اهتمام البيزنطيين بمعرفة أسرار صناعة الحرير:
كان مرور القوافل التجارية في طريق الحرير عبر الأراضي الإيرانية قد أفاد كثيراً بلاد إيران اقتصادياً وحضارياً، ولكن سوء العلاقات بين الفرثيين والرومان، وبعدهم الساسانيين والبيزنطيين... كان يترك أثره الخطير على القوافل التجارية عابرة طريق الحرير.
حاولت الإمبراطورية البيزنطية تجنب ادعاءات الساسانيين والحد من أطماعهم وسوء تصرفاتهم وذلك بتغيير طريق القوافل والاستغناء عن عبور أراضي الساسانيين... كما أعدت خطة تهدف إلى الاعتماد على الصناعات المحلية. وذكر أحد المؤرخين في العصر البيزنطي قصة كاهنين نسطوريين تمكنا من الوصول إلى بلاد الصين والاطلاع عن كثب على أسرار تربية دود القز وصناعة الحرير الفنية في الصين في فترة إقامتهما فيها. وعند عودتهما إلى الإمبراطورية البيزنطية أخفيا سراً عدداً من بيوض دود القز في عصا مجوفة لكل منهما فكانت بداية جدوى اهتمام البيزنطيين بمعرفة أسرار صناعة الحرير، وتسرب هذه الأسرار من الصين إلى الإمبراطورية البيزنطية التي حققت من ذلك ما يلي:
1ـ التحرر من احتكار الصين أسرار فن تربية دود القز وصناعة الحرير الفنية.
2ـ التحرر من مضايقات الفرثيين ومن بعدهم الساسانيين للقوافل التجارية عابرة طريق الحرير.
3ـ بداية ظهور صناعة حرير فنية محلية جديدة في الإمبراطورية البيزنطية (مثل سورية... وغيرها...) أسهمت في الازدهار الاقتصادي. والجدير بالذكر أن شهرة منطقة بيلوبونيز بأشجار التوت وتربية دود القز... جعلها تعرف منذئذ باسم بلاد موره Morée من لفظ أشجار التوت Muriers...
4ـ تزايد عدد القادرين على التدثر بالملابس الحريرية المختلفة، بعدما كان ذلك مقتصراً على الملوك والأمراء وكبار الارستقراطيين الأغنياء.
وكانت حياة الترف والبذخ في القصر الإمبراطوري البيزنطي موضوع هجوم عنيف ونقد عنيف من قبل القديس يوحنا فم الذهب 347ـ407 الذي أشار إلى ثوب الحرير للإمبراطور البيزنطي تيودوسيوس 408ـ450 يزينه وحشان متقابلان مطرزان. والجدير بالذكر أن بعض المؤرخين ينسب فضل تسرب أسرار صناعة الحرير إلى الإمبراطورية البيزنطية إلى الإمبراطورة تيودورا وزوجها الإمبراطور جوستيان 537ـ566 اللذين عهدا بهذه المهمة إلى راهبين نسطوريين.
تسرب أسرار صناعة الحرير من الصين إلى البلاد العربية والإسلامية:
كان من نتائج انتصار الجيوش العربية والإسلامية على جيش القائد الصيني كاو ـ سين ـ تشي قرب تالاس في ترانسوخيان Transoxiane سقوط عدد من الجنود الصينيين أسرى، وقد أسهموا في نشوء صناعة المنسوجات الحريرية في البلاد العربية والإسلامية. ويذكر بعض الباحثين أسماء عدد من أولئك الصناع الفنيين (مثل: تو هوان Tou-Houan ويو هوان Yo-Houan و لو لي Lu-Li...) الذين كانوا من هو تونغ (Ho-Tong) في شنشي.
