في دمشق، أخبرني تاجر سجاد بسيط متباهيا: "لقد زرت اسرائيل مرة", كنا حينها نجلس في مخزن صغير خارج زقاق في سوق المدينة القديمة المغطى و الذي يرتفع كما الكاثدرائية و يطول الى عدة مبان في المدنية, و بينما ادعاءه لازال مجازفة في وسط التسعينات كان سيودي به الى السجن بالتأكيد قبل عدة سنوات فقط, و أضاف: "لم يكن الوضع سيئا، انه أشبه بالوضع هنا", لقد أخبرني انه فلسطيني و لكن هل كان الاسرائيليون يعلمون انه يعيش هنا في سورية؟ .
"شاهدوا أوراقي و لم يهتموا" اذا كانت هذا الادعاء الأول قد فاجأني، فقد خطف هذا انفاسي, لخمس عقود، رأت سورية اسرائيل كعدو حتى الموت، معتد و محتل للاراضي العربية، و لأكثر من نصف هذا الوقت كانت معظم اراضي مرتفعات الجولان - وهي جزء من سورية نفسها - محتلة من قبل الاسرائيليون, و رغم الشكوك، فإن مفاوضات مباشرة قد تعيد يوما ما الارض الى سورية, بعد مضي وقت طويل، سقط الحظر على المحادثات المباشرة مع اسرائيل، فهل هناك من مستحيل؟ كان هذا السؤال الأول الذي تبادر للذهن في الزيارة الأخيرة الى سورية.
ظاهريا، لم يتغير الا القليل في دمشق منذ زرتها لأول مرة في عام 1979, لقد جاء ثلاث رؤساء أمريكيون الى السلطة و ذهبوا, و بعد، فان نفس الصور للرئيس السوري حافظ الاسد لا تزال تزين مباني المدينة.
لا تزال إشارات المرور تعيق السير في الشوارع المتجهة الى مركز المدينة، علما أنني لاحظت ازديادا في عدد سيارات المرسيدس,و لكن و مع انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي كان سابقا نصير سورية في الحرب الباردة، تمت حلحلة القيود الاقتصادية في هذا البلد الاشتراكي, و صارت الصحف الحكومية تنشر مقالات لم يكن وارد نشرها سابقا حول مفاوضات الأسد مع نظرائه الاسرائيليين, تكشف مثل هذه التغييرات عن تخفيف متردد لعقود طويلة من حكم القبضة الحديدية للأسد على بلده.
اتذكر سورية في أواخر السبعينات كدولة شرطي - المكان الذي تجد فيه الجنود عند الأعمدة المتوضعة كل بضعة مئات من الياردات، و يسألوني بشكل روتيني عن أوراقي عندما أتجول ليلا و مع أن السوريون هم الشعب الأكثر مودة إلا أنهم يحاولون أن يتجنبوا اللقاءات العرضية مع الاجانب,و تتعالى الآن أصوات المجموعات السياحية في سورية من الحافلة التي تنقل أوروبيين، يابانيين و حتى أمريكيين يشقون طريقهم في شوارع دمشق الضيقة و عبر الاوتوسترادات الصحراوية نحو الشمال و الشرق حيث ترتبط العاصمة بالمواقع الأثرية القديمة التي كانت يوما مدنا عريقة.
في سورية، أحد أكثر البلدان متعة و تنوعا في الشرق الاوسط، أردت أيضا أن أرى ما كان جديدا: في حلب، المنافس التاريخي في العظمة و المكانة، في حماة ، المدينة التي هدمت معظمها القوات الحكومية في تمرد عام 1982، في مدينة دير الزور، الواقعة على الحدود مع العراق، و في الجولان الذي على مصيره تعلق الآمال من أجل السلام بين سورية و اسرائيل.
إن الطريق في مدينة القنيطرة الجولانية يمر عبر قرى بأكوام من الثوم و العربات المواكبة و الممتلئة بالتفاح الوردي ترتفع ستة اقدام عن سطح الارض, هذه مدينة سماؤها كبيرة و تمثل صورة ريفية بديعة تهب عليها نسائم عليلة, و لكن هذه الصورة ايضا تشوبها المباني المهدمة منذ وقت طويل و المغطاة بأحرف عربية و عبرية, و يأمل المسؤولون السوريون من الزوار الذين سمح لهم بالعبور الى مرتفعات الجولان الملتصقة بالمدينة ان يتذكروا مشاهد المباني العامة المهدمة و المنازل المنسوفة بالديناميت.
