آخر الأخبار

مذكرات د. علاء بشير طبيب صدام حسين الخاص(2)

مأساة الحرب مع إيران

عند التحاقي بفريق الأطباء الخاص بالرئيس، كان الفريق يتكون من عشرة من الأطباء المتخصصين الذين يتولون علاجه، هو وأفراد أسرته القريبين منه. وبالتدريج أصبحنا من عشرين إلي خمسة وعشرين طبيبا. كان صدام يهتم دائما اهتماما بالغا بأن يدفع قيمة الاستشارات والخدمات التي طلبها، إذ لم يكن يحب أن يكون مدينا لأحد بشيء. كان صدام يعبّر عن احترامه لي وتقديره في كل مناسبة ألتقيه فيها. كان يحميني من كل الذئاب المحيطة به، والذين كان ارتيابهم وعدم رضائهم عن أن احترامي لدي الرئيس يزداد يوما بعد يوم. كان ذلك له قيمة الذهب.

كان هناك كثيرون لم يواتهم الحظ مثلي، ففي أثناء الحرب كانت قوات الأمن والمخابرات تقتفي أثر من يعارض الرئيس ونظامه أو من تظن فيه ذلك. وكانت هذه الأعمال تزداد ضراوة يوما بعد يوم. كان فايق ولائق وصادق ثلاثة من أقربائي، وقد تجاوز كلٌّ منهم العشرين من عمره. أخذوا ذات ليلة واتهموا بأنهم من المتضامنين مع حزب الدعوة الإسلامي المحظـور. لم يكـن هنــاك حديـث عن محاكمة لهم أو لغيرهم من الآلاف المؤلفة من العراقيين الذين كانوا يوارون بعد إعدامهم في المقابر الجماعية.

الحفاظ علي السلطة
كان وزير الإعلام والثقافة، الكمالي، واحدا من قليلين للغاية علي قمة الجهاز الحاكم ممن كانوا يحاولون الحد من أعمال التطهير هذه. كان واحدا من مؤسسي حزب البعث، وكان عضوا في القيادة القطرية. في أحد اجتماعات المجلس تساءل الكمالي عما إذا كان من الصواب قانونيا أن تظل المخابرات مصرة علي ما تقترفه من أعمال اعتقال وتعذيب للأبرياء من آباء وإخوة المتهمين من المعارضة التي لم تتمكن من إلقاء القبض عليهم. ثم قال: «إن هذا من شأنه أن يضر بسمعة الحزب والحكومة». كان صدام ينظر إليه ولم يقل شيئا، وبعد انتهاء الاجتماع أخذ صدامٌ الكماليَّ جانبا.

«اسمع أيها الرفيق. إذا كنا نرغب حاليا ومستقبلا في الاحتفاظ بالسلطة في العراق، فيجب أن نحكّم العقل وليس العاطفة».

ولم يمر وقت طويل حتي جاء وزير جديد للإعلام والثقافة في العراق. أما الكمالي فقد ألقي به في السجن، وكان يعاني هزالاً شديداً بعد إطلاق سراحه بعد بضعة أشهر. وقبل وفاته بفترة وجيزة حكي لي الكمالي عما كان يدور في القيادة القطرية.

كانوا يتعقبون أناسا من جميع الطبقات ويقتلونهم دون تمييز، ذلك ما حدث للدكتور رياض إبراهيم أيضا. كان في رأيي أفضل وأذكي وزير صحة في العراق علي الإطلاق. كان واحدا من الأعضاء الأوائل في حزب البعث، وقد ألقي القبض عليه في عام 1958 بعد المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس عبد الكريم قاسم في بغداد، حيث كان قد ساعد في إخفاء الأسلحة التي استخدمها صدام حسين والمتآمرون معه في محاولة الاغتيال. لكنه خرج من ذلك الأمر بعقوبة السجن فقط.