وعندما قام القس الألماني لودوف فون سوخم برحلته إلى بلاد الشام وتنقل في الأراضي المقدسة عام 1336-1341م تحدث عن طرق مدينة عكا المظللة بالحرير المنسوج وبسواه، وذلك تجنباً لشدة أشعة الشمس وحرارتها صيفاً في بلاد الشام. كان الحرير السوري قد غدا على رأس قائمة المنتجات السورية في العصر العثماني. وكان السوريون منذ أبد قد سادوا طريق الحرير وأسهموا في تنظيم تجارة الحرير ونقله من الشرق إلى الغرب منذ أواخر العصر الهلنستي وعهد ازدهار تدمر. واستنتج الباحثون المختصون بالمنسوجات الحريرية مايلي:
1ـ مهارة الحائك السوري عبر العصور التاريخية
2ـ كثرة استخدام اللون الأحمر القاني الجميل والجذاب والأكثر ارستقراطية في الشرق
3ـ مدى انتشار عادة التدثر بالملابس الحريرية
4ـ استخدام الخيوط الحريرية مع الخيوط الصوفية والقطنية، مما كان يخفي الحرير في العهود الإسلامية
5ـ انتشار طريقة الفتل في جهة اليسار في أقطار الشرق الأدنى القديم.
6ـ تزايد الترف والبذخ في تدمر أكثر من مصر نفسها
7ـ وجود خيوط مفتولة إلى جهة اليمين، مما يفيد في عمل الخيوط. كما أن وجود خيوط حريرية يفيد في تقوية الخيوط الصوفية والأقمشة المنسوجة
8ـ وجود حرير ارجواني اللون. وإن عملية صباغة خيوط الحرير اللحمية فقط قد تم قبل عملية الحياكة والنسيج.
وصول أسرار صناعة الحرير إلى أوروبا:
وشهدت جزيرة صقليا في عهد ملكها روجر الثاني 1093-1154 اهتماماً خاصاً بزراعة أشجار التوت وتربية دود القز وصناعة الحرير الفنية في العاصمة باليرمو التي انتقلت منها أسرار صناعة الحرير إلى عدد من أقطار أوروبا وبخاصة فرنسا واسبانيا. واهتمت إنكلترا بصناعة الحرير المحلية في القرن السابع عشر.
والجديد بالذكر أنه بفضل جهود العرب والمسلمين ازدهرت زراعة أشجار التوت وتربية دودة القز وصناعة الحرير في اسبانيا وبخاصة في المدن الأندلسية غرناطة، طليطلة، إشبيلية، فالانسيا.
قطع طريق الحرير الدولي:
شهدت تجارة الحرير الدولية ازدهاراً كبيراً في عهد إمبراطورية جنكيز خان 1162-1227 الممتدة من الدانوب حتى منشوريا، ومن جيورجيا حتى كوريا، ومن بلاد ما بين النهرين حتى الصين الجنوبية. وخلفه أوغوداي وقوبلاي 1260-1294 الذي حضر موفدوه مؤتمر ليون عام 1274. وكان الكثيرون يتحدثون عن إمبراطورية جنكيز خان وحزمه ودقة إدارته، ويذكرون بعض التفاصيل مثل توفر نحو... 300 حصان في مختلف المحطات على امتداد طريق الحرير التي كانت تفصلها عن بعضها مسافة نحو ثلاثة أميال مما يؤكد سلامة طريق الحرير والقوافل التجارية وأصحابها وممتلكاتهم. فكان لانهيار إمبراطورية جنكيز خان أثره الكبير على فعاليات طريق الحرير وسلامته.
إسهام تحسين الملاحة البحرية في تنشيط فعاليات طرق التجارية عبر البحار:
منذ العصر الهيلينستي والروماني، كانت ثروات الشرق القديم وفعالياته الاقتصادية المتميزة تثير أطماع الغرب وتدفعه إلى القيام بحملات حربية مختلفة كحملة القائد الروماني مارك أنطونيو 83-30 ق.م ضد تدمر لسلب ثرواتها الضخمة ليتابع حملاته الحربية ضد خصومه، وحملة القائد الروماني ايليوس جالوس الفاشلة الى بلاد العرب لاكتشاف طرق التجارة البرية العالمية الرابحة والسيطرة عليها.