قال أحدهم: "لقد أوصت إسرائيل بهدم المنازل عندما انسحبت من المنطقة في عام 1974, و كانت اسرائيل قد بدأت احتلالها في عام 1967 بعد هزيمة سورية في حرب الستة أيام في حين استمرت في السيطرة على مرتفعات الجولان الواقعة الى الشرق, بارتفاع يزيد عن سبعة آلاف قدم، أعطت مرتفعات الجولان اسرائيل موقعا استراتيجيا لمراقبة الحدود السورية و حماية مياه الجليل العذبة.
و لكن جمال المنطقة يغمر المشهد الذي يحوي آثار النزاع, تمتد الحقول و بساتين الفواكه تحت جبل حرون المغطى بالثلج و تعمل كمذكر لعدد من السوريين الذين يعيشون بعيدا عن تاريخ امتهم الصعب,عبر القرون، كانت حدود سورية أشبه بالسراب، تقترب و تنزلق مبتعدة فأحيانا تقسم المنطقة الى قطاعات داخلية صغيرة ، و أحيانا أخرى تتسع لتضم ما يعرف اليوم بلبنان، الأردن، اسرائيل، المناطق الفلسطينية و أجزاء من العراق و تركيا فيما يعرفه الشرقيون بمنطقة سورية الكبرى.
و حالبا، تمر الحدود في مرحلة التقلص, فالسوريون سابقا و الموجودون في لواء اسكندرون و انطاكية هم جزء من تركيا، و لم يكن هناك اشارات من أي من الدول العربية المجاورة للتنازل عن استقلالها لدمشق و حتى تل ابو الندى الذي يرتفع 3,950 قدم عن سطح البحر و فيه نظام راديو و صحون لاقطة للاقمار الصناعية الاسرائيلية.
قال منير علي، مرافقي السوري الرسمي: " انها تبعد ميلين عن خط وقف اطلاق النار", كان هذا الخط المحدد بالاسلاك الشائكة عند اقدامنا", "انظر الجبال المحازية له - تل العرم و تل المشمسي - أليستا جميلتين؟ وهي ايضا تحوي تجهيزات اسرائيلية, تلك القرية كانت المنصورة السورية, انظر الى الشاحنة انها للخفر الاسرائيلي, انهم يمرون كل نصف ساعة وهي تبعد 200 يارد فقط,"
يكشف الجولان عن تعقيد شعب سورية، و ذلك ليس فقط بالمساجد المهجورة و كنيسة الرومان الارثودوكس المخرية, ان جولة في القنيطرة يوم جمعة، اليوم المقدس للاسلام ، التقيت بعائلات تعود أصولها الى كل الشرق الاوسط من دروز و شركس و تركمان.
أثناء عمله على شواء خروف صغير لعائلته و لكل عابر طريق، اعلن الدرزي موسى اليجان: "أتى جدنا الأول الى هنا ليحارب الصليبيين, اننا عرب سوريون فعلا و نحن نسكن في دمشق منذ الحرب و لكن قرية جدنا الاول هي كفر النفاخ في تل ابو الندى, اود ان يعرف اولادي ان هذه الأرض لهم و لهذا السبب نأتي للتنزه هنا," و لدى موسى موضوع آخر ايضا للاحتفال, فابن أخيه اشترى ميكرو باص و هو يستطيع ان يتطلع الى مهنة مفيدة لنقل الركاب حول دمشق, و كان العشرة أشخاص يجلسون جميعهم تقريبا تحت الشجرة, و كانت جوانبها البيضاء مزينة بكتابات حمراء من دم الحمل الذي كنا ناكله للتمني بالحظ السعيد.
كانت القنيطرة مفعمة بالحياة مع سواح النهار و لكن بعد ذلك كان المناطق المسكونة فيها مبعثرة, إذ أبقت الالغام الموزعة على مساحة 500 يارد تحت قرية مجدل شمس المنطقة فارغة من السكان وكذلك ابعدت الرياح العاتية الزوار المعتادين عن منحدرات التلال المجاورة.
أخبرني شاب في مقتبل العمروهو يلعب بأجهزة الفاحص ، و كان قميصه الكبير جدا يرفرف كالعلم في الرياح: "انه يوم سيئ", كان اسم الشاب نور الدين, كان و اخته رشا يقفون وحيدين على منحدر تحت مركز للامم المتحدة, " لن يسمعنا احد, لا يرى احد بوضوح من هناك",كان هذا وادي الصراخ، حبث يذهب سوريو الجولان مرة كل أسبوع ليصرخوا بصوت عال اخبارهم عبر المنطقة منزوعة السلاح لتصل الى اقاربهم في الجانب الاسرائيلي.
