ولكن من منظور إلهي وكما كان متوقعاً من قريش بالذات ولكن ليس من قريش الوثنية وإنما من قريش الأحناف الموحدين على ملّة ابراهيم ولذلك كانت مقاومة قريش عنيفة جداً ومتزمّتة وغير عقلانيّة حيال دعوة محمّد صلعم وغير مفهومة من قبل قريش الديبولماسيّة.