آخر الأخبار

رعاة للبقر..-2-

......رعاة للبقر -2
جيفرسون يَرَدْ المظالم والبطش الذي ألحقه الأمريكيون بالآخرين بأنه عائد إلي: حالة من حالات الانتخاب الطبيعي للبشر. وبأنه بدون ملاحقة الهنود الحمر، لكان من العسير بناء هذه الأمة .

وهذا _ بالضبط _ ما اعتمدته فيما بعد الحركة الصهيونية..فقد أعاد مناحم بيجين رغم الفارق الزمني الذي يفصله عن عصر جيفرسون بما يقرب من 150 سنة نفس المعني في مواجهة الفلسطينيين قائلا: فبغير _ مذبحة _ دير ياسين لما قامت إسرائيل . وهكذا، خلق الأمريكيون بأنفسهم ما يسمي بقانون (الحق المطلق) الذي يضع الأمريكيين في مكانة أعلى متميزة عن بقية خلق الله، ويعطيهم الحق في استخدام القوة والبطش وإبادة أعدائهم، كي يتحقق ما بشرت به الأسطورة والعقيدة الملفقة.

أما السيد جون كالهونJohn Calhoun الذي أصبح فيما بعد نائبا للرئيس جيفرسون ففسر ظاهرة العبودية بقوله: أن العبودية هي أفضل ضمان للبعض. لأنها شئ إيجابي وليست سيئة. إن الأجناس لا تستطيع أن تتعايش مع بعضها البعض في سلام وانسجام إلا في ظل النظام الحالي.

وفي مايو من عام 1787 التقت 55 شخصية أمريكية متحضرة ومتمدينة لوضع أسس الدستور الأمريكي.. وكانوا جميعا يمتلكون عبيدا. وعندما جري الحديث عن السود والمتبقين من الهنود الحمر، تعامل معهم الدستور الأمريكي على قاعدة كونهم أجانب!!

ولعل عضو الكونجرس سيناتور جيمس فاردمان James Vardmann كان أكثرهم صراحة مع النفس رغم تصريحاته الوقحة: إنني أشك، أن رجلا برأس جوز الهند، أو رجلا بلون الشكولاته يمسح حذائي يوميا، أنه في حالة من النضج تسمح له أن يكون مواطنا في هذا البلد.

إضافة إلي تبني القيادات الأمريكية مقولة الانتخاب الطبيعي بين الأجناس البشرية، ترددت على لسان القادة الأمريكيين مقولة أن الحدود الدولية هي حدود ديناميكية..فالسيناتور ستيفان دوجلاس كان يدعوا الأمريكيون إلي التعامل مع حدود دولة الأمة الأمريكية وفق مبدأ: أن تقوية وتنمية واتساع هذه الأمة هو قانونها، ونحن لا نستطيع أن نترك هذه الجمهورية الكبرى أن تحد من حدودها.

بعد مرور 50 سنة على حكم الرئيس جيفرسون حوالي عام 1857 أصدر مجلس القضاء العالي الأمريكي قرارا يحرم ويسقط عن العبيد الذين تحرروا..حق المواطنة الأمريكية !!

لكن الطامة الكبرى تمثلت في تبريرات رجال الدين الأمريكيون جرائم اصطياد البشر من الكاريبي وإفريقيا، حيث اعتبروا ذلك عملا نبيلا يستهدف النهوض بهم وتمدينهم وتحضرهم!! (علينا أن لا ننسى أن مصطلح المتمدنين والمتحضرين قد جري استخدامه بوفرة في الخطاب السياسي الأمريكي بعد أحداث 11 سبتمبر من عام البرجين.)

هذه المقولات الخطرة والتي سبق للقادة الأمريكيين الإيمان بها والحديث عنها ووضعها موضع التنفيذ، أصبحت فيما بعد تمثل حجر الزاوية في بناء الأيديولوجية النازية والصهيونية. لكن في عالمنا العربي شخوصا ما زالوا على حالتهم البدائية من السذاجة الموروثة تطالب الولايات المتحدة الأمريكية أن تعاقب أو تجمح سلوك إسرائيل، ونسوا أنها فرع من أصل أمريكي!!