"نسمع بكل اخبار الزواج، المرض و الموت" قال لي نور، "لا نستطيع زيارة بعضنا البعض بسهولة و ليس هناك من خدمة هاتف بين سورية و اسرائيل و لكن اصواتنا لن تعبر مع وجود هذه الرياح".
حولنا التلال حيث الصورة رائعة تماما, عبر الوادي يقرقع علم اسرائيلي في وسط الرياح و على اعلى ذروة الى الغرب هناك مركز تنصت عسكري يرتفع في المشهد, و بينما شهدت اهدا حدود عربية اسرائيلية، تساءلت اذا كان السلام بين البلدين سيحل يوما ما.
تبدو صورة سورية كسلطة راديكالية بسبب ولائها الطويل الامد للاتحاد السوفييتي السابق, غير انه و حتى في هذا الصدد كان هناك مفاجأة معدة لي, "و كأنه لم يكن هناك نفوذ سوفييتي استمر لمدة 30 عاما - أزالوه نهائيا و لم يتركوا منه أثر"، قال عدلي قدسي وهو مهندس مدني متخرج من الولايات المتحدة و يعمل في مشروع اعادة تاهيل مدينة حلب القديمة, و بعد لقاء على العشاء في مدينة سورية الشمالية، حلب، كنا نسير بجانب سور المدينة القديم, "هذا مكان مفعم بالحيوية، تعمه الحركة، بعيد عن كل أشكال التعصب".
غير ان التعصب قريب جدا يصف عدلي شعوره تجاه المشروع, و كان مركزا على الجوار اكثر من النصب التذكارية، فقال ان المشروع ممول من المدينة مع المانيا، الكويت و آخرين و يهدف الى تحسين الخدمات الاساسية لتشجيع السكان الحاليين على البقاء, عندما اقترح عدلي في منطقة المشروع، لم أكن بحاجة ليعيد علي العرض مرة ثانية.
بالنظر، نجد أن حلب مشهورة بقلعتها التي تعود الى القرون الوسطى و بمبان اخرى من حجر الجير بلون القشدة, رغم ان شهرة المدينة كمدينة تجارية في هذه البلد المعروف تاريخيا بتجاره, و حلب في معظم تاريخها كانت اكبر من دمشق, ان نكهة المدينة التجارية مركزة في سوقها المغطى مضرب للمثل , وقد أكد لي عبد الله حجار احد مؤرخي المدينة قائلا: "يمكن للاعمي ان يجد طريقه بسهولة خلال في السوق باستخدام حاسة الشم فقط" حيث روائح التوابل و الورود و الاطعمة ترشده في الازقة الملتوية, و اضاف، "قيل في العصور الوسطى بان بيع يوم واحد في حلب يعادل بيع شهر في القاهرة, كان التجار طموحين جدا بحيث وصل حتى الحمل الصغير من بينهم الى الهند,"
عبرنا من خلال زقاق متعرج كان مدخله و جدرانه متناسقة من الحجر الرمادي, قرع عدلي باب كان عليه اسم عبد الرزاق قنباشي, و شرح عدلي: "لدينا ما يسمى بصندوق الطوارئ و الذي يعطي قروضا صغيرة لمالكي البيوت و المستأجرين".
رحب بنا صاحب المنزل و أجلسنا حيث نطل على فناء المنزل المسقوف ببتعريشات العنب, اواني زهر الياسمين الابيض تعطر هواء المنزل الذي يعتبر متواضعا حسب المقاييس و لكنه رائع باقواسه و تغريد طيوره,
بدأ عبد الرزاق حديثه قائلا: "انني حداد" ثم راح يصف حالة منزله المريعة قبل عدة اشهر, لقد تداعى سقفان تقريبا و كان هناك شقوق, لم تكن الغرفة العلوية صالحة للاستخدام و لم يكن هناك من مشكلة في ان يسكن 16 شخص من العائلة في منزل واحد,"حصلنا على قرض بقيمة 40000 ليرة سورية (960 دولار امريكي), وقد قمت بكثير من العمل بنفسي و كذلك فعل اخي, وهو ايضا حداد وقد انتقل مؤخرا الى هنا لان منزله قد تهدم وقد بنى غرفة بسقف مرتفع, زوجته حانل بتوأم, لذا فاننا نحتاج لمساحة اكبر!"
