آخر الأخبار

السلام المفقود (7)

ـ قضية الجاسوس بولارد للمرة الثالثة

نتنياهو لكلينتون : لن أوقع على الاتفاق ما لم تطلق سراحه * تحدّث الرئيس مع بيبي على الهاتف لاحقا فأبلغه بيبي أنّه سيأخذ سنة من النوم وسيقرّر ما سيفعله بعد ذلك

الساعة الآن السادسة والنصف صباحاً تقريباً. خرجنا إلى الغرفة العامّة وتوجّه بيبي إلى الأريكة وجلس بمفرده. وذهب الرئيس للانضمام إليه. كان بوسعي أن أرى تغيّر محيّا بيبي بأكمله. كان الجميع في الوفدين الأميركيّ والإسرائيليّ يتحدّثون ويضحكون، لم يكن ذلك تعبيراً عن السعادة العارمة في التوصّل إلى اتفاق بل الارتياح لخروجنا من هذه المحنة ونجاحنا.
لكن كان ثمّة تنافر في هذا الجوّ من المرح وكان بوسعي أن ألاحظه. كان الرئيس وبيبي يجلسان بمفردهما دون أن تصدر عنهما ابتسامات، بل نظرات قاسية فقط. وكانا بالكاد يتحدّث أحدهما إلى الآخر، وبدا بيبي مصدوماً بشكل واضح. في هذه اللحظة، قدم إليّ جيمي روبن وجو لوكهارت ـ الناطقان باسم وزارة الخارجيّة والبيت الأبيض ـ وسألاني إذا كان بوسعهما إعلان التوصّل إلى اتفاق. وقد ذهلا عندما قلت «ليس الآن». وسألا معاً لماذا، «الفلسطينيّون يعلنون عنه وأعتقد أنّ الإسرائيليّين يقومون بذلك أيضاً. لقد انتهيتما أليس كذلك»؟

طلبت منهما ألا يفعلا ذلك، لسنا مستعدّين بعد. ابتعد جو، وسألني جيمي لماذا أتردّد، فأجبته، "لا أعرف يا جيمي لكن ثمة شيئا ما، انظر إلى بيبي والرئيس. هناك شيء ما».

ترك الرئيس بيبي وتقدّم نحوي وطلب مني الذهاب معه. مشينا متجاوزين مادلين وساندي ودخلنا الحمّام. جلس على المنضدة وأخبرني أنّ بيبي لن يوقّع الاتفاق ما لم يطلق بولارد. أخبره أنّه لا يستطيع ذلك وقال بيبي إنّه لا يستطيع توقيع الاتفاق بدونه. قال إنّه قدّم تنازلات في موضوع السجناء استناداً إلى الافتراض بأنّه سيحصل على بولارد وعلى هذا الأساس وافق على الأسرى، بل وافق على الاتفاق بأكمله. وهو لا يستطيع قبول الاتفاق بخلاف ذلك، ويعتمد على بولارد ولذلك وافق على ما وافق عليه.

سألني الرئيس بعد ذلك ما الذي عليه أن يفعله. فسألته، «هل التزمت بإطلاق بولارد؟ إن كان كذلك عليك إطلاقه». أقسم الرئيس أنّه لم يقدّم أي وعود، قال إنّه سينظر فيما يستطيع أن يفعل، لكنّه لم يقدّم أي وعود. قلت عندئذ، إذا لم تعده يجب ألا تذعن في هذه المسألة. «إنّها مشكلة بيبي ولا يمكن الدفاع عنها. هل سيتخلّى عن اتفاق يعزّز أمن إسرائيل ويكسر الجمود الذي أصاب السلام ويعطي العمليّة دفعة كبيرة من أجل الحصول على بولارد؟ هذا أمر لا يمكن القبول به في إسرائيل. لا يستطيع فعل ذلك، ولا يمكنك الإذعان لهذا النوع من التفاهات». استمع الرئيس لكنّه لم يستجب. لذا تابعت قائلاً، «إنّني أعرف أنّ بيبي يريد ذلك وربما يعتقد أنّه بحاجة إليه، لكن لا يمكنه التخلّي عن الاتفاق مقابل بولارد. هذه خدعة وعليك أن تكشفها».