أما تيودور روزفلت الرئيس السادس والعشرون، فكان يمثل النموذج المثال في القيادة لكل من الرئيس ريجين وبوش فيما بعد، لأنه على حد تعبير ريجين يمتلك المؤهلات الجيدة التي تجعل منه مثالا يتعلم منه الآخرين. فماذا فعل تيودور روزفلت لكي يكون مثالا يتعلم منه ريجين وبوش الأب والابن بالتأكيد؟

لقد جسد تيودور روزفلت العنف الصارخ، وكان يتباهى بأنه قتل كوبيا عندما قاد بنفسه غزو كوبا. وكانت نظرته للهنود الحمر بأنهم أعلي درجة من الحيوانات المفترسة والقذرة. وكان نداءه للأمريكيين أن يكونوا على مستوي الرجولة الظافرة وحيوية الشباب المتدفقة، ولا يكونوا مثل بقية شعوب الأرض من الضعفاء .

كما أعتمد تيودور روزفلت مبدأ أن الأمان بالنسبة للإنسان المتحضر، عندما يستطيع أن يتخلص من جيرانه البرابرة .

وعلينا أن نتذكر أن نفس المقولة حول البرابرة قد أعاد صياغتها تيودور هرتزل عندما جري الحديث عن دور إسرائيل في المنطقة العربية فوصفها بأنها استحكام محصن أمامي للحضارة الغربية ضد برابرة الشرق. )

وهو نفس الشئ الذي تكرر الآن مع جورج بوش في وصفه لحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية بالأمس القريب..عندما وصف أسامة بن لادن وجماعته بأنهم حشرات، وهذا وصف أكثر انحدارا من وصف البرابرة!!

وجاء الدور على ويلسون الرئيس الثامن والعشرون ليتولى بنفسه تشجيع الأمريكيين ويطالبهم: دعوا أفكاركم وتصوراتكم تحوم حول العالم كله، بيعوا للعالم بضاعتكم وعلموا العالم المبادئ الأمريكية. وكان هو أول من طبق ذلك، فستغل ظروف الحرب العالمية الأولي وأرسل جنوده إلي المكسيك، دومينيكان، جواتيمالا، بنما، نيكارجوا، كوبا، هائيتي، هندورس، بهدف السيطرة على مواقع استراتيجية عسكرية تخدم المصالح الحربية الأمريكية.

والغريب أن الرئيس ويلسون كان ينظر إليه بأنه رجل سلام، لكنه كان مثل غيره ممن سبقوه وممن جاءوا من بعده من رؤساء، سكارى بالأسطورة وبالديانة الملفقة وكانت أمريكا في مخيلته: الدولة المثالية الوحيدة في العالم وأنها تمتلك الحق في إنقاذ العالم.

وقد ذهب الرئيس ويلسون أبعد من غيره في تصوراته، فقد توصل هذا العبقري الفذ إلي خطأ وقع فيها سيدنا المسيح عليه السلام..من خلال سؤال طرحه وتولي الرد عليه: لماذا لم يستطيع المسيح أن يحرك العالم كي يتبعه ؟ أجاب ويلسون مفندا أسباب إخفاقات سيدنا المسيح عليه السلام بقوله: أن المسيح كان يفكر مثاليا وليس عمليا. لهذا أقترح على الأمريكيين أن يكونوا عمليين كي يكونوا مثالا يتبعه العالم.

فالهدف واضح والمسرح معد، وهذه لم تكن إرادة الأمريكيين وإنما إرادة الله التي حَمَّلَهَا للأمريكيين، أننا لا نستطيع أن نتراجع ولكن علينا أن نتقدم بعقيدة واعية وبعزيمة مصممة على أداء رسالتها، التي خلقت من أجلها وهي قيادة العالم .

(وهذا ما أعاد قوله وبالحرف جورج بوش بعد ما يقرب من 90 سنة: إننا مدعوون لمهمة تاريخية لقيادة العالم، وهذه لحظة تاريخية لن أضيعها أبدا !!! هذه الجملة لم يتوقف عندها الكثيرون علما بأنها تختزن الهدف الاستراتيجي الأمريكي والجاري تنفيذه في ظل الإدارة القائمة.!!!!)

