آخر الأخبار

كيسنجر يكتب عن:الثورات الثلاث

- هذا هو اول جيل في التاريخ يواجه ثلاث ثورات عالمية متزامنة هي: تغيير النظام التقليدي في اوروبا, والتحدي الاسلامي الراديكالي لمفاهيم السيادة التاريخية, وتحول مركز الثقل الدولي من المحيط الاطلسي الى المحيطين الهادي والهندي.

لا زلنا بانتظار ان يدور النقاش الوطني المتوقع منذ زمن طويل حول سياسة الامن القومي. وقد تمكنت القضايا التكتيكية من ان تطغى على التحدي الاكثر اهمية الذي يمكن ان تواجهه اية ادارة جديدة وهو كيفية استخلاص نظام دولي جديد من ثلاث ثورات متزامنة تحدث حاليا حول العالم وهي: (أ) تغيير نظام الدولة التقليدي في اوروبا (ب) التحدي الاسلامي الراديكالي لمفاهيم السيادة التاريخية (ج) تحول مركز ثقل الشؤون الدولية من المحيط الاطلسي الى المحيطين الهادي والهندي.

تقول الحكمة السائدة ان خيبة الامل بخصوص الاحادية التي ادعاها الرئـيس بوش تكمن في جوهر الخلافات الاوروبية - الامريكية. لكن ما سيتضح قريبا بعد تغيير الادارة الامريكية هو ان الاختلاف الرئـيسي بين طرفي الاطلسي يتمثل في كون امريكا ما تزال دولة وطنية تقليدية يستجيب شعبها لنداءات التضحية من اجل مفاهيم للمصلحة الوطنية اوسع بكثير من المفهوم الاوروبي لها.

لقد استنزفت دول اوروبا من خلال حربين عالميتين, ولهذا فقد اتفقت على تحويل جوانب مهمة من سيادتها الى الاتحاد الاوروبي, في حين اثبتت الولاءات السياسية المرتبطة بالدولة الوطنية انها غير قابلة لمثل هذا التحويل الاوتوماتيكي. واوروبا الان في حالة انتقال ما بين ماضيها الذي تريد ان تتغلب عليه ومستقبل لم تصله بعد.

في اثناء ذلك, تغييرت طبيعة الدولة الاوروبية, مع دول لم تعد تعرف نفسها تبعا لمستقبل مميز ومع كون تماسك الاتحاد الاوروبي امرا لم يتم اختباره بعد, تضاءلت على نحو درامي قدرة معظم الحكومات الاوروبية على مطالبة شعوبها بالتضحيات. وتجد ان الاكثر استعدادا من بينها لتحمل المسؤوليات العسكرية الدولية هي تلك الدول ذات التاريخ المتواصل الاطول مثل بريطانيا وفرنسا.

يقدم الاختلاف حول استخدام قوات الناتو في افغانستان حالة معبرة عن هذا الوضع. في اعقاب احداث 11 ايلول ,2001 قام مجلس شمال الاطلسي, من دون اي طلب من الولايات المتحدة, بتفعيل المادة 5 من معاهدة الناتو الداعية الى المساعدة المتبادلة, لكن عندما شرع الناتو في النهوض بالمسؤوليات العسكرية, اجبرت التقييدات المحلية الكثير من الحلفاء على تحجيم عدد الجنود الذين تقدمهم الدولة وتقييد المهمات التي يمكن ان تعرض الارواح من اجلها للخطر. ونتيجة ذلك, يمر التحالف الاطلسي حاليا بعملية التحول الي منظومة ثنائية التقسيم, ويتحول الى تحالف حسب الطلب لا تتماشى قدرته على الفعل المشترك مع التزاماته العامة. وبمرور الزمن, لا بد لواحد من نوعين من التكيف ان يحدث: فاما ان تتم اعادة تعريف الالتزامات العامة او الصياغة الرسمية لمنظومة ثنائية التقسيم تتناغم فيها الالتزامات السياسية مع القدرات العسكرية من خلال نوع من انظمة تحالف الراغبين.

في الوقت الذي ينجم فيه تضاؤل الدور التقليدي للدولة في اوروبا عن اختيارات حكوماتها, فان الدور المتدهور للدولة في الشرق الاوسط كامن في الكيفية التي اوجدت بها تلك الدول. لقد تأسست الدول التي خلفت الامبراطورية العثمانية على يد القوى المنتصرة في نهاية الحرب العالمية الاولى. وعلى العكس من الدول الاوروبية, فان حدود الدول الشرق اوسطية لا تعكس المبادئ الاثنية او التمايز اللغوي انما تعكس التوازنات القائمة بين القوى الاوروبية في تنافسها خارج المنطقة.