هزّ الرئيس رأسه وقال إنّه لن يطلق بولارد. وعندما غادرنا الحمّام، جمع الرئيس ساندي ومادلين وأبلغهما بما يجري. وكانا متشدّدين مثلي في عدم الإذعان لذلك. عاد الرئيس للتحدّث إلى بيبي. كان بيبي لا يزال جالساً على الأريكة والتجهّم يعلو وجهه. وكان قد تحدّث إلى داني نافيه وأفيف بوشينسكي. وقد بقي سلوك بيبي على حاله عندما جلس الرئيس بقربه.

بعد نحو عشرين دقيقة جاء الرئيس وقال لنا إنّ بيبي لم يتزحزح عن موقفه مع أنّه ضغط عليه بشدّة. وقد أبلغه الرئيس أيضاً أنّه فيما لا يستطيع إطلاق بولارد الآن، فإنّه سيطلب مراجعة قضيّة بولارد خلال الأسبوعين القادمين. وذلك هو أقصى ما يمكنه عمله الآن.

قال بيبي إنّه بحاجة إلى إطلاق بولارد لكي يتمكّن من الترويج للاتفاق. وعليه التحدّث إلى وزرائه في الحكومة قبل اتخاذ أي قرارات نهائيّة. أبلغنا الرئيس أنّه يعتقد أنّ بيبي يواجه مشكلة حقيقيّة، وفي حين أنّه لم يقدّم وعوداً لبيبي بشأن إطلاق بولارد، تصرّف بيبي على افتراض أنّه سيطلق وذلك ما زيّن لبيبي تقديم التنازلات. لذا استخلص الرئيس أنّ بيبي في مأزق حقيقيّ.

قال ساندي، إن كان الأمر كذلك فهو مأزق من صنع يديه ولا يرجع إلينا أمر إنقاذه. وكانت مادلين غاضبة من بيبي لأنّها رأت أنّ القضيّة لا تعدو أن تكون ابتزازاً. وكانت تعرف موقف جورج تنيت، ووافقت على ألا نجامل بيبي أياً تكن الظروف.

عاد الآن شارون، وكان قد غادر إلى ريفر هاوس قبل التوصّل إلى الاتفاق. وفيما دخل لمقابلة بيبي، أدرك أنّ هناك مشكلة حقيقيّة وأنّ عليه التحدّث إلى رئيس الوزراء بشأنها. تحدّث برهة إلى بيبي ثمّ قرّر بيبي مغادرة واي سنتر والعودة إلى ريفر هاوس. ومشينا عبر الممر العريض عائدين إلى المبنى الأساسيّ لواي سنتر والغرفة المخصّصة للرئيس حيث احتشدنا أنا والرئيس وساندي ومادلين. كان الرئيس مصرّاً على أنّه لم يعد قطّ بإطلاق بولارد. قدم إلينا جو لوكهارت وأخبرنا أنّ الإسرائيليّين يشيعون بأنّ الاتفاق معلّق على بولارد ـ وأنّه نقل عن البعض قولهم إنّ الرئيس نكث وعده بإطلاقه، فيما يقول آخرون إنّ بولارد سيطلق عما قريب.

قال لوكهارت إنّ علينا أن نقول شيئاً. اتفقنا على أن يكون بياننا موجزاً بدون تناول قضيّة بولارد. وتحدّث الرئيس مع بيبي على الهاتف وأبلغه بيبي أنّه سيأخذ سنة من النوم وسيقرّر ما سيفعله بعد ذلك. وتحدّثت مادلين إلى مردخاي الذي قال إنّه سيأتي بعد نحو ساعة للمساعدة في حل المشكلة. اخترت الذهاب إلى ريفر هاوس لرؤية بيبي لكنّني كنت مستعدّا للتحدّث إلى جماعته إذا كان نائماً حقّاً. مشيت إلى ريفر هاوس وتبيّن لي أنّ بيبي مجتمع مع شارون ومردخاي والآخرين في غرفة المكتب. وعندما فتح الباب كان بوسعي سماع صوت بيبي. من الواضح أنّه لم يكن نائماً. جاء داني نافيه وإسحاق مولخو للتحدّث إليّ. وقرّرت أن أقول ما لديّ لكل منهما لعلمي أنّهما سينقلانه إلى بيبي.

