الجوع
بعد انتهاء حرب الخليج، وقمع الانتفاضة في الجنوب، والشمال، بدأ زحف الفضائيات، حيث اقتنيت أنا الآخر جهاز استقبال معه طبق كبير فوق السطح. لم يكن هذا مسموحا به تماما من وجهة النظر القانونية، غير أن النظام أغمض عينيه عامدا عن أننا وسعنا دائرة برامجنا الإخبارية، والمغامرات المسلية بعض الشيء، ولم نقنع بما تفرضه علينا التلفزيونات الحكومية، وتلفزيون الشباب التابع لعدي.
سفاح الفلوجة
بعد فترة من الوقت تحولت الأطباق فوق أسطح منازل بغداد إلي غابة حقيقية. هنا قرر صدام أن الأمر قد تجاوز الحد، وأعطي توجيهاته لأخيه غير الشقيق سبعاوي التكريتي، الرئيس الجديد للمخابرات، بالتدخل. قام سبعاوي بدوره بتحويل هذه المهمة إلي عامله المخلص إبراهيم علاوي.
كانت مدينة الفلوجة هي مسقط رأس علاوي الذي كان واحدا من أكثر سفاحي النظام فسادا ودموية. رقي إلي رتبة اللواء، وأصبح مديرا لأمن بغداد. في ذات عصر يوم من الأيام وقف رجاله أمام بابي لقطع الإرسال الفضائي.
«نما إلي سمعنا أنك تملك جهاز استقبال فضائي»، قالها ضابط الشرطة. كان برتبة النقيب، وارتدي مثل مرافقيه من الضباط الزي المدني.
رددت عليه بقولي: «ليس هذا سرا، فما عليك سوي النظر إلي السطح».
لم نحاول مطلقا إخفاء الطبق كبير الحجم.
قال: «هذا غير مسموح به».
«وكيف لي أن أعرف هذا؟ فحسب ما أعرف فإن مثل هذا الحظر لم يعلن عنه أبدا في الجرائد، ولا في التلفزيون».
«إن هذا محظور».
دخلوا إلي المنزل، وأخذوا جهاز الاستقبال معهم.
«سنحضر غدا لأخذ الطبق».
تجارة الأطباق
بعدما رحلوا عنا أرسلت ابني الأوسط تحسين إلي السطح. بالطبع كنا نعرف ماذا كان يحدث. كان أخو صدام غير الشقيق، وإبراهيم علاوي يجنيان مبالغ طائلة من حظر الإرسال الفضائي.
من كان عنده استعداد لدفع بعض المال كان يسمح له بالاحتفاظ بجهاز الاستقبال والطبق. أما من كان يرفض فلم يكن أمامه إلا أن يرضي صاغرا بأن يصادر جهاز الاستقبال والطبق، وأن يباع بعد ذلك لمشاهد جديد لديه استعداد أكبر للدفع. وبما أنني كنت علي علاقة جيدة مع الرئيس فلم يجرؤ النقيب في هذه الحالة علي أن يقترح حلا عمليا لهذا الأمر.
حلَّ تحسين مسامير «القلاووظ» الممسوك بها طبق الاستقبال، وتركه يهوي هكذا بكل بساطة علي الأرض.
ثار رسول اللواء علاوي ثورة عارمة حينما وجد الطبق في صباح اليوم التالي محطما.
انتشرت الإشاعات في بغداد حول هذه الأحداث. وفي ذات يوم عندما كنت أعالج ساجدة، الزوجة الأولي للرئيس، أثارت معي الموضوع.
«سمعت أن رجالا من الشرطة السرية كانوا عندك ليصادروا جهاز الاستقبال الخاص بك. لقد كان فعلا شيئا رائعا أنك حطمت الجهاز في وجودهم، هكذا بكل بساطة».
«لم يكن الأمر هكذا تماما، فالـصحيح أن الطبق تحطم قبل أن يستطيعوا أخذه».
«ومع ذلك فقد كان عملا رائعا منك».