حتى المفكرون والمؤرخون لم يسلموا من التلوث من الجمرة الخبيثة التي حملتها الأسطورة والعقيدة الملفقة، فهذا مؤرخا مثل رونالد ستيل Ronald Stell ينزلق فيتبنى نفس المقولات ويدافع عن نفس العقيدة مثل الآخرين ويعتبر أن دور أمريكا ورسالتها هي حقيقة، وحق مسلم به للأمريكيين، فهم القادرون على إسعاد العالم وتنظيمه وفقا للتصور الأمريكي.

كذلك رأى الأديب الأمريكي هيرمان ميلفينHerman Melvilla أن المجتمع الأمريكي منوط به رسالة تجاه العالم وذلك لطبيعته وتميزه فيدعي: أننا نحن الأمريكيون، على ما نحن عليه الآن، نمثل شعبا متميزا. نحن شعب إسرائيل في زماننا الراهن، نحن سفينة نوح الذي بيدها إنقاذ هذا العالم .

وعندما نصل إلي هاري ترومان أول من أستخدم القنابل الذرية ضد اليابانيين ليخيف السوفيت والعالم، فبرر فعلته البشعة..بقوله في عام 1952: لقد تولت أمريكا دورها، الدور الذي ائتمننا عليه الله.

وعندما جاء رئيسا شابا كالرئيس كيندي، وأعتقد الكثيرون بأنه يأتي بأفكار جديدة تساهم في تأمين البشرية، وتناسب العصر الحديث، نجده يلتزم بالنمط الذي سار عليه من سبقوه، فإيمانه بمفردات الخطاب السياسي الأمريكي القديم لم تتغير وظلت أمريكا تمثل له: ضوء الأمل بالنسبة للعالم كله والقيادة الأخلاقية لهذا الكوكب.

الرئيس جونسون بطل المذابح للأمريكيين والفيتناميين معا، يودع جنوده إلي المحرقة في فيتنام بقولة: إن أمل شعوب كثيرة يرافقكم في ميدان القتال، بارككم الله.

أما الرئيس نيكسون بطل فضيحة ووتر جيت فقال: أن الولايات المتحدة الأمريكية أمة تحت رعاية الله، وتستطيع أن تعطى العالم الكثير مما لا تقدر عليه أمم أخرى، نحن نستطيع أن نكون القيادة الروحانية للعالم، سواء رضينا هذا أو لم نرضي، أن القيادة بالنسبة لنا واجب مقدر .

وعندما نصل إلي مرحلة لها علامة مميزة في تاريخ الرئاسة الأمريكية، فقد انتقلت السلطة من الأثرياء إلي أحد نجوم هوليود الأثرياء رونالد ريجين الرئيس الواحد والأربعون الذي أعاد على مسامع الأمريكيين ما قال به جون ونتروب بالحرف. أي أن ما قيل منذ أكثر من 350 سنة ظل على ثباته لم يتبدل بتبدل الرؤساء.

ففي مناسبة مرور مائة عام على إقامة تمثال الحرية بمدينة نيويورك قال ريجين متباهيا بأن ميلاد بلاده قد جاء على يد جماعة كانوا يجلسون القرفصاء على سطح سفينة، ثم جاء جون ونتروب ليذكرهم بأن يتمسكوا بإيمانهم بالله، لأن عيون العالم تتطلع إليهم، ولا يفرطوا ولا يتقاعسون في أداء رسالتهم التي أرسلهم الله من أجلها، لأنهم بمثابة النور لكل أمم الأرض نور مدينتكم المقامة على التل.

وظلت أمريكا في وجدانه ووعيه..وخطابه السياسي: مدينة النور المشيدة على التل ، و أن الله قد شملها بعفوه..وبأنه دائم التطلع إلينا، بوصفنا بلد الأمل والاستبشار الذي أختاره، لأنه يمثل الأمل الأخير والعصر الذهبي لسكان الكرة الأرضية. ويضيف.. لعلنا نستطيع عندما نصلي أن نرجوه أن يمنح الآخرين قليلا لكي يفرحوا ...ويواصل ريجين في تكرار ممل: أن الولايات المتحدة هي بلد ووطن ودولة الله، لأن الأمريكيين أكثر إيمانا من غيرهم من شعوب أي بلد آخر .