قلت اتضح لي أنّ هناك سوء تفاهم: الرئيس يصرّ على أنّه لم يعد بإطلاق بولارد، ومن الواضح أن بيبي يعتقد بأنّه حصل على مثل هذا التأكيد. لا يمكننا تسوية ذلك، لكن لنكن صريحين بشأن ما ستواجهونه. بصرف النظر عن المكاسب السياسيّة الفوريّة للعرقلة بشأن بولارد الآن، أين سيكون بيبي في الأسبوع المقبل عندما يتّضح أنّه ضحّى باتفاق يخدم المصالح الأمنيّة لإسرائيل، وأنّه لا يستطيع الآن إلا الرجوع إلى الوراء مع الفلسطينيّين، وأنّه دمّر علاقته مع الرئيس؟ كم ستكون شعبيّة موقفه من بولارد عندئذ؟

لم يحاول داني مناقشة الأمر قائلاً إنّ بولارد قضيّة مهمّة جدّاً وإنّه يشعر بها شخصيّاً لأنّه زار بولارد في السجن. لم يوحِ بأنّ الثمن الذي سيدفع سيكون باهظاً إذا تمّت التضحيّة بكل ما اتفق عليه من أجل بولارد الآن. لكنّه سأل إن كان بوسعنا أن نضع أنفسنا مكان بيبي: لقد قدّم تنازلات صعبة وكانت قائمة على افتراض أنّه سيحصل على بولارد. ألا يمكننا أن نمنح بيبي التزاماً بأنّ بولارد سيطلق في موعد محدّد؟ قلت مستحيل. فقد دمّرت أي فرصة في هذا الصدد، وأنا أعتبرها ضئيلة جدّاً على أي حال، بعد كل تسريباتهم عن بولارد إلى الصحافة الإسرائيليّة. ومع ذلك أوضح الرئيس أنّ قضيّة بولارد ستدرس. وذلك شيء مهمّ، لن يكون بوسعهم الحصول على المزيد الآن ـ وإذا لم يكن ذلك كافياً، لن يكون هناك أي اتفاق، وهو موقف مؤلم بالنسبة لنا، ولن تراجع قضيّة بولارد.

انضمّ إلينا إسحاق مولخو لكنّه لم يقل الكثير إلى أن غادر داني. قال إنّ الأمر تعقّد جدّاً بالنسبة لبيبي الآن. كرّرت أنّ تسريباتهم جعلت التماس الدهاء لمعالجة الأمر مستحيلاً الآن. ثم قلت، «لن يتزحزح الرئيس الآن. أبلغ بيبي أنّه سيخسر كل شيء إذا ما انهار الاتفاق من أجل بولارد. أنت من يستطيع أن يقيّم الضرر الذي سيلحق به في إسرائيل، لكنّني أستطيع أن أقول لك إنّه سيقتل نفسه هنا». تنهّد إسحاق تنهيدة تنمّ عن اليأس، لكنّني عرفت أنّه أدرك جيّداً ما الذي يراهن عليه وكنت واثقاً من أنّه سيتحدّث إلى بيبي.

عدت إلى واي سنتر ودخلت غرفة الرئيس. كان قد تحدّث إلى نائب الرئيس وإلى رام إيمانوئيل، وقد فهم، مع أنّه لم يكن مرتاحاً، أنّ عليه أن يثبت على موقفه. وما ساعد الموقف السياسيّ في جانبنا بشكل واضح أنّ ساندي تحدّث إلى رئيس مجلس النوّاب نيوت غينغرتش. استشاط غينغرتش غضباً من مجرّد بحث قضيّة بولارد كجزء من الاتفاق. وأوضح أنّه يعارض تماماً إطلاق بولارد.