لم أقتن جهاز استقبال جديد. كان يمكنني في الغالب تركيبه والاحتفاظ به أيضا، لكنني كنت سأعطي وقتها قطيع الذئاب المحيط بالرئيس فرصة سانحة للطعن فيّ، فدائما ما كان هذا القطيع يبحث عن نقاط ضعف يمكن أن يستغلوها في هذه الدوامة الأبدية من الحقد، والمؤامرات، والصراع حول النفوذ.
معاقبة سفير
كان علي السبتي واحدا من العاملين في السلك الدبلوماسي. كان سفير صدام في طرابُلس. وعندما عاد في منتصف التسعينات من ليبيا إلي بغداد اقتني جهازا لاستقبال الإرسال الفضائي. كان منتقدا ، لاذعا في سخريته، وكان لا يترك شيئا تقريبا مما يحدث من حوله إلا وأبدي عليه تعليقه. أصبح مدير إدارة في وزارة الخارجية، حيث وقعت في دائرة اختصاصه العلاقات مع إيران بالذات. لم يلق أسلوبه وتعليقاته هوي خاصا لدي الوزير محمد سعيد الصحاف.
ذات يوم «اكتشف» الأمن كل من الطبق وجهاز الاستقبال الخاصين بعلي السبتي. دخل مدير الإدارة إلي السجن، حيث أُفرج عنه بعد ثلاثة أشهر ليمْثُل أمام الرئيس الذي قال له: «لقد عاقبتك حتي يري الناس أنني أعاقب أيضا ـ إذا اقتضي الأمر ـ المقربين مني. لا بد أن تدرك أنني جاد فيما أقوله من حتمية احترام القوانين والقواعد».
في أعقاب ذلك ربت صدام علي كتف السجين المفرج عنه في حنو، وأرسله سفيرا إلي البحرين.
سرقة سيارة
لي ابن عم اسمه معين قاسم. كان معين مقاولا، حيث كان يقوم قبل حرب الخليج، وانتفاضة الشيعة بعدة أعمال مقاولات في مدينة العمارة في جنوب العراق. في أثناء الحرب، وفي أثناء الاضطرابات كان يقيم في بغداد. وحينما عاد بعد الانتفاضة إلي العمارة مرة أخري اكتشف اختفاء إحدي سيارات النقل من موقع العمل الذي كانت شركته تتخذ منه مقرا لها. دُهش لذلك الأمر لأنه كان قد اتفق مع العشيرة قوية النفوذ التي تفرض كلمتها علي المدينة ألا تدع سيارات النقل الخاصة به تغيب عن ناظريها. وعندما سأل شيخ العشيرة عما حدث أجابه قائلا: «أتي رجال من الشرطة السرية، وقالوا إن اللواء علاوي في حاجة إلي سيارة النقل هذه».
أتاني معين سائلا العون. ذهبنا إلي أحد المكاتب الواقعة في حي الجادرية. كان إبراهيم علاوي يدير من هذا المكتب إمبراطورية أعماله الخاصة التي كانت متشابكة تشابكا دقيقا مع مهامه الرسمية كرئيس للشرطة السرية في بغداد.
السجق الطويل
كان رجلا طويل القامة، بدينا بشكل غريب، في منتصف الخمسينات من عمره. كان شعره قد خفّ، وكان رأسه مستديرا ككرة القدم. كان معظم أجزاء جسده، الذراعان، والساقان، والأصابع تستدعي إلي الذاكرة منظر السجق الطويل المنتفخ. كان بطنه المنتفخ مسترخيا من تحت حزامه.
ان اللواء يمتلك طائفة كبيرة من الشركات، وأخذ يعمل الآن أيضا بهمة ونشاط في مجال مقاولات البناء. بعد القصف الذي وقع في أثناء حرب الخليج كان هناك كثير من الطرق، والجسور، ومحطات الطاقة في حاجة إلي إعادة البناء أو الإصلاح. انتشر رجاله ممن يعملون في الشرطة السرية في طول العراق وعرضها ليجمعوا ما كان يعوزهم من سيارات النقل، ومن معدات البناء. كانوا يستولون هكذا بكل بساطة علي ما كانوا في حاجة إليه.