ولأن شأنه شأن كثيرين من الذين انضموا إلي حزب البعث، كان رياض رجلا مخلصا مستقيما. كان يؤمن بالأفكار الأساسية للحركة من تعاون بين الدول العربية وتقسيم عادل للأموال والثروات المعدنية. عرفته رجلا يهتم اهتماما حقيقيا بمصلحة الشعب العراقي، وقد منحه لقب الدكتوراه في الطب ـ الذي حصل عليه من إنكلترا ـ المقوماتُ التخصصية الضرورية التي بسببها تقلد منصب وزير الصحة.

الانتقاد ثمنه القتل

لكنه كان يحيا حياة خطرة. كان يسخر من غباء وعجز زملائه الوزراء، كما كان ينتقد هؤلاء الذين كانوا من الموافقين دائما في مجلس الشعب، ويتحدث عن الطرق الغريبة التي وصلوا بها إلي مناصبهم.

وفي يوم من أيام صيف عام 1982 طُلب مني أن أذهب إلي وزير الصحة رياض إبراهيم في الوزارة. لم أكن أعرف سبب استدعائي، لكني عندما دخلت عليه في مكتبه، قال لي إن اثنين من رجاله سوف يصطحباني عما قريب إلي رجل له مكانة مهمة جدا.

لم يصرح لي إبراهيم مَن يكون الرجل أو ما هو سبب المقابلة.

«لا تتردد في أن تقول رأيك عندما تقابله، فأنت غير مقيد بشيء»، ذلك ما أكده لي وزير الصحة.

أخذتني سيارة مرسيدس سوداء بزجاج غامق إلي بيت صغير واطئ في حي الجادرية. كان هناك من ينتظر قدومي. قُدم لي الشاي، وعلمت أن رئيس القسم المختص بسوريا في المخابرات هو الذي يرغب في إجراء هذا الاستجواب معي.

عملية اغتيال في دمشق

دخل علي الفور في الموضوع.

«هناك سوري يقيم الآن في بغداد ونود أن نعيده إلي دمشق لينفذ عملية اغتيال هناك. لكن السلطات السورية تعرفه جيدا. لذلك نرجوك أن تغير ملامح وجهه تماما».

شكرته علي ثقته الكبيرة في مهاراتي الجراحية، ولكني رفضت معتذرا.

«ليس بمقدوري أن أنفذ هذه الرغبة، لأنها ضد مبادئي الشخصية وضد تصوراتي عن أخلاق المهنة».

أجاب: «حسنا. فلتنس هذا اللقاء ولا تنبس بكلمة عنه لمخلوق أبدا».

في صباح اليوم التالي توجهت إلي رياض إبراهيم وحكيت له عن هذا المطلب.

«هل كنت تعلم بما سيطلبونه مني»؟

«نعم»، أجاب رياض مضيفا: «وقد أوضحت لهم أنك لن تقوم بشيء من هذا القبيل أبدا. لذلك فقد قلت لك بالأمس علي سبيل الاحتياط أنك حر في التصرف كما يحلو لك».

كان في مقدورنا أن نتحدث بصراحة عن كل هذه المواضيع في مكتب رياض إبراهيم. أما عند بقية الوزراء فقد كان المعتاد تجنب الخوض في أحاديث تمس الدولة وأمنها.

تزوير شهادة

لا أعرف مَن مِن ذوي النفوذ العالي لم يعد يرغب في نهاية المطاف في بقاء رياض إبراهيم. فقبل أن يعزل عن منصبه في عام 1982، كان قد روي لي أن هيئة أركان الرئيس ترغب في إرسال طبيب بيطري إلي الخارج ليتخصص في الأساليب الوقائية في حالات التسمم. كان الطبيب البيطري قد حصل علي منحة في معهد طبي في الولايات المتحدة الأميركية، وما ينقصه الآن هو فقط أوراق من وزارة الصحة تشهد بأنه طبيب بشري وليس طبيبا بيطريا.