كان مردخاي على وشك الوصول. التقى في البداية بمادلين ومارتن وبي. كان متلهّفاً لإيجاد مخرج. لكنّ اقتراحه الوحيد هو أن يلتقي الرئيس وبيبي ثانية. وقال إنّه سيساعد في «إصلاح أي شيء»، لكن بيبي بحاجة إلى مقابلة الرئيس مرّة أخرى. وقد التقى بالرئيس بضع دقائق وكرّر النقاط نفسها، ووافق الرئيس على مقابلة بيبي. كانت الساعة الآن الواحدة ظهراً تقريباً، وكنّا بحاجة إلى حل الأمور بطريقة أو بأخرى. كان الوقت يداهمنا بالفعل إذا كنّا سنقيم حفلاً للتوقيع في البيت الأبيض. كان اليوم الجمعة، ولا بدّ أن ينتهي الاحتفال مع غروب شمس هذا النهار نظراً لحلول عطلة السبت.

* روس: سمحت باستمرار الغموض وبذلك خرقت إحدى قواعدي الأساسيّة في المفاوضات

* وصل بيبي قبل الثانية بعد الظهر بقليل. وقابل الرئيس بمفرده وغادر. (المؤلف يشير في كل الكتاب الى نتنياهو بكنية بيبي فيما يذهب بإشاراته المستمرة لكلمة الرئيس الى بيل كلينتون.. الايضاح من «الشرق الأوسط») وعندما خرج الرئيس لإطلاعنا على ما جرى، كان منفرج الأسارير. سيبرم بيبي الاتفاق. كان يفكّر في خفض عدد الأسرى من 750 إلى 500، لكنّه شعر أنّ عرفات يجب ألا يدفع ثمن مشكلة فيما بيننا نحن الاثنين. غير أنّ بيبي سيغيّر الخليط في الشريحة الثالثة من الأسرى المفرج عنهم بحيث يكون هناك مجرمون أكثر وقليل جدّاً من الأسرى الأمنيّين. وأرادنا بيبي أن نبلغ عرفات بذلك. سأل الرئيس إذا كان عرفات يمكن أن يقبل بذلك. فقلت نعم شريطة أن نوضح أنّه سنعمل جاهدين بين الفينة والأخرى على ضمان إطلاق المزيج الأصليّ. ولم يكن لدى الرئيس مشكلة في ذلك. وقال الرئيس وساندي أنّ عليّ أن ألتقي بعرفات لإبلاغه بذلك قبل أن نعلن عن الاتفاق ونذهب إلى البيت الأبيض من أجل الحفل. لم أكن أميل إلى الذهاب، كنت أخشى أنّني إذا ذهبت الآن حاملاً هذه الرسالة فسيعتبرها عرفات نوعاً من التفاوض وربما يطلب شيئاً في المقابل. أردت أن أستبق ذاك الاحتمال. قلت إذا كنا نشعر أنّ علينا إبلاغه بذلك، يجب أن تذهب وزيرة الخارجيّة، مشدّداً على أنّ عرفات سيدرك أنّ وزيرة الخارجيّة لم تأتِ للتفاوض بل للإبلاغ فحسب. وختمت أن الخطر سيكون أقل بكثير إذا ما ذهبت وزيرة الخارجيّة. وافقت مادلين ورافقتها.

أبلغت مادلين عرفات ما جرى مع بيبي. وأخبرته في النهاية أنّ بيبي مستعدّ لقبول الاتفاق من دون ضمانة بشأن بولارد، بل مجرّد رغبة الرئيس في مراجعة قضيّته. لكنّه سيغيّر المزيج في الشريحة الثالثة من الأسرى المفرج عنهم وأنّنا سنعمل جاهدين للعودة إلى حيث كنّا. هل عرفات مستعدّ للتوجّه إلى البيت الأبيض من أجل التوقيع؟ نظر مبتسماً وقال نعم.