اكتشف ابن عمي سيارة النقل الخاصة به في أحد مواقع العمل الخاصة بعلاوي.
«هل يمكن أن أستعيدها»؟
«لقد دفعت ثمنها. اشتريتها من رجل من الرمادي».
سألته: «هل يمكنك أن تخبرنا باسم الرجل ومحل إقامته»؟
دفع ثمن الشاحنة
بطبيعة الحال كان اللواء قد «رمي للأسف» قصاصة الورق التي تحتوي علي اسم وعنوان البائع.
قلت: «أظن أن علينا الآن التوجه إلي دائرة شكاوي الرئيس لكي نجد من يساعدنا».
كان لهذه الجملة أثرها؛ فقد رأيت كيف بدا الخوف عليه.
«بما أن الأمر يتعلق بك يا د. علاء، فإنني سأدفع تعويضا لابن عمك».
اصطحبني إلي غرفة مجاورة. كانت غرفة كبيرة، في حجم غرفة النوم، اصطفت فيها علب وكراتين امتلأت بالدنانير العراقية. علي الرغم من أن قيمة الدينار كانت تتناقص يوما بعد يوم بسبب التضخم كان اللواء يحتفظ بكميات هائلة من النقود السائلة في الغرفة الخلفية الخاصة به.
حصل ابن عمي في مقابل سيارة النقل الخاصة به علي 750 ألف دينار، أي ما يعادل 250 دولارا أمريكيا، في حين أن قيمتها السوقية كانت تعادل 10 آلاف دولار.
«يمكننا أن نكتب للرئيس»، كان هذا ما اقترحته علي ابن عمي.
أجابني بقوله: «لا، أنا لن أعرض حياتي للخطر من أجل سيارة نقل».
كان عند اللواء إصابة في الظهر أبت علي الشفاء. رجاني أن ألقي عليها نظرة، وكشف عن نصفه العلوي. لم أكن مهتما أدني اهتمام بعلاج جبل الدهون هذا، لذا أخذت أجيبه عن أسئلته بخصوص ما يجب فعله إجابة مائعة ومتهربة.
الرقابة علي الوزن
كان من المثير للغرابة فعلا أن يكون مثل هذا الرجل المفرط في بدانته لا يزال يعمل في الخدمة العامة، بينما سنَّ صدام قواعد واضحة بخصوص تمتع الموظفين، والضباط بوزن مثالي بعينه يرتبط بطول الجسد، والسن، ولا يسمح بتجاوزه إلا بعدد معين من الكيلوغرامات. فإذا زاد وزنهم عن ذلك فإنهم كانوا يتلقون إنذارا بإنقاص وزنهم في غضون ستة أشهر من تاريخه.
فإذا لم يوفقوا في إنقاص وزنهم فإنهم كانوا يتلقون إشعار فصلهم من العمل.
قلت للواء: «أرجو المعذرة، ولكن كيف تمكنت من الالتفاف علي الرقابة الإجبارية علي الوزن»؟
أجابني بقوله: «شفع سبعاوي لي عنده».
اتضح أن علاوي كان قد فُصل، غير أنه حينما عُين أخو صدام غير الشقيق رئيسا للأمن العام تدخل هذا الأخير لصالح علاوي. استُدعي اللواء علاوي ليمْثُل أمام الرئيس الذي طالبه بتفسير لبدانته.
«ضـربت بيــدي عــلي بطنــي الكبـير، وقلت له: ها هنا في الداخل دماء أعدائكم»!
تهللت أسارير علاوي عندما حكي لي هذه القصة. لم يتفوق عليه في تعذيب وقتل العراقيين في أثناء الخدمة سوي قليلين، ففي الفترة التي قضاها اللواء علاوي في منصبه لا شك أن عدد الضحايا قد تجاوز الآلاف.