يتم استخدام المال الخاص المقدم كمساعدات انسانية (من اصدقاء حلب المتجمعين في المانيا) و لا يمكن كبت التفاؤل الذي تجلى كله مع تجربتي السابقة بسورية كعالم أيديولوجي مغلق تقوده الحكومة.
و بينما كنا نسير في المدينة القديمة، رأيت تواقيع باللغة الروسية, فككت رمزها لاقرأ : فيرما، فابريكا و ماغازينو, سألت عدلي ما كان ذلك, أجاب: "إن رجال الأعمال يجتذبون الزبائن, اتى الروس الى هنا ليشتروا بالجملة, يمكنهم ان يحصلوا على زوج الاحذية بخمس دولارات! وهم يحصلون على نسيج رائع و رخيص , هناك الكثير من الواردات الى اوروبا الشرقية من بلادنا, سألت سوسو التي كانت على العشاء حيث التقينا: "و ماذا عن اوروبا الغربية!" و اسم سوسو الحقيقي هو ابتسام اسفاري وهي تعمل في صناعة قمصان التعرق الداخلية, يشير عادة الحديث عن الاصلاح الاقتصادي في سورية الى فرص جديدة للاستيراد و هنا نجد من يصدر, كانت هذه التفاتة جديدة على عرف صناعة النسيج الممتاز,بعد ذلك بعدة أيام، قالت لي ابتسام: "كنا نعيش في الولايات المتحدة في عام 1994 و كان زوجي قد توفي", كانت تجلس في مكتبها ذو المقعد المعدني و كانتن اصوات ورشة عملها مسموعة عبر الجدار خلفها, "ماالذي كان بإمكاني القيام به؟ عدنا الى الوطن, و عقدت العزم على البدء, ادرت العمل مع ولدي, و نحن نصدر الان الى شركة في هولندا بامتياز من ديزني, و قيمة رأسمالنا 15 مليون ليرة,"
اخذني ابنها يسر في جولة في حجرة العمل في القبو حيث يعمل ثلاثين رجلا و امرأة على آلات الخياطة أو يعلبون القمصان و قمصان التعرق للشحن, كل العمال تطلعوا الينا و ابتسموا و لكن ما خطف ابصاري كان التصاميم على القمصان من ميكي ماوس، ليون كينغ و 101 دالماتيانز,
"نصنع هذه المنتجات بترخيص للاسواق الاوربية"قالها يسر وهو يريني "صنع في الحمهورية العربية السورية" مكتوبة على لصاقة على المنتج, "اننا ننتج حوالي 300 قميص يوميا و 1500 قميص تعرق, ننتج ايضا البنطلونات القصيرة و ملابس رياضية بشعارات مثل نيويورك يانكيز و جورج هوياس",
و الذي كان ملحوظا اكثر بخصوص هذا العمل لم يكن التأثير الغربي الواضح و لكن حقيقة ان ادارته كانت تقوم به امرأة,
في مكتبها، أخبرتني ابتسام: "تحظى النساء بكامل حقوقهن في سورية، و تمتلئ المناصب الرفيعة بالنساء, و لكن الشركات الخاصة التي نتعامل معها لم تكن معتادة على ذلك في البداية, و الآن يبدو الوضع أسهل, اعتاد جميع الرجال على التعامل معي باحترام, اتعامل معهم بلطف وقد اكتسبت اسما جيدا في وسط الأعمال التجارية,"
عند هذه النقطة دخل ابن حمو ابتسام يطقطق بمسبحته, تذمر وهو يجلس في الكرسي بجانبي: "أتت ابتسام من عائلة تولي أهمية كبرى لرأي المرأة", مما أعطى ابتسام الفرصة للكشف عن بعض من براعتها و دلالة اسمها و الذي يعني "الابتسامة".