لعلي ارتكبت خطأ، إذا أعدنا النظر إلى تلك الأحداث. كان عليّ أن أشدّد أكثر على ما فهمه الرئيس بشأن ما كان يعنيه بيبي بتغيير مزيج الشريحة الثالثة من الأسرى المفرج عنهم. فقد اكتشفت لاحقاً أنّ بيبي كان يعني عدم إطلاق أي أسير تلطّخت يداه بالدماء، نقطة على السطر. لو أنّني فهمت ذلك، وكان يجدر بي أن أفكّر أكثر في ذلك وقتئذٍ، لعرفت أنّ ذلك سيعيدنا إلى أقل من 200 أسير بدلاً من 350 تقريباً مع اتساع وقت تنفيذ ذلك. وقد أراد عرفات وأبو مازن وأبو علاء وصائب، وكانوا حاضرين في الاجتماع الأخير، معرفة ذلك. لكن في العجلة لإنهاء الاتفاق بعد تسعة أيام مرهقة وليلة لم يغمض لنا فيها جفن، شاهدنا خطّ النهاية ولم نكن نرغب بمزيد من التعقيدات.

كانت تلك استجابة إنسانيّة جدّاً، لكنّها شوّشت تفكيري. وقد اعتبرت أنّ من المسلّم به أن بوسعنا العمل مع بيبي في سياق التنفيذ الجاري، وبخاصّة إذا كان الفلسطينيّون يفون بواجباتهم، وأنّنا سنصلح مشكلة الأسرى. لكنّني لم أكن أفكّر في كيف يمكن أن يغيّر بيبي قاعدة اللعبة في قضيّة السجناء وكيف يمكن أن يخلق ذلك مشاكل في تلك الأثناء. لو أنّني ضغطت على الرئيس لربما عرفت أنّ بيبي ألغى عرضه بإطلاق الفلسطينيّين الذين لم تتلطّخ أيديهم بدماء الإسرائيليّين. لم يقل الرئيس ذلك، بل إن المزيج في الشريحة الثالثة سيتغيّر ليس إلا. ربما لم يكن بيبي بهذا الوضوح. وربما قدّم الأمر إلى الرئيس على هذا النحو. لكن لأنّني لم أضغط ولم اسأل نفسي ماذا يعنيه ذلك من ناحية عمليّة، سمحت باستمرار الغموض. وبعملي ذلك خرقت إحدى قواعدي الأساسيّة في المفاوضات: من الأفضل مغادرة اجتماع بمشاعر مريرة على مغادرته بسوء تفاهم.

لم يكن ذلك بالطبع مجرّد اجتماع بل «إعادة إغلاق» للاتفاق أيضاً تحت ضغط وقت حدثٍ يجب أن يعقد في البيت الأبيض قبل غروب شمس يوم الجمعة. ومع اقتراب انتخابات الكونغرس، كان الرئيس بحاجة إلى الخروج إلى الشارع، وكان ثمة سؤال عن وقت إجراء حفل التوقيع إذا لم يحدث بعد ظهر هذه الجمعة. كنّا بحاجة إلى حدث. كنّا بحاجة إليه، لا لأنّ الرئيس يستحقّ مثل هذا الحدث، وسيكون مفيداً له من الناحية السياسيّة، بل لأنّ التوصّل إلى مثل هذا الاتفاق يجب الاحتفال به والاعتراف به. ومثل هذه الاتفاقات ستكون مثيرة للجدل دائماً، وستنتج معارضة دائماً. ويجب تعبئة الدعم الشعبيّ بسرعة، وتوليد الزخم على الفور. كنّا بحاجة إلى حفل البيت الأبيض لإعطاء الاتفاق منصّة الوثب التي يحتاج إليها فيما يواجه ما كنت أعرف أنّه معارضة عارمة من الذين يخشون التقدّم أو الذين يكرهونه. وفيما كنّا نركب السيّارة عائدين من غرفة عرفات في الطريق إلى المروحيّة، هنّأني جيمي روبن ورأى التردد بادياً على وجهي. سأل ما الأمر. فأجبته «لقد سرق بيبي فرحتنا في التوصّل إلى اتفاق». لكن لم أكن أعرف كثيراً حينئذ كم ستصبح هذه الملاحظة صحيحة.