تسعيرة الرز
لم يمر كثير من الوقت بعد حلول أول أيام عام 1992 حتي كان صدام قد حدد تسعيرة إجبارية لبيع الأرز، والقمح، والسكر، وغيرها من المواد الغذائية الرئيسية.
كان خطر فقدان السيطرة الكاملة علي التضخم يتهدد العراق، مما دعا الرئيس إلي اللجوء لهذا الإجراء المعروف، الفاشل اقتصاديا في معظم الأحوال لكبح جماح التضخم.
سرعان ما اتضح أن كثيرا من التجار تجاهلوا هذا الأمر الإداري تجاهلا كاملا؛ فلو أنهم التزموا بالأسعار التي تحددها السلطات لما استقامت حساباتهم في ظل عدم انسحاب هذا الأمر الإداري علي أسعار تجارة الجملة.
لذلك استدعي الرئيس سبعاوي، وكلفه بأن يقدم مثالا علي سبيل الإنذار يكون عظة للآخرين، يخيفهم ويرعبهم.
انشغل اللواء علاوي ومعه الشرطة السرية بهذا الأمر.
كان ابني سومر يدرس وقتها في الجامعة التكنولوجية ببغداد، وكان له زميل بارع الذكاء اسمه محمد رحيم من عائلة فقيرة. أخذت الأسرة والأصدقاء يجمعان المال سويا حتي يحقق حلمه بأن يكون مهندسا. كان لوالد أحد أصدقائه بقالة صغيرة. كانت فرصة لهذا الطالب الفقير أن يتكسب بعض المال من العمل هناك ليلا.
حجة البقالة
في مساء أول يوم كان فيه محمد وحده في العمل، دخل واحد من ضباط علاوي من الشرطة السرية البقالة. سأله عن ثمن كيلو الأرز. ذكر له الطالب السعر الذي حدده له صاحب البقالة. تجاوز هذا السعر ما كان محددا رسميا من تسعيرة إجبارية.
قُبض علي الطالب، ولم يشفع له قسمه بأنه بريء، وقوله إنه لم يكن يعرف إنه كان يفعل شيئا محرما. أوسعوا الطالب ضربا وربطوه بالأغلال الحديدية لمدة أربع وعشرين ساعة كاملة أمام البقالة، وقد عُلقت يافطة حول عنقه تقول إنه لص يخدع الشعب.
في اليوم التالي شنقوا محمدا.
ذهب ابني سومر لوالدي محمد ليقدم لهما واجب العزاء. كانوا من الفقر إلي درجة أنه لم يكن عندهم حتي أي أثاث.
في بغداد وحدها أُعدم ما يزيد علي أربعين من تجار السلع الغذائية في أعقاب الرقابة علي الأسعار. لم يكن هناك ما يمكن أن نسميه محاكمات للطلبة، ولا لغيرهم ممن قبض عليهم خلف طاولة البيع في المحل. كان عدد لا بأس به ممن شُنقوا أقارب وأصدقاء طيبين لصاحب الدكان، قاموا بالإشراف عليه في الوقت الذي كان فيه صاحبه للحظات في الخارج.
لم تُرفع العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة بعد غزو صدام للكويت حتي بعد انتهاء حرب الخليج. أدت هذه العقوبات إلي مزيد من التسريع بالانهيار الاقتصادي الذي ظهرت بداياته بعد الحرب ضد إيران. لم تفرض الأمم المتحدة في القرن العشرين مثل هذه العقوبات الهائلة علي أي بلد آخر من قبل. أصابت العقوبات أهم قطاع اقتصادي للعراق بالشلل، ألا وهو تصدير النفط.