لأخذ الحافلة من حلب الى مدينة حماة تدفع كلفة 65 ليرة أي أقل من 1,60 دولار،, وقد جرت العادة على ان تكون الحافلات قديمة و مغبرة إضافة الى ان حجز المكان قبل يوم من السفر كان بمثابة محنة , تذكرت ما كنت سمعته مصادفة في عام 1989 حيث دمدم سوري يقف في الطابور عند المحطة لزوجته قائلا: "كان اسهل لو نذهب سيرا على الاقدام!" و لكن الان هناك عشرات من شركات النقل الخاصة تعمل خارج حلب و تتعزز الرحلة الهادئة بقطع من الشوكولا المجانية، أكواب من الماء، و عروض فيديو لأفلام سينمائية مصرية عبر جهاز تلفزيزن محمل في مقدمة الحافلة, وبينما تندفع ضجة أشجار الحور من الخارج، نتابع نحن فيلم "المنسي" الكوميدي لعادل امام و موسيقى راب دو كريس كروس الامريكية,
قرب مشهد البوابة الحجرية التي تنحني فوق الشارع الرئيسي في حماة، ساعدني شاب هاله ان يقف أجنبي ليشتري صحيفة عربية, سرنا في شارع جمال عبد الناصر معا، مررنا بمحل تجاري تحفل واجهته بصحون لاقطة للأقمار الصناعية يصل قطر الواحد منها الى 6 أقدام,"اعتقدت بانها غير مسموحة قانونا في سورية", قال: "لكنها شائعة, كانت الحكومة قلقة حيالها و لكن الأخبار اليوم لا يمكن السيطرة عليها, على كل حال، فانها ليست سياسية, معظم الناس مثلنا يستخدمونها لمتابعة البرامج الرياضة و متابعة الأفلام المصرية و التركية,"فاجأني أن الحكومة تبدو و كأنها تخفف من قبضتها بدقة - سامحة ببيع الصحون اللاقطة، و ترك الخيار مفتوحا امام تخريبها اذا رأت ضرورة ذلك, و لكن كان هناك المزيد, فالشاب الذي يدعى أحمد تطوع فجأة ليخبرني بان والده كان قد توفي, و عندما قدمت له التعازي، قال فورا: "كان ذلك في الماضي في عام 1982,"
كان يشير الى تمرد الأصوليين المسلمين "الاخوان المسلمين" في عام 1982 و الذي انتهى برد عنيف من حكومة الأسد, التفت بشكل عفوي الى الطريق من خلفي, كان هذا موضوعا حساسا و لكن أحمد لم يخفض من صوته, و تابع: "تعلم ما حدث, انه ليس سرا: أبقت الحكومة المدينة مهدمة لأشهر و بذلك كان بامكان كل شخص في سورية ان يأتي و يرى ما يحدث اذا قاومتهم",
انتهت أربعة أسابيع من القتال بوفاة ما يقارب من العشرين ألف شخص معظمهم من المدنيين وقد تم تهديم خمس المدينة بشكل كلي بما فيها بعض الجوامع, و استخدم المتمردون المنابر لدعوة العامة للتسلح كما استخدموها مواقع للقناصة,بينما كان أحمد مرتاحا لمناقشة المجزرة علنا، كنت لا أزال غير معتاد على هذا النوع من الانفتاح, و قبل ان اذهب في طريقي، أصر على دعوتي الى عشاء خفيف في منزل عائلته ذلك المساء مما قادني الى وسط نزاع عائلي,"اتركني و شأني!" صاح صبي في الثالثة عشر من عمره دافعا بي بينما كنت ادخل الشقة,"أريد ان اتحدث معك" تعجب شاب كان يلحق به,هز أحمد كتفيه بينما كان يضع ابريق الشاي و صحن الفواكه أمامي وهو يخفض صوت التلفاز و ينقله الى محطة لبنانية تبث فيلما امريكيا, و قال: "أخي الأكبر متدين - ليس متعصبا و لكنه ديُن, فهو يعتبر الموسيقا اثما, و أخي الأصغر يعزف على العود, و يهدده محمد دوما ليتخلى عن عزفه, و لكن طاهر لا يأبه له, لذلك قام محمد بتحطيم العود الى مئة قطعة, كان ذلك في العام الماضي, ادخر طاهر من ماله و اشترى عودا آخر و لكنه خبأه, انه يحتفظ به في شقة الجيران, غير ان محمد سمع بذلك و هو يريد ان يناقش الأمر,"
ان شعب حماة معروف عنهم تمسكهم بالدين، و رغم ان الغالبية من المتعصبين إلا أنهم يصفون أنفسهم بالمعتدلين اذ لا يود احد منهم ان يؤخذ عليه انه متعاطف مع جماعة الاخوان المسلمين المحظورة,
أعلن أحمد وهو يقطع ثمرة موز في طبقه: "لا أحب المتعصبين و انا سعيد لأن أيامهم ولت, ليس لدينا أي مشكلة تطرف في حين ان مصر و الجزائر لديها,"
لتحطيم المتمردين، بالغت الحكومة في تدخل القوات الجوية, لقد تحطم جوار الكيلاني القديم الجميل و المطل على نهر العاصي و فجرت المئذنة المربعة بأحجارها البيضاء و السوداء للمسجد الكبير، وهي من معالم حماه الأكثر شهرة, "كان عليهم القيام ببعض مما قاموا به, ولكن عندما انتهت - عندما اعتقدنا انها انتهت - قام الجيش بالانتقام, و حين ذلك قتل والدي, تخيل امي المسكينة, كنا هلعين,"
و رغم ذلك، كرر أحمد انه فخور بسياسة سورية غير المتسامحة في شأن المتطرفين دينيا و الذين فجروا القنابل و ارتكبوا المجازر, و أضاف متفاخرا بان رفعت الاسد شقيق الرئيس و الذي كان العقل الموجه لذلك الهجوم العسكري على حماه قد تم نفيه, و لكن رفعت عاد و استقر في المزة - إحدى ضواحي دمشق - عام 1992 عندما توفيت والدته.