* روس : باراك وكما رابين يرى اتفاقيّة السلام مع سورية هي وسيلة الوقاية الفضلى من التهديدات التي تأتي من إيران والعراق

* تعهّد المرشّح إيهود باراك بسحب القوّات الإسرائيليّة من لبنان خلال سنة. وكان باراك يعلم أنّه إذا توصّل إلى اتفاقيّة سلام مع سورية، فسوف تكون إسرائيل قادرة ـ نظراً للسيطرة السوريّة على لبنان ـ على الانسحاب من لبنان بسلام أيضاً. لكن بدون الاتفاق مع سورية، فهناك خطر واضح لا لبس فيه بأن تستمر الهجمات من لبنان بعد الانسحاب، وبخاصّة لأنّ سورية طالما استخدمت لبنان كنقطة ضغط على إسرائيل. فذلك أسلم من السماح من انطلاق الهجمات من سورية، الأمر الذي سيؤدّي حتماً إلى انتقام إسرائيليّ مباشر.

لذا فإنّ التزام باراك بشأن لبنان لا بدّ أنّه عنى مقاربة «سورية أولاً» في السلام. لكن ذلك لم يكن السبب الوحيد لتركيزه على سورية. فباراك كان يرى في سورية (خلافاً للفلسطينيّين) تهديداً استراتيجيّاً لوجود إسرائيل. لا شكّ في أن العنف الفلسطينيّ يجعل الحياة صعبة على الإسرائيليّين، لكن باراك، على غرار الكثير من الإسرائيليّين في ذلك الوقت، لم يكن يعتقد أنّ الفلسطينيّين يمكن أن يشنّوا حرباً عليهم. غير أنّ سورية تستطيع ذلك.

وكان باراك أيضاً مشدوداً إلى التعامل مع حافظ الأسد أكثر بكثير من التعامل مع ياسر عرفات. فالأسد في نظره يمثّل كل ما لم يكن عرفات يمثّله. فلديه دولة حقيقيّة مع جيش حقيقيّ يمتلك آلاف الدبّابات ومئات الصواريخ، وكان عدوّاً صلباً، لكنّه عدوّ يحافظ على التزاماته، ويحظى باحترام ورهبة من قبل الزعماء الآخرين في المنطقة.

أخيراً، رأى باراك، على غرار إسحاق رابين، أنّ اتفاقيّة السلام مع سورية هي وسيلة الوقاية الفضلى من التهديدات التي تأتي من إيران والعراق. فتنحية إسرائيل عن هذين البلدين وبناء ائتلاف إقليميّ مشترك ضدّهما، وعزلهما في المنطقة، يتوقّف كله على إيجاد قضيّة مشتركة مع سورية.

ولا شكّ في أنّ باراك كان يعرف بأن لا سلام مع سورية بدون إعادة مرتفعات الجولان إلى الأسد. وقد أقنعته رؤيته للأسد بأنّ التوصّل إلى اتفاق أمر ممكن. فقد تابع الأسد عن كثب بوصفه رئيساً للاستخبارات العسكريّة، وكان كرئيس لأركان الجيش الإسرائيليّ يطلب بشكل روتينيّ معرفة انطباعي عن الأسد ـ ويحرص على استيعاب كل نبذة من المعلومات.