بدون عائدات تصدير النفط لم يعد في إمكان النظام الإبقاء علي مستوي معيشة مقبول للعراقيين. أخذت الأمراض والفقر في الاستفحال يوما بعد يوم. ازداد عدد الآباء اليائسين والبائسين الذين اضطرتهم الظروف إلي أن ينام أطفالهم من غير عشاء. في كل أنحاء العراق الذي نزل إلي خط الفقر نمت بيوت المزادات كالأعشاب الشيطانية التي كان الناس فيها يتصرفون في كل ما لديهم من حلي، ومن أشياء ثمينة، ومن أجهزة كهربية، ومن أثاث، وأحيانا أنفسهم.
النفط مقابل الغذاء
كان مجلس الأمن قد عرض بالفعل في عام 1991 أن يقوم صدام ببيع كمية محددة من النفط ليشتري في مقابلها المواد الغذائية والأدوية للفقراء من السكان المدنيين. غير أن الرئيس رفض. كان يريد أن تُرفع العقوبات كلية، ولم يرض بأي حل جزئي كان في إمكانه أن يجعل حياتنا أيسر.
كُتب علينا أن يمر ما يقرب من خمس سنوات حتي أدرك صدام حقيقة الحالة الاجتماعية، ووافق علي شروط برنامج «النفط مقابل الغذاء». وإلي أن حدث ذلك كان علي عشرين مليونا من العراقيين تحمل أهوال يمكن بالفعل مقارنتها بتلك التي كانت أثناء الحرب ضد إيران، وضد الكويت، وبتلك التي كانت أثناء الحرب الأهلية في الجنوب، والشمال.
لم يكن لتحديد الأسعار الذي اتخذه صدام أي تأثير عميق الأثر، بل ربما أي تأثير علي الإطلاق. أخذت أسعار المواد الغذائية، وغيرها من ضرورات الحياة ترتفع يوما بعد يوم، في حين ظلت الأجور علي حالها. كان سمير علي الشافي يتحصل شهريا من عمله كمحرر للأخبار الثقافية، وكناقد فني في صحيفة «ألف باء» الأسبوعية التي كانت تصدرها وزارة الإعلام علي 2800 دينار. في ذلك الوقت كان الدولار الأميركي الواحد عند بائع العملة علي ناصية الشارع يساوي 3000 دينار.
حياة عائلية
لكي يستطيع محرر الأخبار الثقافية هذا أن يشتري الطعام لزوجته، ولبناته الثلاث، ولنفسه اضطر إلي بيع سيارته أولا. بعدها تصرف في ذهب وفي حلي زوجته، وفي جهاز التلفزيون، وفي الأثاث. حتي أسرَّة الأطفال آلت إلي بائع العاديات. في نهاية المطاف أصبح الأثاث يتكون من أربع مراتب فحسب. كما نجحوا في الإبقاء علي موقد صغير يعمل بالكيروسين استطاعوا أن يستخدموه في الطبخ وفي التدفئة، بالإضافة إلي إناء صغير وأربعة أطباق.
«كانت الأطباق كبيرة للغاية، أضف إلي ذلك أن الحصة اليومية من المكرونة كريهة الرائحة التي كانت الشيء الوحيد الذي نستطيع شراءه كانت تبدو قليلة جدا علي الطبق».
أما الخبز فلم يعرف طريقه إلي أفواههم، لأن ما كان في مقدورهم شراؤه من الخبز كان أسود اللون، بغيض الرائحة، ويستدعي إلي الذاكرة ذلك الخبز المقدد الرقيق الجيد من الأيام الخوالي.
«تكوّن لديَّ الانطباع أن دقيق المطاحن الحكومية كان يخلط بأي شيء كان يمكن خلطه به بشكل أو بآخر»، هذا ما تذكره الشافي.
كل يوم كان الشافي يقطع مسافة ستة كيلومترات من مسكنه في حي المنصور إلي مكتبه في وزارة الإعلام بالقرب من قصر الجمهورية في وسط العاصمة بغداد سيرا علي الأقدام، وهكذا كان يعود دائما. لم يكن عنده نقود للباص أو لسيارة الأجرة، أو مال لشراء دراجة.