وتابعت أوروبا سياستها الاقتصادية في سبيل الحصول على ثروات الأقطار المختلفة مثل:
ـ لؤلؤ الخليج
ـ ذهب السودان
ـ توابل الهند
ـ حرير الصين المادة الثمينة والنفيسة والمطلوبة كثيراً من قبل الأباطرة والملوك والأمراء وكبار الأغنياء. وقد أسهم تحسين الملاحة البحرية في تنشيط فعاليات طرق التجارة العالمية عبر البحار. وتحققت رغبة أوروبا في البحث عن طريق الحرير المستقل والمباشر من أقطارها إلى أقطار آسيا نفسها، وذلك في عصر الاكتشافات الكبرى المتميزة بتقدم الملاحة الأوروبية وتطورها الكبير.
تدمر مدينة القوافل التجارية ومحطة طريق الحرير الرئيسية:
تدين تدمر بوجودها إلى مياه نبعها وغزارة آبارها وسعة واحتها الخضراء التي تزهو بأشجار النخيل والزيتون والرمان وغيرها... وتضفي جمال الخضرة على مكان يبدو كبحر من الرمال الذهبية اللون اللامحدودة الاتساع المتألقة بأشعة الشمس، مما يجعل واحة تدمر تشبه الزمردة الخضراء وسط رمال الصحراء.
وتدين تدمر بازدهارها الاقتصادي إلى أهمية موقعها على طريق تجاري أصبح فيما بعد طريق الحرير الدولي الممتد من بلاد الصين شرقاً حتى روما غرباً، وذلك عبر أقطار الشرق القديم (الصين وتركستان وأفغانستان وشبه القارة الهندية وإيران وبلاد ما بين النهرين وبلاد الشام... وأقطار الغرب كاليونان وايطاليا...)
إن موقع تدمر المتميز في قلب بادية الشام في منتصف الطريق بين مدن حوض الفرات شرقاً ومدن الساحل السوري غرباً. وإن فتح حوض الفرات للتجارة العالمية والقوافل التجارية قد جعل طريق الحرير العالمي عبر تدمر هو الطريق الأقصر مسافة، والأكثر سهولة، والأفضل عبوراً ومروراً، والأكثر أمناً وسلامة للقوافل التجارية وأصحابها التجار وممتلكاتهم المختلفة. وأدى كل ذلك إلى أن يصبح هذا الطريق التجاري البري الدولي متفوقاً بأهميته على أهمية طريق الحرير البحري الذي كان يمر عبر البحر الأحمر، ويزدهر أو يتخلف أو يهجر تبعاً للظروف المختلفة، مما جعل مرافئ البحر الأحمر (مثل: حواره Leuke - Kome) تتأثر إلى حد كبير بالتطورات والمتغيرات المختلفة، وتتأرجح بين الازدهار الاقتصادي والأزمات الاقتصادية والمالية المختلفة.. وهكذا كان طريق الحرير البري الدولي عبر تدمر قادراً على المنافسة المضمونة والرابحة والمنتصرة على طريق الحرير البحري. وكان طريق الحرير البري الدولي عبر تدمر بمثابة أكبر شريان لفعاليات التجارة الدولية في ذلك العصر، أسهم في جعل تدمر تسود التجارة الدولية وطريق الحرير البري وتسهم في تنظيم حركة نقل الحرير وعمليات تجارة الحرير الدولية.
وبعدما كانت تدمر في الماضي البعيد شبه مقفرة، يعاني فيها الإنسان ويكافح ضد قساوة الطبيعة وبرودتها ليلاً وشتاءً، وحرارتها نهاراً وصيفاً، ويبتهج بانتظار وصول القادمين مع القوافل، أصبحت تدمر محطة شبه إجبارية للقوافل التجارية المتجهة من الشرق إلى الغرب وبالعكس، تفيد من موقعها الهام وتوفر المياه فيها لأفرادها وإبلها. كما تفيد هذه القوافل من الخدمات العديدة التي تقدمها لها، مما جعل تدمر بمثابة محطة هامة لهذه القوافل التجارية ومخزناً لبضائعها المختلفة، وعاصمة لرجال القبائل العربية وزعماء القوافل.