ورفض الدكتور إبراهيم ذلك.

«ستفقد وزارة الصحة للأبد مصداقيتها إذا وافقنا علي شيء من هذا القبيل»، ذلك ما قاله الوزير وهو في ثورة عارمة عندما اتصل به أحد العاملين في القصر الجمهوري، وسأله لماذا يستغرق الأمر وقتا طويلا حتي يجعلوا من الطبيب البيطري طبيبا بشريا؟!

وسبق السيف العذل بسرعة فاقت تصورات رياض!

وجهت له فجأة تهمة تحمل المسؤولية عن سلسلة من حالات الوفاة حُقن فيها المرضي في الوريد بكميات من كلوريد الكالسيوم عالية التركيز. وعُزل إبراهيم عن منصبه، وشكلت لجنة للتحقيق. وبعد ذلك بعدة أسابيع قُبض عليه وألقي به في السجن.

بلا حراك!

وقد زرته في داره قبل اعتقاله. كان مندهشا من حرسه الشخصي الذين كانوا لا يزالون يحرسون منزله، فقد كانوا عادة ما يسرعون إليه ليفتحوا له باب الجراج عندما كان يريد الخروج بسيارته الرسمية قبل عزله. وها هم الآن ساكنون في أكشاك حراستهم بلا حراك مثل الأصنام.

ثم قال لي: «لقد كنت أحضر إليهم الطعام بنفسي كل ليلة».

أجبته إنه ليس من المفروض أن يدهشه شيء هكذا، «فهؤلاء الناس علي هذه الشاكلة».

ضحك رياض إبراهيم. وبعدها بعدة أسابيع اتهم بقضية الدواء وسجن.

وقد برأت لجنة التحقيق الوزير من كل التهم المنسوبة إليه، فقد اتضح أن صلاحية كلوريد الكالسيوم المصنوع في شركة أدوية فرنسية لم تكن قد انتهت، لكن نسبة تركيز كلوريد الكالسيوم في المحلول كانت أعلي من النسبة المعتادة، ولم يعرف العاملون في المستشفي أن المحلول كان يجب أن يخفف قبل أن يأخذه المريض كما تنص علي ذلك نشرة التعليمات.

لكن نتيجة التحقيق لم تجدِ شيئا. فقد قُتل إبراهيم بعد ستة أسابيع من بقائه في السجن. كنت قد زرت زوجته قبل أن يقتله النظام بيومين للاستفسار عنه، فقالت إنها استلمت رسالة كتبها زوجها علي قصاصة من الورق واستطاع أن يهربها من السجن. كان مكتوبا فيها أنه سعيد لأنه سيري زوجته وأولاده مرة أخري بعد أن ثبت أن الاتهامات الموجهة إليه لا أساس لها من الصحة. وأضاف أن الرئيس سيطلق سراحه في اليوم التالي فور أن يتسلم تقرير اللجنة ويقرأه.

نزع العينين

تولي أخوه أمر الجنازة مع الدكتور غازي الهبش، وهو من أنبل الأطباء الذين عرفتهم، والذي أخبرني بأن فك الدكتور رياض إبراهيم كان مهشما، وأن جسمه كانت تغطيه البقع الزرقاء. كما روي لي أن النيران قد أطلقت عليه من مكان قريب جدا، فأصابته رصاصة في رأسه، وفي منطقة الحوض وفي فخذه. كما انُتزعت عيناه.

كان مستشفي ابن الهيثم في بغداد يتلقي دائما مددا طازجا من ضحايا الإعدامات، وقد أنقذ قسم العيون في المستشفي كثيرا من المرضي المصابين في قرنياتهم من أن يفقدوا نور أعينهم عن طريق استبدالها بقرنية تم التبرع بها!