«حتي البيضة لم نكن نقدر علي ثمنها. بطبيعة الحال لم تكن الفاكهة أيضا محل تفكير. غير أن أسوأ شيء بالنسبة إلي كان هو إحساسي بفشلي كأب، لأن الأطفال كان عليهم أن يذهبوا إلي النوم بدون شُبعة من طعام».
نخبة.. التهريب
أما النخبة الحاكمة فلم تعرف الجوع. ففي أوقات العوز هناك دائما ما يمكن تكسبه من التهريب، وتجارة السوق السوداء. فقد اغتنم عدي ــ الابن الأكبر للرئيس ــ فرصته في نعيم التجارة الذي تنامي أثناء العقوبات.
أصبحت هذه القصة الليلية المؤسفة حين ضرب عدي كامل حنا ــ الخادم الشخصي لأبيه ــ في أغسطس من عام 1988، ولقي فيها حتفه، ورقة مطوية من زمن بعيد في أوساط العائلة، حينما انتهت حرب الخليج، وحينما تم قمع الانتفاضة في جنوب وشمال البلاد. شيئا فشيئا بدأ الابن الأكبر للرئيس في استعادة اعتباره مرة أخري. قدمت له السوق السوداء وصفقات التهريب، التي أخذت في الازدياد السريع يوما بعد يوم بعد العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة، فرصا لا تُعد ولا تحصي لتحقيق ثروة طائلة.
«الأمير وشركاه»، كان هذا هو اسم الشركة التي أسسها عدي وقريبه حسين كامل في هدوء شديد مع نهاية عام 1991 لاستيراد السلع والتجهيزات الخاضعة للحظر الاقتصادي من قِبل الأمم المتحدة. تم اختيار الاسم بعناية؛ فقد كانت لكلمة «الأمير» أهمية خاصة للغاية عند الشيعة. كان المقصود بالأمير هو الإمام علي، ابن عم الرسول، صلي الله عليه وسلم، وزوج ابنته، المدفون في النجف، تلك المدينة المقدسة لدي الشيعة، والتي تقع علي بعد 200 كيلومتر تقريبا جنوب غرب بغداد. إن الإيرانيين شيعة، وقد أراد الاثنان عقد الصفقات مع الإيرانيين.
كان حسين كامل وزيرا للصناعة، والمسؤول الرئيسي عن التسليح الحربي للعراق آنذاك. سرعان ما أقامت الشركة علي الناحية الأخري من الحدود ما يلزم من الاتصالات، وعقدت الصفقات. بهذا أصبح في مقدور حسين كامل التحايل علي العقوبات، والحفاظ علي استمرار العمل في المصانع التي تتبع وزارته. أما عدي فكان يحصد الأرباح.
صفقات مع إيران
لا تهم عقوبات الأمم المتحدة أو غيرها، فلم يكن لدي الأئمة في إيران مانع من تولي مسؤولية فتح ما هو ضروري من المنافذ الحدودية، طالما درّ هذا عليهم فوائد مالية. كانت شركة الأمير وشركاه تشتري وتستورد كل شيء تقريبا مما كان ينقص الصناعة وغيرها من قطاعات الاقتصاد، والمستهلكين، وكانوا في حاجة إليه. سيارات من ألمانيا، آلات الحصاد والدراس، وأرز من تايلند، وكونياك من فرنسا، كل هذا استطاع عدي وحسين كامل بمساعدة أصدقائهم الإيرانيين توريده بأسعار السوق السوداء الباهظة. وعن طريق القنوات نفسها التي كانت تعمل بكفاءة في إيران وجد النفط، والاسمنت، واليوريا، والبلح طريقها من العراق إلي إيران.
«استطاع عدي أن يحقق من هذه الصفقات أموالا طائلة»، هذا ما رواه لي فيما بعد سكرتيره الخاص ظافر محمد جابر مضيفا: «مئات المئات من ملايين الدولارات من هذه الصفقات مع الإيرانيين وضعها عدي في جعبته».