وإن شهرة السوريين القدماء في ميادين التجارة الداخلية والخارجية ومهاراتهم وخبراتهم ورحلاتهم، قد يوضح إسهام التجارة في ازدهار تدمر، ودور أولئك السوريين في تنشيط فعاليات التجارة العالمية في عصر كانت فيه القوافل التجارية تهتم بكل ما أبدعه الفنانون التطبيقيون والصناع الفنيون من نفائس وتحف وطرائف وبدائع وروائع فنية كان يتهافت على اقتنائها الملوك والأمراء وكبار الأغنياء. فكانت هذه المنتوجات النفيسة والثمينة والنادرة تشكل المواد الهامة للتبادل التجاري، وفعاليات حركة التجارة العالمية وقتذاك.
وكان دور التدمريين القدماء في حسن تنظيم رحلات هذه القوافل التجارية ورعايتها وحمايتها وتقديم الخدمات إليها، والإسهام في فعالياتها. قد جعلهم من كبار الأغنياء والأثرياء. وجعل مدينتهم بمثابة مركز تجاري هام ورئيسي، ومحطة هامة للقوافل التجارية في طريق الحرير البري الدولي. وإن تعاون التدمريين القدماء فيما بينهم وفق تقاليدهم المحلية المتعارفة، ومساواتهم وتعلقهم بمبادئهم وقيمهم، كل ذلك جعل تدمر تبدو بمثابة (عاصمة جمهورية أغنياء التجار وأمراء القوافل التجارية)، تعتمد على التجارة والقوافل التجارية التي كانت تبدو بمثابة جدول متتابع ومستمر لا ينقطع، وتسهم في نمو التجارة الخارجية الدولية.
وكانت مكانة تدمر التجارية، وفعاليات التدمريين التجارية، وسياستهم الدولية القائمة على مبدأ التوازن الدقيق والذكي بين الإمبراطوريتين الفرثية ـ الساسانية والرومانية، قد حققت لتدمر والتدمريين مكاسب مفيدة وعديدة أهمها ما يلي:
1ـ تنظيم حركة القوافل التجارية في طريق الحرير البري عبر تدمر، والاهتمام بكل ما يتعلق بها وبحمايتها وسلامة أصحابها وذلك بفضل فرقها المقاتلة المعدة لهذه المهمة.
2ـ توسع فعاليات التدمريين التجارية في الخليج، وبخاصة في خرقيدونيا ومكاتبهم في خرقس في شمال الخليج، وصلاتهم بمراكب الهند، والمرافئ المختلفة، وبناء أسطول تدمري في الخليج، ووصول فعاليات تدمر الاقتصادية حتى الصين.
3ـ تمتع التدمريون بنفوذ كبير في مناطق كانت تسيطر عليها الإمبراطورية الفرثية ثم الساسانية في فولجيسياد Volgesiade في عصر بدت فيه تدمر وكأنها سيدة التجارة الدولية وطريق الحرير البري الدولي. مما يدل على مدى نجاح الدبلوماسية التدمرية، وحسن توثيق علاقاتها الدولية مع كل من الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفرثية. أضف إلى ذلك علاقاتها الدولية مع سوسة Susiane وميسان Mesène وغيرها.
4ـ الازدهار الاقتصادي الذي جعل تدمر كعاصمة الترف والغنى والرفاه والسلام بل والأحلام، مما أسهم في تقدمها العمراني والفني والثقافي والاجتماعي، كما أسهم في تزايد عدد سكانها والعاملين فيها والمتجهين إليها، وتنوع فعالياتهم الاقتصادية، وتزايد ثروات تجارها، فظهرت ضرورة سك النقود التدمرية الخاصة بها. أضف إلى ذلك تزايد الطرق المتجهة إليها والمنطلقة منها، وإن اكتشاف أحجار المسافات يوضح أهمية تدمر كعقدة طرق مواصلات هامة.
5ـ حسن انفتاحها على آفاق العالم الخارجي، وذلك بعدما وصل طريق الحرير واحتها الخضراء ببقية الواحات على امتداد طريق الحرير البري الدولي.