في بغداد كانت هناك كثير من الاشاعات حول من قام بقتل رياض إبراهيم. كانت أكثر الاشاعات خيالية تلك التي تقول ان صدام هو الذي أطلق عليه النيران بنفسه بعد أن طلب منه في أحد الاجتماعات الحكومية أن يذهب معه إلي الدهليز للحظة. لكن من المستبعد أن يكون رياض إبراهيم قد اشترك في اجتماع كهذا، لأنه كان قد عزل عن منصبه كوزير للصحة قبل مقتله بعدة أسابيع.

كانت هناك اشاعة أخري تقول ان برزان التكريتي، وهو الأخ غير الشقيق لصدام، هو الذي قتل رياض إبراهيم. كان برزان يتقلد آنذاك منصب رئيس المخابرات عندما قتل رياض.

في عام 1985 أتي إليّ برزان في مستشفي الواسطي لأجري له عملية بسيطة، وبعد ذلك تحدثنا سويا لبعض الوقت. أشرت إلي الأجهزة الحديثة في غرفة العمليات. قلت إن الفضل في حصولي علي هذه الأجهزة يرجع إلي الدكتور إبراهيم.

أجاب برزان: «كان إعدامه خطأ فادحا وجريمة وخسارة كبيرة للحزب والعراق». لكن أخا صدام غير الشقيق لم يكن يرغب في الحديث أكثر من ذلك عن هذه القضية. وظل الأمر كذلك في جميع أحاديثنا الطويلة التي جمعتنا بعد ذلك.

لم يكن الدكتور إبراهيم الشخص الوحيد من بين زملائي الذي دفع حياته ثمنا لصراحته. فقد صُفي كلٌّ من زميليَّ الماهرين الدكتور هشام السلمان، والدكتور إسماعيل التاتار، حيث لم يكن لدي كل منهما القدرة علي الإمساك بلسانه.

كان التاتار طبيب أمراض جلدية، وكان واحدا من الفريق الطبي الخاص بالرئيس. أما السلمان فقد كان واحدا من أفضل أطباء الأطفال في العراق.

نكات بريئة

وفي أحد الاحتفالات التي كان يعمها جو من الفرح والمرح، ألقي الطبيبان بعض النكات البريئة التي لا تخلو مع ذلك من إيحاءات خادشة للحياء العام عن صدام حسين، وكانت عن تطبيق قواعد جديدة أكثر صرامة لمكافحة الإيدز. كان كل منهما معروفا بحبه للدعابة دون تحفظ، لكنهما لم يعرفا أن واحدا من المشاركين في الاحتفال كان ممن يتعاونون بشكل واضح مع رجال الأمن، حيث سلط كاميرا الفيديو الخاصة به عليهما خلسة.

أحضر التسـجيل إلي الرئيـس الـذي أمر علي الفور بإعدام كلا الطبيبين لأنهما شهرا به .

لا للتدوين

اعتدت علي تدوين كثير من الأحاديث التي كنت أجريها مع الضحايا من الشباب الذين كانوا يأتوننا من الجبهة. لكنني أدركت مع مرور الوقت أنني ألعب بالنار، فقمت بإحراق جميع المذكرات قبيل نهاية الحرب حتي لا أدخل في مغامرة لا داعي لها، فسقوط هذه الروايات في أيدي المخابرات ومخبري الشرطة السرية الذين لا حصر لهم كان سيعني الموت المحقق.

فقط عندما كانت الوفود الرسمية بصحبة مرافقيها من الصحافيين تأتي إلي مستشفي الواسطي لمنح المرضي جوائز لشجاعتهم، كان المرضي يمتلئون بالعزيمة القتالية، والرغبة العارمة في العودة إلي الجبهة ليقاتلوا الإيرانيين من جديد. وفيما عدا ذلك كانت الروح المعنوية للمرضي منخفضة للغاية.