وقد عزّز نقاش باراك مع باتريك سيل، وهو صحافيّ بريطانيّ وواضع السيرة الذاتيّة المتعاطف مع الأسد، اعتقاد باراك بأنّ باستطاعته التوّصل إلى اتفاق مع الأسد. وبعيد انتخاب باراك، أبلغه سيل (وكان باستطاعته الوصول بسهولة إلى الأسد) بأنّ الأسد جادّ بشأن التوصّل إلى اتفاق، لكنّ ذلك يتطلّب تدخّلاً شخصيّاً من الرئيس كلينتون، ولا شيء أقلّ. وقد ساعد سيل بعد ذلك، كما لو أنّه كان يثبت مصداقيّته، في تنظيم تبادل غير مسبوق للبيانات بين باراك والأسد بعيد فوز باراك في الانتخابات. فقد دفع باراك إلى الإشارة إلى ميراث الأسد بوصفه «سورية القويّة والمستقلّة والواثقة من نفسها... سورية مهمّة جدّاً للاستقرار في الشرق الأوسط». ثمّ حثّ سيل الأسد بأن يمتدح لأول مرّة علناّ زعيماً إسرائيليّاً واصفاً باراك «بأنّه رجل قويّ وصادق». وقد كان هذا التبادل العلنيّ استثنائيّاً، حتى وإن بصورة غير مباشرة.

إنّ اعتقاد باراك بأنّ حدوث اختراق مع الأسد قد يكون ممكناً بتدخّل أميركيّ، جعله متلهّفاً أكثر للتحرّك نحونا وأكثر تردّداً للتحرّك تجاه الأسد، لئلا يضع في جيبه أي تنازلات إسرائيليّة استباقاً لمعاهدة سلام تتوسّطها الولايات المتحدة. لكن حتى هذا التحفّظ التكتيكيّ لا يمكن أن يفسّر عدم رغبته في قبول وديعة رابين. فما الذي يفسّره ؟ اتضح لي من مباحثات بلير هاوس إلى زوريخ أنّ باراك ورفاقه تلقوا معلومات أقنعتهم بأنّ الأسد سيكون راغباً في التعايش مع شيء أقلّ من التزام إسرائيليّ بالانسحاب إلى خطوط 4 حزيران/ يونيو 1967. وقد كنت مرتاباً ونبّهت داني وتسفي بأن يأخذا مثل هذه المعلومات بتحفّظ، لكنّهما بديا مقتنعين. بعد زوريخ مباشرة، علمت ما الذي ـ أو بالأحرى من ـ أقنعهم بذلك. لقد كان رونالد لاودر، رجل الأعمال الأميركيّ وصديق بيبي نتنياهو. فقد استخدم بيبي لاودر كرسول إلى الرئيس الأسد بدءاً من صيف 1998، حيث كان يذهب إلى دمشق حاملاً رسائل من نتنياهو. وعندما سألتني وزيرة الخارجيّة عن ذلك، قلت لها: لا مشكلة لدينا في التوصّل إلى شيء بمفردهم ـ إذا أمكنهم ذلك.

ومع أنّ بيبي خرج الآن، إلا أنّ لاودر لا يزال في الداخل. فعند عودتي من زوريخ، علمت أنّ باراك اتصل بالرئيس كلينتون وأبلغه أنّه تحدّث إلى لاودر عن اجتماعاته مع الأسد ويبدو أنّهم مهتمّون جدّاً. وفي مكالمة أخرى، ذهب باراك إلى أبعد من ذلك بكثير معلناً أنّ لدى لاودر ورقة تتكوّن من عشر نقاط زعم أنّ الأسد وافق عليها إلى حدّ كبير. وإذا كان الأمر كذلك، فقد شعر باراك أنّ من الممكن التوصّل إلى اتفاق بسرعة مع سورية. هل كان الأسد مستعدّاً «للإقرار» بها؟ وحده الرئيس كلينتون يستطيع معرفة ذلك، لذا كان باراك يعتقد أنّ من الضروريّ أن يقابل كلينتون لاودر ليقرّر بنفسه إذا كان ذلك مساراً واعداً يمكن متابعته. فإذا كان الأمر كذلك، فإنّه يتمتّع بميزة التغطية السياسيّة الإضافيّة لأنّه يمكّن باراك من القول لليمين الإسرائيليّ إنّه يوافق فقط على ما قبل به نتنياهو.