ان أمواج التاريخ البي عصفت بسورية قد تركت في اغلب الاحيان اضرارا عميقة، و أكثرها الحملات الصليبية التي قام بها مسيحيون في القرن الحادي عشر و الثاني عشر و الثالث عشر بهدف سحب القدس من السيطرة الاسلامية, و لا زالت صورة المساحة بين المتوسط و الصحراء منقطة بقلاع الصليبيين الشاهقة الارتفاع و الفخمة بمقاييسهم و بعد فهي نصب اثرية اعتقدوا لغباء غرورهم ان الاحتلال سيدوم الى الابد, مثل اهرامات مصر، اعطت هذه القلاع الحياة للارض من خلال السياحة و حس التاريخ, و بينما كنت اسير على الشاطئ، حضرني ماضي سورية الطويل,
كان ذلك عندما سرت في فناءات قلعة صلاح الدين الصخرية، على بعد اميال من القرداحة مسقط رأس الرئيس الأسد، حيث تعرفت على آثار الصليبيين, اقتلع مرشدي (دليلي) اربعة ورود و قدمها لي, و قال: "نسميها بالعربية زهرة الصليب, هل تعلم كم بقي من تأثيرات تلك الأيام هنا؟ انك تجد المسلمين في الجبال يسمون جورج و ويليام, و يحتفل الفلاحون المسلمون هنا بعيد القديسة بربارة و التي كانت الحامية من الموت المفاجئ,"
و لكن أكثر الموروثات الملموسة هي بالطبع القلاع نفسها, في الشمال الشرقي من حماة، كنت قد رأيت قلعة مسيحية هي قلعة المضيق, لا تزال مأوى بجدرانها القوية و موقعها رأس تل مطلة على حقول القمح و آثار أفاميا، وقد تحولت الى بلدة سورية صغيرة جدا, و هنا أصابتني الدهشة بالوفاء بوعد صليبي و لكن العرب كان من وفا به: كان هذا تأدية عمل، نظام حكومي مندمج، ليس تركيب منفصل, ان مركز القلعة، ساحة الناصر، بعرض ما يقارب 30 خطوة, و سميت بذلك على اسم الرئيس القومي المصري.