وعندما كان الجنود والضباط ينفردون بي، كانوا يتحدثون بصراحة وباطمئنان، فقد كانت أهوال المعارك بعيدة كل البعد عن المستشفي، وكانوا علي ثقة بأن أحاديثنا ستخضع لواجب الصمت تجاه أسرار المرضي.

كانت أغلبيتهم الساحقة ضد الحرب، فلم يكن في مقدورهم تفهم السبب في أنهم يقاتلون مسلمين مثلهم.

هدف.. واحد

في عام 1983 قمت بإجراء عملية جراحية لمصور كنت أعرفه جيدا. كانت قد أصابته رصاصة في يده اليمني، وبعد أن تماثل للشفاء أرسل إلي الجبهة ثانية. في صيف عام 1985 اشترك في واحدة من أكثر المعارك دموية في الأراضي الإيرانية، ليس بعيدا عن نفط خانة. اندلعت المعارك في منتصف الليل، وتكبدت كتيبة المصورين خسائر فادحة، ولكن هذا المصور تمكن من الاختباء هو وجندي آخر في أحد الخنادق، حيث رقدا في صمت وسكون آملين ألا يُكتشف وجودهما.

وسرعان ما قفز جنديان آخران في الخندق، ليتلوهما ثلاثة آخرون. كان الظلام دامسا حتي أنه لم يكن في مقدور أحدهم أن يري يديه هو نفسه. ولم يجرؤ أحدهم علي الهمس مخافة أن يسمعهم جنود الأعداء ويكتشفوا مكانهم.

وعندما طلع الصباح تبين أن اثنين ممن اختبآ معهم في الخندق كانا من الجنود الإيرانيين، وأن الثلاثة الآخرين كانوا عراقيين.

«نحن جميعنا مسلمون، ولا يجوز أن يقتل كلٌّ منا الآخر»، كان ذلك ما قاله الإيرانيون.

هرب الإيرانيون، وكذا فعل العراقيون.

معرض فني

في فبراير من عام 1984 أقمت في الوقت نفسه معرضا فنيا في غاليري الرواق في شارع سعدون في وسط بغداد، حيث تناولته الصحف والبرامج التلفزيونية بالعرض تفصيليا.

وذات يوم سألني أحد المرضي أثناء الكشف عليه في مستشفي الواسطي، وكان يدعي «كريم»، يسكن مدينة صدام التي تسمي اليوم مدينة الصدر، عما إذا كان يمكنه الحصول علي نسخة من كتالوغ المعرض مذيلا بتوقيعي. اندهشت، فلقد كان غريبا أن يفكر أحد الجرحي العائدين من الجبهة في الفن، ناهيك عن الفن الحديث. لكن كريما كان قد قرأ المقالة الخاصة بالمعرض في الجريدة، وشاهد صورة لإحدي لوحاتي: حجرة خالية بها نافذة صغيرة، يتخللها شعاع خافت من ضوء الشمس سقط علي رأس رجل مغلف بقطعة من القماش، ومعلق في السقف. وفي نهاية الحجرة يوجد باب يقود إلي حجرة جانبية، ومنها إلي حجرة أخري، وهكذا دواليك حتي يقود الباب الأخير إلي مشهد طبيعي خلاب، سماؤه تامة الصفاء.

كان كريـم من أبطال الحرب، حيث حصل تقديرا لعملياته في أرض العدو علي ما لا يقل عن خمسة أنواط للشجاعة. كان قد أصيب بطلق ناري في ساقه اليمني، وكان عليَّ أن أنقل بعض الأنسجة الجلدية من فخذه، وبعض العضلات من ظهره، لأسد بها الفجوات في النسيج المتهتك والناجمة عن الطلق الناري.

أطلق النار علي نفسه

حققت العملية نجاحا أكبر من المتوقع. وبعد أن ظل كريم راقدا في المستشفي لمدة ثلاثة أسابيع تمكن من السير مرة أخري، وخرج من المستشفي. لذلك تملكتني الدهشة عندما وجدته يترقب ظهوري أمام المدخل الرئيسي لمستشفي الواسطي بعدها بستة أسابيع.