ان ما يهدد بنية الدول الهشة هناك هو الاسلام الراديكالي من خلال تفسير اصولي للقرآن كأساس لمنظمة سياسية كونية. يرفض الاسلام الجهادي السيادة الوطنية القائمة على نموذج الدولة العلمانية, ويسعى الى بسط نفوذه حيثما وجدت جالية اسلامية تدين بالاسلام. ولما كان كل من النظام الدولي والبنية الداخلية للدول القائمة لا يتمتع بالشرعية في نظر الاسلاميين, فان ايديولوجيتهم لا تفسح مجالا كبيرا للافكار الغربية للتفاوض او التوازن في منطقة ذات مصلحة حيوية لأمن ورفاهية الدول الصناعية. والصراع هنا مستوطن, ونحن لا نملك خيار الانسحاب, بوسعنا ان نتراجع عن اي موقع مفرد, مثل العراق, انما فقط كي نجد انفسنا ملزمين بالمقاومة من مواقع جديدة, وربما تكون المواقع الجديدة لغير صالحنا. حتى دعاة الانسحاب من طرف واحد من العراق يتحدثون عن الابقاء على قوات مقيمة للحيلولة دون عودة ظهور القاعدة او الراديكالية.

هذه التحولات تجري على خلفية توجه ثالث, هو انتقال مركز ثقل الشؤون الدولية من المحيط الاطلسي الى المحيطين الهادي والهندي, ومن المفارقة ان تجري عملية اعادة توزيع النفوذ هذه في جزء من العالم ما زالت دولة تمتلك سمات الدول الاوروبية التقليدية. فالدول الرئـيسية في اسيا, وهي الصين والهند واليابان وربما اندونيسيا ايضا حين يحين اوانها, ينظر بعضها الى البعض الاخر نفس النظرة التي ينظر بها المشاركون في توازن القوى الاوروبية بعضهم لبعض, اي بصفتهم متنافسين بالفطرة حتى وان تشاركوا احيانا في مشاريع تعاونية.

في الماضي, كان مثل هذه التحولات في هيكل القوة والنفوذ يقود في العادة الى الحرب, كما حدث عند صعود المانيا في اواخر القرن التاسع عشر. اما اليوم فان صعود الصين الذي يلعب دورا مماثلا في تحويل هياكل القوة والنفوذ يحاط بالحذر. صحيح ان العلاقات الصينية - الامريكية سوف تنطوي حتما على عناصر جيوبوليتيكية وتنافسية. وهي عناصر لا ينبغي اهمالها. الا ان ثمة عناصر تعويضية. فالعولمة المالية والاقتصادية, والضرورات البيئية وتلك المتعلقة بالطاقة, والقوة التدميرية للاسلحة الحديثة تفرض مجتمعة بذل مجهول كبير لصالح التعاون العالمي خصوصا بين الصين والولايات المتحدة. اذ ان من شأن العلاقة التناحرية ان تترك البلدين في وضع يماثل وضع اوروبا بعد الحربين العالميتين, حين حصلت دول اخرى على المكانة المتفوقة التي سعت اوروبا الى الحصول عليها من خلال صراع ذاتي مدمر بين بعضها البعض.

لم يسبق لاي جيل من قبل ان اضطر الى التعامل مع ثلاث ثورات تقع في زمن واحد في مناطق مختلفة من العالم. ومن شأن البحث عن علاج موحد وشامل ان يكون امرا خياليا. ففي عالم تلتزم فيه القوة العظمى الوحيدة بامتيازات الدولة الوطنية التقليدية, وتنحشر فيه اوروبا في منتصف الطريق بين وضعين, ولا ينسجم فيه الشرق الاوسط مع نموذج الدولة الوطنية وهو يواجه ثورة دينية الدوافع, وتمارس فيه دول جنوب اسيا وشرقها توازنا للقوة, هل ثمة نوع من النظام الدولي يقدر على الجمع بين هذه المنظورات المتباينة؟ وماذا سيكون دور روسيا فيه, وهي الدولة التي تثبت فكرة عن السيادة توازي فكرة امريكا عنها, وتتبع مفهوما استراتيجيا عن توازن القوى يشبه مفهوم اسيا؟ وهل ان المنظمات الدولية الحالية ملائمة لهذا الغرض؟ واية اهداف يمكن لامريكا رسمها واقعيا لنفسها وللاسرة العالمية؟ وما هي الاهداف التي يجب السعي لها جماعة, وما هي الظروف الاستثنائية التي تبرر العمل الانفرادي؟

هذا هو نوع النقاش الذي نحتاجه, وليست الشعارات المدفوعة بجماعات المصالح التي تحتل العناوين.