6ـ إن مهارة التدمريين الدبلوماسية والسياسية الذكية أثارت إعجاب الرومان الذين عهدوا إليهم ببعض المهمات وبخاصة في المناطق التي كان التدمريون يتمتعون فيها بنفوذ كبير وهي تحت السيطرة الفرثية. كما أن مهارة التدمريين القدماء في الرماية والقتال جعلهم في طليعة المقاتلين. وأفادت منهم الإمبراطورية الرومانية في القضاء على الفتن والاضطرابات والخصوم والأعداء. مما يدل على الإمكانات والطاقات الكبيرة التي كان يتمتع بها قدماء التدمريين في العصر الروماني،وذلك بفضل منطقتهم الواسعة التي كان يتعذر على الرومان أنفسهم السيطرة عليها أو التحكم فيها وذلك لخصائصها الطبيعية المتميزة. وبفضل مؤهلات التدمريين القتالية بالفطرة (ممارستهم رياضة الصيد بأنواعه، حسن تحملهم المشقات والمتاعب والبرد والحر والجوع في بيئتهم القاسية...) وخبرتهم في الرحلات والغزوات معتمدين على الجمل سفينة الصحراء الوحيدة الذي يمكنه حمل الأثقال لمسافات طويلة وفي ظروف بيئية صعبة يهلك فيها الخيول والبغال من الجوع والعطش؛ في حين أن الجمل يقتصر غذاؤه على نباتات شوكية جافة في الصحراء.
وتوضح الكتابات التدمرية الأثرية المتعلقة بقادة وزعماء (مثل وود وسواد Soados، وأولبيوس يرحاي...) دور مثل هذه الشخصيات التدمرية البارزة وحسن مكافأتهم من قبل مواطنيهم التدمريين والرومان مع كثير من التقدير والإعجاب والاحترام.
7ـ تأكيد دور تدمر السياسي والاقتصادي في عهد أذينة وزنوبيا: فإذا كانت كتابات بليني القديم 23م وآبيان تعبر عن أهمية تدمر المستقلة، فإن سياسة روما في سبيل التسرب الاقتصادي والسيطرة السياسية تدريجياً منذ حملات الإمبراطور تراجان (92-117م) في بلاد ما بين النهرين وعهد تيبريوس (14-37م) كان لها أثر كبير في محاولات الحاكم الروماني في التدخل في شؤون تدمر ولكن عهد الإمبراطور هادريان (117-138م) أدرك أهمية تدمر وطاقاتها وإمكاناتها وميادين الإفادة منها. وتمتعت تدمر بامتيازات عديدة ومفيدة مختلفة في عهود الأباطرة السيفيريين السوريين (193-235م).
وبقيت تدمر موضوع القلق الأهم لكل من الإمبراطورية الفرثية فالساسانية والإمبراطورية الرومانية مما يفسر عدوان شابور واستيلاءه على مملكة خرقيدونيا، وقضاء الإمبراطور أورليان أخيراً على مملكة تدمر في عهد ملكتها زنوبيا عام 273م.
8ـ تدل المنحوتات التدمرية على جمال ملابس التدمريين والتدمريات الحريرية الجميلة الثنيات والمطرزات الدقيقة التي تجسّد ذوقاً فنياً متميزاً وثقافة جمالية، ومطلباً اجتماعياً. وإن ما تمثله من حلي ومجوهرات تدل على مدى ترف التدمريين.
وتدل بقايا الملابس الحريرية المكتشفة في مدافن تدمر وحلبية، على مدى توفر مادة الحرير في تدمر في عصر كان فيه الحرير نادراً جداً في أوروبا، ويحرص الملوك والأمراء وكبار الأغنياء على التدثر به والظهور بمظهر الغنى والترف والسيادة...
9ـ وإن بناء معبد بل الضخم عام 32م يعتبر بمثابة نقطة تحول هامة في تاريخ العمارة التدمرية الدينية والمدنية وإن المباني الجميلة المختلفة التي شهدتها تدمر تجسد ذلك الرفاه والازدهار والفعاليات الاقتصادية المختلفة. وقد تحدث المؤرخون عن المباني التي كانت تزين منطقة الساحة العامة، والتي كانوا يطلقون عليها اسم تتراديون مما يجسد ويؤكد أهمية العمارة كمرآة الحضارة ومجمع فنون جميلة وفنون تطبيقية.