سألته: «هل عاودتك المتاعب في ساقك»؟

أجاب كريم: «لا، لكنني أود أن تقرأ هذا».

أعطاني ورقة كتب عليها قصيدة يمتدحني فيها كطبيب وفنان. كان مكتوبا عليها في أسفلها أنه يريد الاعتراف بشيء ما، ويريد أن يتحدث معي علي انفراد.

وافقت ودعوته لدخول مكتبي.

قال كريم: «منذ رأيت لوحتك لم أذق للراحة طعما. لقد أعياني الشعور بالذنب، وتأنيب الضمير. إن النتائج المترتبة علي ما سأقصه عليك الآن لم تعد تهمني في شيء».

أجبته إن ما سوف يعترف به لن يطلع عليه سوي الله وسواي.

قال كريم: «لقد أطلقت النار بنفسي علي ساقي».

في نهاية الأمر لم يستطع التحمل أكثر من ذلك.

لم يكن يخشي مواصلة القتال، فقد كان شجاعا مقداما. أفضل دليل علي ذلك هو أنواط الشجاعة التي حصل عليها. لكنه كان يشعر أن إرادته قد خانته تماما، فلم يعد يتحمل فكرة مواصلة القتال أكثر من ذلك. كان يرقد في الخندق ويصارع نفسه، في حين كانت الوحدة التابع لها تعد لإجراء توغل جديد في المواقع الإيرانية التي كانت تبعد بضع مئات من الأمتار.

وبعدما صدرت الأوامر وبدأ زملاؤه الهجوم وشعر فجأة أنه لم يعد يستطيع التحمل.

«صعدت إلي ما يزيد علي حافة الخندق، وأطلقت أنا نفسي الرصاص من بندقيتي الكلاشينكوف علي ساقي. لا بد أن عدد الطلقات كان قد تعدي عشر طلقات».

رد فعل إنساني

فقد كريم الوعي، ونُقل إلي مستشفي عسكري في مدينة الكوت في منتصف الطريق بين البصرة وبغداد، حيث عاد إلي وعيه مرة أخري. وهناك نُقل إلي مستشفي الواسطي بصفته بطل حرب.

قال لي: «يمكنك أن تروي ما حكيته لك للسلطات».

بدا عليه أنه باعترافه هذا قد حطم كل جسور الخوف بداخله.

قلت له إن هذه التجربة التي عاشها ما هي إلا رد فعل إنساني طبيعي، وأضفت أنه أمر جيد أن يدرك بنفسه أنه ربما كان عليه أن يتصرف بشكل آخر.

«لكن هذا الأمر الذي تحدثنا عنه سيبقي بيننا نحن الاثنين وبين الله. لن يعلم به شخص آخر. لا تخش شيئا»، كان ذلك ما وعدته به.

وفي يوليو من عام 1984 وصل إلينا جاويش مصاب بحروق في المنطقة القطنية. لم يخطر علي بال أحد في المستشفي الميداني البدائي الذي وصل إليه في بادئ الأمر أن يديره في السرير علي جنبه الآخر، إذ لم يكن بمقدوره الحركة حيث أصابته رصاصة في النخاع بالشلل في المنطقة القطنية. كان مسقط رأسه محافظة الديوانية في وسط العراق، وكان يبلغ من العمر أربعة وعشرين عاما. كان قوي البنية، مفتول العضلات، وكان أحد أفراد سرية العمليات الخاصة التابعة لواحدة من وحدات القوات الخاصة في الجيش العراقي.