في البداية كنت سألغي زيارة مدينة دير الزور - و التي يسخر السوريون من بعدها و قرويتها, و لكن موقعها على نهر الفرات، مخلفا عملاقا أخضر أشبه بدم الحياة لهذه الأمة القاحلة, يسير الطريق خلال صحراء لا يشوبها الا نادرا حركة الدبابات السوفيتية الصنع و التي تترك سحب من الغار في اعقابها, ان الصحراء النظيفة و النهر المتدفق بقوة ذكراني بشرق العراق,
أصر طبيب العيون و الشاعر الذي التقيته، قاسم عزاوي: "انك تقريبا في العراق!" و أضاف: "هذه سورية و لكنها مشابهة جغرافيا للعراق, و لكننا نحن سوريون و نحن ضد النظام العراقي," اخذني قاسم في سيارته و لف حول ابرشيات دير الزور، الجسر المعلق، المركز الثقافي الامريكي و السجن,
و علق قائلا: "لدينا سجناء سياسيين اكثر مما في دمشق", بدا و كأنه يتفاخر, فهل كان كذلك؟ "لا! لكن الناس في دير الزور يهتمون كثيرا بالسياسة," و أضاف: "لقد كنت مرة سجينا, كان ذلك في عام الثمانينات، عندما لاحقت الحكومة اليساريين و الاخوان المسلمين, وقد كنت يساريا",
جلسنا لتناول وجبة خفيفة في قهوة على ضفة النهر مقابل جسر هائل من الجير الأخضر الذي يظهر على كل بطاقة بريدية في المدينة, لأنه كان ذو عقل سياسي كما انه شاعر، أردت معرفة آراء قاسم في الخلافات الاخيرة: الشاعر السوري اللبناني أدونيس، أحد أعظم كتاب العالم العربي و الذي كان قد طرد من اتحاد الكتاب العرب, و ذنبه كان حضوره مؤتمر لليونسكو في اسبانيا قوطع من قبل معظم العرب و لكن حضره وفد اسرائيلي, و نقل عن أدونيس ايضا انه أكد على الاقرار باسرائيل كدولة مجاورة,
"انني أؤيد طرده, انني لا أكره سياسته و لكن غروره ايضا, انه يريد الفوز بجائزة نوبل, و في الغرب يمنحون هذه الجائزة للمطيعين الذين يؤيدون السلام, من جهتي أريد السلام ايضا و لكني اعتقد ان اسرائيل يجب ان تكون دولة علمانية, وهي تقوم بالتمييز ضد العرب و كل من هو غير يهودي,"
و توقف لبرهة عندما تساءلت اذا كان يؤيد عملية السلام - و ما كان تفكيره بخصوص الفكرة المثيرة للجدل حول إقرار سوري دبلوماسي كامل باسرائيل, أجاب: "قد يكلف التطبيع السوريين هويتهم, قبلت مصر بالتطبيع و لكن لمصر هوية ثقافية قوية لا يجب ان نعتمد عليها كمثل, نحن مختلفون,"
"قلت: "تلك نقطة خطير الاقدام عليها," عرفت ان الهوية القومية السورية خلافا للمصرية مرتبطة بقوة بمعارضتها المتشددة لاسرائيل، لكني ما زلت متفاجئا بصراحته, قلت له: "يمكن ان اكتب عنك تقريرا لنقص الاحساس الوطني لديك,"
ضحك بسعادة قائلا: "لست بحاجة لكتابة أي تقرير, هذه مدينة صغيرة, فكل شخص في دير الزور يعلم اليوم ان لدي زائر امريكي و الجميع يعرف انني اجلت اجراء عملية لأتناول العشاء معه, و أيضا، فان الجميع يعرف آرائي و لا يهمني الأمر, لقد تغيرت الأحوال,"
"تغيرت الأحوال" تصف تحديدا العهد الذي كانت فيه مخازن الكتب في دير الزور تحمل ذكريات جورج بوش و نورمان شوراتسكوف, بينما العرب يعتبرون عملية عاصفة الصحراء كتوحيد مربك للعرب مع حلفاء اسرائيل، كان سياسة سورية الرسمية أمر يفخر به: انحازت الى جانب الولايات المتحدة للمشاركة في تحرير دولة عربية, اليوم الكويت، غدا فلسطين, او على الأقل تعايش دولة فلسطينية مع اسرائيل بسلام,
قبل ان اغادر سورية، كان هناك شخص فقط أردت الحديث معه, و عندما وجدته في دمشق، رحب بي بتحية يهودية تقليدية: شابات شالوم!