الخلاصة:
مما تقدم تبدو أهمية دراسة طريق الحرير وتدمر مدينة القوافل التجارية، مما جعل منظمة اليونسكو تناشد أقطار العالم والدول الأعضاء في هيئة الأمم للقيام بكل ما من شأنه بحث واستقصاء ومتابعة آثار طريق عبر الأقطار العديدة في قارات آسيا وافريقيا وأوروبا براً وبحراً، وفتح حوار حضاري جديد يسهم جدياً في تقارب الأمم والشعوب وتوثيق علاقاتها الودية فيما بينها.
فإذا كان قدماء الصينيين ابتكروا هذا الانجاز الحضاري واحتكروا أسرار صناعة الحرير الفنية فترة طويلة من الزمن، فإن أسرار هذه الصناعة قد تسربت أخيراً خارج بلاد الصين، وأصبح المجتمع الإنساني في أقطار العالم يتمتع بما ابتكره الشعب الصيني من نوع جديد من الأقمشة والملابس الجديدة والمتميزة التي أسهمت في تطوير الذوق الفني والحس الجمالي كما أسهمت في تحقيق الازدهار الاقتصادي وتقدم الحياة الاجتماعية وتنمية العلاقات الودية بين الشعوب والأمم. فازدهرت المناطق التي مرّ بها طريق الحرير الدولي، وحدث تفاعل حضاري وصلات إنسانية بين سكان أقطار متباعدة جغرافياً وتاريخياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً وجمالياً.
إن طريق الحرير الدولي أنشأ علاقات اقتصادية بين تلك الشعوب والأمم، ومهد لظهور علاقات سياسية واجتماعية وثقافية، وأسهم في تلبية متطلبات المجتمعات النفعية والجمالية.
وإن رحلات ماركو بولو (1254-1323) وغيره، فيما بعد، أسهمت في إغناء المعلومات والتعريف بالمجتمعات والحضارات والثقافات، ونشر المعرفة التاريخية والجغرافية والفولكلورية المتعلقة بأقطار شرقية كانت مجهولة أو غير معروفة جيداً لدى الآخرين.
وصار للحرير مشاغل ومعامل، وفنانون وعمال فنيون، وتجار وأسواق تجارية خاصة بالحرير، وأصبح عنصراً هاماً في عالم الاقتصاد وأحد مواضيع أحاديث المجتمعات وتفاخرها، والتشبيه به في عبارات بيانية ووصفية.
وإن تدمر التي أسهمت في حماية طريق الحرير والقوافل التجارية وأصحابها من مختلف البقاع والأقطار وقدمت خدماتها المختلفة في سبيل أمن طريق الحرير وسلامة القوافل التجارية في ذهابها وإيابها، وأفادت كثيراً من الرسوم المالية التي كانت تجبيها بموجب نصوص القانون المالي في 18 نيسان 137م، قد واجهت خطر شابور الأول (241-272) الذي استولى على مملكة خرقيدونيا Characene المنفذ البحري الهام لفعاليات تدمر الاقتصادية في الخليج مما جعله يصطدم مع أمير تدمر أذينة. كما واجهت بعدئذ خطر أورليان (270-275) الذي قضى على مملكة تدمر في عهد زنوبيا عام 274م. وهكذا قضت هذه الحروب العدوانية على مسيرة نمو الازدهار الاقتصادي والتقدم الاجتماعي والإشعاع الثقافي في تدمر. وبدت تدمر الآن بأطلالها كأنها تتحدث بصوت الصمت ولغة الفن الخالد عن ذلك الازدهار والإشعاع يوم كانت تدمر عاصمة الفعاليات الاقتصادية والترف الاجتماعي والأمن والسلام والهناء والأحلام.
بشير زهدي
وزارة الثقافة
دمشق
الحوليات الأثرية العربية السورية
المجلد الثاني والأربعون