مهمة خطيرة

طلبت منه أن يقص عليَّ ما حدث، وعلمت أنه كان وأربعة من الجنود الآخرين من فريق الاستطلاع التابع للقوات الخاصة في قارب مطاطي في واحدة من أكبر مناطق الأهوار في جنوب العراق. كانت مهمة شديدة الخطورة. وكان واحد من الأربعة صديقا حميما له، حيث كانا من القرية نفسها، وكانا يجلسان في الفصل نفسه في المدرسة الابتدائية، وفي المدرسة الثانوية، كما تقدما سويا في الوقت نفسه لأداء الخدمة العسكرية، وقد اجتاز كلٌّ منهما اختبارات القبول التي تتطلب لياقة بدنية عالية، وقُبلا في وحدة العمليات الخاصة التي كانت تحظي بمكانة رفيعة. وفي نهاية المطاف انتهي بهما الأمر إلي السرية نفسها التي تحركت بعد منتصف الليل بقليل لتنفيذ مهمتها الخطرة بالقرب من خطوط العدو في منطقة الأهوار.

شــرب.. الــدم

تمكنوا لفترة طويلة من الاختباء في القصب الكثيف، ولكن بعد عدة ساعات اكتُشف موقعهم وأطلقت عليهم النيران. كان هذا الجاويش أول من أصيب، وفقد الوعي علي أثر ذلك. وعندما أفاق، اكتشف أنه ليس بمقدوره تحريك ساقيه. وفي أثناء ذلك كان الصبح قد بزغ، وكان القارب المطاطي يرقد في القاع علي عمق نصف المتر. أما الأربعة الباقون الذين كانوا معه في القارب فقد طفت جثثهم في مياه الهور بين سيقان القصب الكثيف، وكان صديق عمره يبعد عنه بمقدار ذراع.

ارتفعت الشمس في كبد السماء وارتفعت معها درجة الحرارة. كانت درجة الحرارة علي الأقل خمسين درجة مئوية في الظل، إذا كان هناك ظل. نفد ماء الشرب الذي كان مع الجاويش. وكانت قربة المياه الخاصة بصديقه التي وصل إليها بعد عناء قد ثقبتها رصاصتان. كانت فارغة. إذا كان يريد النجاة فعليه أن يشرب من ماء الهور الذي كان قد اصطبغ باللون الأحمر، لون دماء صاحبه. في النهاية أصبح لا يقدر علي تحمل العطش، ولم يعد يستطيع أن يسيطر علي نفسه. شرب، وكان يحاول في أثناء ذلك يائسا بما تبقي عنده من قدر يسير من القوة أن يدفع زميله، ودمه، بعيدا عنه.

«لم يجهزنا أحد لمثل هذا عندما أنهينا تدريبنا في القوات الخاصة»، ذلك ما قاله لي الجاويش. الزمن وحده أجبرنا علي شرب دماء أصدقائنا.

كان سلوك الجاويش حريا بالإعجاب في مجالات عديدة. كان قد تزوج قبيل الحرب ابنة عمه التي تبلغ من العمر ثمانية عشر ربيعا. كانت رائعة الجمال. ولم يكن لهما أولاد بعد. عندما جاء والده ليزوره، طلب الجاويش منه أن يطلب من زوجته رفع دعوي للطلاق.

«إذا لم تقم هي بذلك، فسأفعله أنا».

لم يكن هذا يعني أنه لم يعد يحبها، بل علي العكس، فقد كان يحلم طيلة الوقت بها. لكنه لم يكن يرغب في أن تزوره.

«لا يمكن أن أجعلها تخدمني طيلة حياتي. فلو فعلت ذلك، لكان جرما مني حقا».

كان مثل هذا التفكير غير مسبوق في المجتمع القبلي في وسط العراق الذي نشأ فيه هذا الجاويش، فما كان واحد من المرضي الآخرين الذين لقي الآلاف منهم المصير نفسه ليقول شيئا من هذا القبيل، إذ كانت مثل هذه الأفكار غريبة علي المجتمع القبلي التقليدي في وسط العراق. لقد كان شابا نبيلا وشهما واستثنائيا حقا!