آخر الأخبار

زمن جيفارا.. زمن ابن لادن

زمن جيفارا.. زمن ابن لادن
بقلم :محمد فاضل

يرتدي ابني ذو الستة عشر عاماً قمصانا تحمل الصورة الشهيرة لتشي جيفارا ويزين غرفته بملصق كبير له. ويوماً ما كان والده وجيل بأكمله يفعل الشيء نفسه قبل حوالي ثلاثة عقود. وفي نهاية ابريل الماضي، وبينما كانت فيتنام تحتفل بذكرى انتصارها على الولايات المتحدة، بدت الذكرى غائرة وبالكاد يتذكرها أحد.

لم يتردد اسم «هوشي منه» ولا القائد العسكري الفذ «فونغوين جياب». ولم تتردد في أصداء الاحتفالات مذبحة «ماي لاي» ولا معركة «دانانغ» الحاسمة التي قادت إلى الانتصار في سايغون. فذكرى الانتصار هذا العام ارتبطت بالحديث عما يجري حاليا في فيتنام التي انضمت إلى كل تلك الدول الساعية إلى تأهيل نفسها للدخول في منظومة الاقتصاد والتجارة الدولية والأسواق المفتوحة.

في مثل هذه الأجواء، طغى الحديث عن الاغراءات والقوانين الجديدة لجذب الاستثمارات الأجنبية وإزالة قيود التجارة والاعفاءات الضريبية بدلا من استعادة أسماء من قادوا الحروب على مدى عشرين عاما.

لاشيء يبدو مستغربا، فاسماء مثل «جيفارا» و«هوشي منه» و«جياب» تنتمي لزمن آخر. لكن من بين كل أسماء تلك الحقبة، فإن جيفارا وحده يخترق الزمن ليصبح اسطورة حية اليوم لجيل لم يعرف عنه الكثير ولم يختبر ذلك الزمن الملتهب.

ايقونة تحيا في غير زمنها. وسواء تعلق الأمر بـ «الكوكاكولا» او «مكدونالدز» او «شيكاغو بوولز» والهواتف النقالة، فإن جيفارا ينتصب في وجه كل ما تمثله هذه الايقونات رمزا لمقاومة تبلور نفسها ضد العولمة. لكن العولمة ليس لها عدو واحد، وثوار الستينات والسبعينات حل مكانهم اليوم مناضلون من طراز جديد وقضايا التحرر الوطني والاجتماعي استبدلت بحرب معولمة مفتوحة ضد قوة عظمى وحيدة.

تبدو المقارنة بين جيفارا واسامة بن لادن مغرية على أكثر من وجه، فهي مقارنة بين زمنين وعالمين. وهي مقارنة تفتح الافاق على مقارنات اوسع واكثر شمولا وحتما لابد ان تقودنا إلى مقارنة لا يمكن تفاديها بين فيتنام والعراق.

ليس الذقن والعيش في الغابات والكهوف هو ما يجمع الرجلين، بل الافق العالمي. جيفارا كان يحلم بتحرير وتوحيد أميركا الجنوبية ووسع معركته إلى إفريقيا تحركه مبادئ العدالة الاجتماعية. وبالمثل فإن بن لادن معركته مفتوحة، عدا ان ما يحركه ليس العدالة الاجتماعية بل الانتقام لكرامة مهانة.

لكن جيفارا اقل تشويشا من بن لادن لأن نضاله لم يكن يحمل كل هذا الارباك الذي يسببه بن لادن. بالنسبة لجيفارا، كان العدو طبقيا مدعوما بقوة خارجية هي الولايات المتحدة في الغالب. وكانت حرب العصابات موجهة ضد اعداء محددين، الجيش المحلي واية قوات اجنبية قد تدعمه ومليشيات الحكومة احيانا. كان المدنيون خارج الاستهداف بل يتم السعي لكسب تعاطفهم واعتبارهم عمقا بشريا للثورة، لهذا كانت الحرب غالبا ما تكون بعيدة عن المدن.

اما بن لادن فيخوض معركته تحت راية الاسلام وهذا بحد ذاته كاف لكي يخلق قدرا غير محتمل من التشويش لا على ايمان ملايين المسلمين بل على فكرة النضال نفسها. ولأن الاسلام اكبر من ان يتم اختزاله بمثل ما يفعله بن لادن، فقد اصبحت هناك حاجة مستمرة لوضع الجدل الذي لم يتوقف حول مفاهيم مثل «العدو» و«الجهاد» في اطار مناسب يمكن ان يشكل حدا معقولا من الاجماع بين المسلمين انفسهم وليس محورا لانقسام عميق.

هذا الاطار مازال مفقودا لا بسبب القصور الفقهي فقط بل في ابسط اسبابه لان قائمة الاعداء طويلة والجهاد ليس له برنامج او افق. ففي العراق مثلا اصبح الجميع مستهدفا بسبب انتمائه الديني او العرقي من سنة وشيعة ومسيحيين بل حتى لمجرد كونه مدنيا مجردا من اي صفة او انتماء.

فالمدنيون في العراق لم يعودوا سوى ضحايا محتملين في اي وقت للعمليات التي يتفرض ان توجه ضد المحتل الاجنبي وهو ما دفع الزرقاوي لكي يصدر مؤخرا فتوى ذرائعية يبرر فيها استهداف المدنيين.

في ساحتها العالمية، فإن معركة تنظيم القاعدة جعلت كل المدنيين مستهدفين من عدو غامض غير محدد المعالم يمكن ان يعلن عن نفسه دون توقع بسيارة مفخخة أو انفجار مبنى او قنابل مزروعة في أي مكان.

يزيد في كل هذا التشويش ان تنظيم القاعدة لا يرى الا قراءة واحدة مختزلة للاسلام. بهذا لا يبقى من النضال أو الجهاد سوى معنى واحد يحوله إلى مشروع للتذابح الأهلي أكثر منه مشروعا للتحرر من احتلال اجنبي كما في العراق كمثال حي وقائم.

ما يجري في العراق لا يختلف كثيرا عما يجري في العالم منذ نهاية الحرب الباردة. فقد انتهت حروب التحرر الوطني والاجتماعي لتحل مكانها الحروب الاثنية والمذهبية والطائفية. ولان الحاجة تبدو ماسة لعدو يتسم بالشمولية التي كان يتسم بها الاتحاد السوفيتي السابق، يبدو تنظيم القاعدة ملبيا لهذه المواصفات. فهو تنظيم عالمي، ذراعه طويلة تضرب في أي مكان ودون توقع.. وهو إلى هذا يتفوق على عدو الامس بميزة اضافية مرعبة: لا يعترف بالمفاوضات أو الحوار.

ومثلما ان صورة الاتحاد السوفيتي السابق فيما مضى كخطر على سلام العالم واستقراره رسمتها الدعاية الاميركية والغربية، فإن هذه الاجهزة رسمت ايضا هذه الصورة المضخمة لتنظيم القاعدة.نحن امام استعادة فجة للتاريخ ويبقى فقط ان نتساءل ما اذا كان مصير هذا العدو الجديد سيكون مشابها لعدو الامس؟