كانت حياة محرر الأخبار الثقافية سمير الشافي وعائلته صعبة، لكنه كان مع ذلك لا ينتمي إلي طبقة المُعدمين؛ فهو في نهاية المطاف كان لديه عمل في هذا الوقت العصيب حتي عام 1996 حينما اتفق صدام أخيرا مع مجلس الأمن الدولي بعد شد وجذب طويلي الأمد علي أن يسمح للعراق ببيع كمية لا بأس بها من النفط مقابل الحصول علي المواد الغذائية، والأدوية للسكان المدنيين الذين أخذ فقرهم، وجوعهم، ومرضهم يتزايد.
حينما بُدئ أخيرا بالعمل وفقا لبرنامج النفط مقابل الغذاء في ربيع عام 1997، وبُدئ شهريا بتوزيع الأرز، والقمح، والسكر، والشاي، وزيت الطعام، والصابون في كل أنحاء العراق وضع هذا حدًا للمجاعة العامة. غير أن العقوبات، والفساد، وسوء الإدارة من قبل النظام أصاب العراقيين بمعاناة لا يمكن وصفها. كان أكثر المتضررين هم من كانوا بلا عائل.
مجاعة
كانت تسكن مع سمير الشافي في الحي نفسه أرملة وبناتها الأربع اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين الخامسة والسادسة عشرة. كان عائل الأسرة قد توفي عام 1989، حيث كان عقيدا في الجيش. لم يكن في مقدور الباقين من أسرته العيش من معاش الزوج من الجيش.
«كان بشعا أن تشاهد كيف كانوا يتضورون جوعا، وكيف أنهم بعد وقت قصير كانوا يعانون النقص في كل شيء. لكننا نحن أنفسنا في نهاية المطاف لم يكن لدينا أي شيء، ولم يكن باستطاعتنا الوقوف بجانبهم».
في ذات يوم دخلت الابنتان الأكبر سنا إلي الحمام، صبتا فوق رأسيهما البقية الباقية من الكيروسين، وأضرمتا في نفسيهما النار. وجدوهما، وقد احتضنت إحداهما الأخري.
«زحفت الأم بأصغر بناتها إلي الموصل. لا أعرف ماذا حدث لهما هناك، لكنهما لم تعودا إلي بيتهما ثانية علي الإطلاق».
مظفر العلي كان واحدا من كثيرين ممن افتتحوا محلا لبيع العاديات. كان لواء متقاعدا، وتعود معرفتي به إلي أيام كنت طبيبا شابا في السلاح الجوي.
ذات مساء أتي رجل شاب إلي بائع العاديات ليبيع جهاز فيديو.
«هل يمكنك أن تأتي معي، وتلقي نظرة عليه؟ أنا أسكن هنا عند ناصية الشارع».
عندما وصل العلي إلي المنزل الصغير لفت انتباهه أنه بلا أبواب أو نوافذ. حتي الإطارات بيعت، كما لم يكن هناك أثر للأثاث أو غيره من المتاع.
علي سجادة بجوار موقد من الكيروسين جلست امرأة شابة. كان بجوارها طبقان من الصفيح، أما جهاز الفيديو الذي كان من طراز غير مألوف في العراق فكان موضوعا في إحدي زوايا الغرفة. كان هذا الجهاز فيما يبدو من غنائم الحرب ضد الكويت.
قال العلي: «أنا آسف، لكن هذا الجهاز لن يشتريه مني أحد».
نظر إليه الرجل الشاب نظرة يائسة.
«حسنا، ولكن إذا أردت يمكنك النوم مع زوجتي»، وأشار إليها.
ذهب اللواء العلي.
«شعرت أن الدنيا تدور بي، وكاد أن يغمي عليّ. بدا لي أن ما وصل إليه الناس من معاناة شيء لا يمكن للعقل أن يتصوره»، هذا ما قاله لي العلي حينما روي لي عن زيارته لهذه العائلة الشابة.