* وزير الخارجية الامريكي الاسبق

- هذا هو اول جيل في التاريخ يواجه ثلاث ثورات عالمية متزامنة هي: تغيير النظام التقليدي في اوروبا, والتحدي الاسلامي الراديكالي لمفاهيم السيادة التاريخية, وتحول مركز الثقل الدولي من المحيط الاطلسي الى المحيطين الهادي والهندي.

لا زلنا بانتظار ان يدور النقاش الوطني المتوقع منذ زمن طويل حول سياسة الامن القومي. وقد تمكنت القضايا التكتيكية من ان تطغى على التحدي الاكثر اهمية الذي يمكن ان تواجهه اية ادارة جديدة وهو كيفية استخلاص نظام دولي جديد من ثلاث ثورات متزامنة تحدث حاليا حول العالم وهي: (أ) تغيير نظام الدولة التقليدي في اوروبا (ب) التحدي الاسلامي الراديكالي لمفاهيم السيادة التاريخية (ج) تحول مركز ثقل الشؤون الدولية من المحيط الاطلسي الى المحيطين الهادي والهندي.

تقول الحكمة السائدة ان خيبة الامل بخصوص الاحادية التي ادعاها الرئـيس بوش تكمن في جوهر الخلافات الاوروبية - الامريكية. لكن ما سيتضح قريبا بعد تغيير الادارة الامريكية هو ان الاختلاف الرئـيسي بين طرفي الاطلسي يتمثل في كون امريكا ما تزال دولة وطنية تقليدية يستجيب شعبها لنداءات التضحية من اجل مفاهيم للمصلحة الوطنية اوسع بكثير من المفهوم الاوروبي لها.

لقد استنزفت دول اوروبا من خلال حربين عالميتين, ولهذا فقد اتفقت على تحويل جوانب مهمة من سيادتها الى الاتحاد الاوروبي, في حين اثبتت الولاءات السياسية المرتبطة بالدولة الوطنية انها غير قابلة لمثل هذا التحويل الاوتوماتيكي. واوروبا الان في حالة انتقال ما بين ماضيها الذي تريد ان تتغلب عليه ومستقبل لم تصله بعد.

في اثناء ذلك, تغييرت طبيعة الدولة الاوروبية, مع دول لم تعد تعرف نفسها تبعا لمستقبل مميز ومع كون تماسك الاتحاد الاوروبي امرا لم يتم اختباره بعد, تضاءلت على نحو درامي قدرة معظم الحكومات الاوروبية على مطالبة شعوبها بالتضحيات. وتجد ان الاكثر استعدادا من بينها لتحمل المسؤوليات العسكرية الدولية هي تلك الدول ذات التاريخ المتواصل الاطول مثل بريطانيا وفرنسا.

يقدم الاختلاف حول استخدام قوات الناتو في افغانستان حالة معبرة عن هذا الوضع. في اعقاب احداث 11 ايلول ,2001 قام مجلس شمال الاطلسي, من دون اي طلب من الولايات المتحدة, بتفعيل المادة 5 من معاهدة الناتو الداعية الى المساعدة المتبادلة, لكن عندما شرع الناتو في النهوض بالمسؤوليات العسكرية, اجبرت التقييدات المحلية الكثير من الحلفاء على تحجيم عدد الجنود الذين تقدمهم الدولة وتقييد المهمات التي يمكن ان تعرض الارواح من اجلها للخطر. ونتيجة ذلك, يمر التحالف الاطلسي حاليا بعملية التحول الي منظومة ثنائية التقسيم, ويتحول الى تحالف حسب الطلب لا تتماشى قدرته على الفعل المشترك مع التزاماته العامة. وبمرور الزمن, لا بد لواحد من نوعين من التكيف ان يحدث: فاما ان تتم اعادة تعريف الالتزامات العامة او الصياغة الرسمية لمنظومة ثنائية التقسيم تتناغم فيها الالتزامات السياسية مع القدرات العسكرية من خلال نوع من انظمة تحالف الراغبين.

في الوقت الذي ينجم فيه تضاؤل الدور التقليدي للدولة في اوروبا عن اختيارات حكوماتها, فان الدور المتدهور للدولة في الشرق الاوسط كامن في الكيفية التي اوجدت بها تلك الدول. لقد تأسست الدول التي خلفت الامبراطورية العثمانية على يد القوى المنتصرة في نهاية الحرب العالمية الاولى. وعلى العكس من الدول الاوروبية, فان حدود الدول الشرق اوسطية لا تعكس المبادئ الاثنية او التمايز اللغوي انما تعكس التوازنات القائمة بين القوى الاوروبية في تنافسها خارج المنطقة.