لم اكن اتوقع الكثير من يوسف جاجاتي، رئيس التجمع اليهودي في سورية, في الدول العربية، يميل القادة اليهود ليكونوا اكثر ولاءا من الملك, حسب تجربتي، تسألهم عن اسرائيل و تتلقى منهم محاضرة عن شياطين الصهيونية, و لأجد طريقي خلال الزقاق الضيق القديم الممتد كشبكة العنكبوت الى الغرب من شارع الأمين في المدينة القديمة، صحبني موظف من وزارة الاعلام,
يوسف في متوسط العمر وهو رجل بشارب يمكن ان يبدو أرمينيا، مسلما او أي تاجر سوري, انه يدير مخزنا و محل خياطة في الطابق العلوي في قلب دمشق و لكنني التقيته صباح السبت في الحي اليهودي في المعبد اليهودي بعد مراسم التعبد,
في دمشق اثنان و عشرون معبدا يهوديا منها سبعة رئيسية, هكذا قال لي يوسف, و هذا المعبد أنشأه قبل بضع مئات من السنين يهودي متحدر من اسبانيا, كان اليهود السوريون تحت بقعة الضوء قبل ابتداء المحادثات العربية الاسرائيلية في عام 1991, عندما هاجرت جاليات يهودية من الدول العربية بعد اعلان تأسيس الدولة في عام 1948، أرغم آلاف من اليهود السوريين على البقاء, وقبل سنوات عديدة، وضعت الحكومة السورية قيودا على مغادرتهم و عندما استبدلت الهويات السورية و لم يذكر فيها شيء عن الانتماء الديني، فان حامليها من اليهود ذكر على بطاقاتهم كلمة موسوي "اتباع موسى", و في بداية التسعينات، سمح لهم بالمغادرة فغادر الكثير منهم و حاليا يتم استخدام معبدين فقط, و لكن القصة لم تنته هناك بعد,
قال يوسف: "لقد عاد بعضهم، أحد معلمينا جرب الاقامة في باريس و لكنه عاد, والد هذا الاستاذ يذهب في زيارات من أجل العمل, وقد كان متوقعا لهم ان يصبحوا اغنياء و لكنهم لم يستوعبوا حجم جريمة الانسلاخ عن المجتمع, هنا في المدينة القديمة، نحن كلنا عائلة واحدة يهود و غير يهود و نستمتع مع جيرتنا و نثق بكل الناس,"
وقد تساءلت: "كيف كان خوف اليهود السوريين خلال الحروب العربية الاسرائيلية في هذا البلد,
قال يوسف: "لقد كنا آمنين, و لكننا شعرنا بوضع أفضل بعد الحركة التصحيحية, هذه الحركة دفعت بالأسد الى مركز السلطة في 1970, لقد كان معروفا ان الاسد وهو عضو من اقلية دينية (طائفة العلويين المسلمين) و الذي كان حازما في ضم الفئات الدينية, وقد كان هو من أزال كلمة الموسوي من البطاقات الشخصية لليهود,
"اننا نشعر اننا نستطيع ان نذهب و نعود, لا يوجد أي خطر فيما اذا غادرنا او في العودة الى هنا", هذا ما قاله المحامي شحادة القاطري, عندما كنا نتحدث، غادر الكنيس حوالي اربعين شابا من المتعبدين يلبسون بزات غامقة و ربطات عنق, و خرج الى البوابة بعض الصبية يصيحون خلفهم وهم يغادرون الباب الرئيسي شابات شالوم, مراد بن يوسف مراهق و يضع جهاز تقويم لأسنانه، وقف بتحفز منتظرا فرصة لكي يقاطعنا و يستخدم لغته الانكليزية,
لقد تساءلت عن مهام يوسف كمسؤول عن الرعية اليهودية التي بقيت هنا, قال: "حتى الآن, لقد اتصلنا بكل الجمعيات اليهودية في العالم ما عدا اسرائيل وقد حضرت نفسي لالقاء محاضرة عن حقوق الفلسطينيين, و مرافقي من وزارة الاعلام كان في حالة صدمة مما يسمعه, "انني أشكر الرؤساء كلينتون و الأسد و كل من يريد السلام و انا اقصد السلام في كل مكان ليس فقط في الشرق الأوسط و لكن في سراييفو أيضا و في كل مكان, لقد زرت الأسد و تحدث عن السلام و شعرت برغبته في تحقيق ذلك, انه يعرف ان السوريين يرغبون بالسلام, و نحن نريده حالا و نريده اليوم و انا راغب في السلام مع اسرائيل اليوم بعد الظهر!", لقد غادرت فناء الكنيس و انا اشعر ان السلام بين سورية و اسرائيل لم يكن من السهولة ان يتحقق, و لكن السلام في داخل سورية نفسها كما اقترحته آمال و ثقة هذه الطائفة اليهودية ان السلام ليس بالامكان تحقيقه فقط و لكن في بعض المقاييس اصبح موجودا فعليا, وضعني هذا في مأزق كصحفي متشائم من امكانية حدوث سلام,هل كان الناس يبتسمون لانهم كانو يعتقدون ان كل شيء جيد؟ او انهم كانوا يؤمنون ان الامور ستتغير فعلا؟
حزيران 1996
(ناشيونال جيزغرافيك)