هكذا ، أصبح الأمريكيون وعلى لسان المؤرخ الأمريكي باول إيركسونPaul D. Erickson شعب الله المختار المرسل من الله ليكون أداة التغيير والتأثير وعيونه في الأرض.

وإذا انتقلنا إلي مستوي آخر ساهم في بناء وترسيخ الأسطورة والعقيدة الملفقة في عقول الأمريكيين، تأتي المناهج التعليمية والخاصة بالأطفال، فقد كتب رئيس تحرير مجلة Harper s لويس لافام يقول: أن كل تلميذ لم يبلغ العاشرة من عمره يبدأ في تلقينه أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن مذنبة في يوم من الأيام، عكس الأجانب _أي الشعوب الأخرى_ الذين بدءوا بارتكاب الجريمة ضد الإنسانية. وإذا أرتكب الأمريكيين أخطاء _لا سمح الله_ فهي أخطاء طفيفة وعن غير قصد منهم.. كنموذج سجن أبو غريبة!!!!

أما الأجانب فأشعلوا الحروب، ساندوا الشيوعيون والإرهاب وتهريب المخدرات. أما دور أمريكا كان دائما السعي في تنظيف العالم من أوساخه. حتى الأخطاء التي يرتكبها الأمريكي ليست من طبيعتهم السمحة، إن الأمريكيون يحوزون على الصفاء من السماء مباشرة، وهي طبيعة وراثية، وبرهانا وتقديرا على سماحتهم وكرمهم.

ويذكر المؤرخ الأمريكي فالتر ل فيبر Walter la Feber أن هذا الاعتقاد لم يسبب للأمريكيين أي مشكلة، خاصة في ظل ظروف الصعود الذي أوصل ببلد شكلته الهجرة إلي مكانة الدولة العظمي.

(وهكذا لم يعد غريبا أو شاذا، أن يكون حديث أي رئيس أمريكي مع الآخرين من ملوك أو رؤساء حديثا بين أنداد، وإنما حديثا صادرا من أعلا، وهذا ما يجري اعتماده من قبل الإدارة الحالية، فلم يتردد بوش بعد أحداث 11 من سبتمبر من عام البرجين أن يفرض على العالم أن يختار بين أن يمشي خلف الولايات المتحدة الأمريكية..لأنه اختيار بالوقوف إلي جانب أعظم أمة على الأرض ، أو أن يكون مع الإرهاب. أما النائب العام الأمريكي فيقول: من لا يؤيد سياستنا..فهو يؤيد الإرهاب. )

باختصار، ظلت مفردات الخطاب السياسي التعبوي الموجه للمجتمع الأمريكي منذ تأسيس أمريكا على ما هو عليه. الأمر الذي أوصل الأمريكيون إلي مأزق حقيقي، فلم يعد في مقدورهم التراجع عن الدور الذي أوكله الله إليهم باعتبارهم شعب الله المختار. كما ساهمت عملية التميز الممنوحة لهم من الله وحدهم في ترسيخ حالة التفرد لدي الأمريكيين، وبالتالي اتساع الفجوة بينهم وبين الآخرين، وأصبح من الصعب عليهم أن يقبلوا بمبدأ المساواة مع الآخرين.

لقد ورد في كتاب الانفجار للأستاذ هيكل قول ديجول: أن مشكلة الأمريكان أنهم يريدون أن يكونوا شرطي العالم ومعلمه وقسيسه وبنكيره وهذه كلها أدوار متناقضة مع بعضها. ولقد زاد عليها في عصر جونسون دور جعلها أكثر صعوبة وهو دور راعي البقر...وأن هدف أمريكا هو السيطرة الاقتصادية على العالم عن طريق الدولار .

وأخيرا..هل ما أوردناه فيه ما يكفي تفسيرا للسلوك الأمريكي تجاه الآخرين الآن؟ ارجوا أن أكون قد وفقت.
Wahed Saker London