ان ما يهدد بنية الدول الهشة هناك هو الاسلام الراديكالي من خلال تفسير اصولي للقرآن كأساس لمنظمة سياسية كونية. يرفض الاسلام الجهادي السيادة الوطنية القائمة على نموذج الدولة العلمانية, ويسعى الى بسط نفوذه حيثما وجدت جالية اسلامية تدين بالاسلام. ولما كان كل من النظام الدولي والبنية الداخلية للدول القائمة لا يتمتع بالشرعية في نظر الاسلاميين, فان ايديولوجيتهم لا تفسح مجالا كبيرا للافكار الغربية للتفاوض او التوازن في منطقة ذات مصلحة حيوية لأمن ورفاهية الدول الصناعية. والصراع هنا مستوطن, ونحن لا نملك خيار الانسحاب, بوسعنا ان نتراجع عن اي موقع مفرد, مثل العراق, انما فقط كي نجد انفسنا ملزمين بالمقاومة من مواقع جديدة, وربما تكون المواقع الجديدة لغير صالحنا. حتى دعاة الانسحاب من طرف واحد من العراق يتحدثون عن الابقاء على قوات مقيمة للحيلولة دون عودة ظهور القاعدة او الراديكالية.

هذه التحولات تجري على خلفية توجه ثالث, هو انتقال مركز ثقل الشؤون الدولية من المحيط الاطلسي الى المحيطين الهادي والهندي, ومن المفارقة ان تجري عملية اعادة توزيع النفوذ هذه في جزء من العالم ما زالت دولة تمتلك سمات الدول الاوروبية التقليدية. فالدول الرئـيسية في اسيا, وهي الصين والهند واليابان وربما اندونيسيا ايضا حين يحين اوانها, ينظر بعضها الى البعض الاخر نفس النظرة التي ينظر بها المشاركون في توازن القوى الاوروبية بعضهم لبعض, اي بصفتهم متنافسين بالفطرة حتى وان تشاركوا احيانا في مشاريع تعاونية.

في الماضي, كان مثل هذه التحولات في هيكل القوة والنفوذ يقود في العادة الى الحرب, كما حدث عند صعود المانيا في اواخر القرن التاسع عشر. اما اليوم فان صعود الصين الذي يلعب دورا مماثلا في تحويل هياكل القوة والنفوذ يحاط بالحذر. صحيح ان العلاقات الصينية - الامريكية سوف تنطوي حتما على عناصر جيوبوليتيكية وتنافسية. وهي عناصر لا ينبغي اهمالها. الا ان ثمة عناصر تعويضية. فالعولمة المالية والاقتصادية, والضرورات البيئية وتلك المتعلقة بالطاقة, والقوة التدميرية للاسلحة الحديثة تفرض مجتمعة بذل مجهول كبير لصالح التعاون العالمي خصوصا بين الصين والولايات المتحدة. اذ ان من شأن العلاقة التناحرية ان تترك البلدين في وضع يماثل وضع اوروبا بعد الحربين العالميتين, حين حصلت دول اخرى على المكانة المتفوقة التي سعت اوروبا الى الحصول عليها من خلال صراع ذاتي مدمر بين بعضها البعض.

لم يسبق لاي جيل من قبل ان اضطر الى التعامل مع ثلاث ثورات تقع في زمن واحد في مناطق مختلفة من العالم. ومن شأن البحث عن علاج موحد وشامل ان يكون امرا خياليا. ففي عالم تلتزم فيه القوة العظمى الوحيدة بامتيازات الدولة الوطنية التقليدية, وتنحشر فيه اوروبا في منتصف الطريق بين وضعين, ولا ينسجم فيه الشرق الاوسط مع نموذج الدولة الوطنية وهو يواجه ثورة دينية الدوافع, وتمارس فيه دول جنوب اسيا وشرقها توازنا للقوة, هل ثمة نوع من النظام الدولي يقدر على الجمع بين هذه المنظورات المتباينة؟ وماذا سيكون دور روسيا فيه, وهي الدولة التي تثبت فكرة عن السيادة توازي فكرة امريكا عنها, وتتبع مفهوما استراتيجيا عن توازن القوى يشبه مفهوم اسيا؟ وهل ان المنظمات الدولية الحالية ملائمة لهذا الغرض؟ واية اهداف يمكن لامريكا رسمها واقعيا لنفسها وللاسرة العالمية؟ وما هي الاهداف التي يجب السعي لها جماعة, وما هي الظروف الاستثنائية التي تبرر العمل الانفرادي؟

هذا هو نوع النقاش الذي نحتاجه, وليست الشعارات المدفوعة بجماعات المصالح التي تحتل العناوين.

هنري كيسنجر