عندما جاءت الثورة الوردية في جورجيا عام 2003 كان شعارها الأساسي الديمقراطية والحرية، وعندما جاءت الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2004 رفعت نفس الشعارات، وكان لهذه الشعارات تأثير كبير في جذب الجماهير لهذه الثورات والتفافهم حولها اعتقادا منهم أن الديمقراطية والحرية اللتين حلموا بهما كثيرا ستأتيان ومعهما الرفاهية والخير الكثير والانفتاح على الغرب وانفتاح أسواق الغرب لمنتجات البلدين وسفر أبناء البلدين لأوروبا بحرية وبدون قيود، وغير ذلك من الوعود التي وعد بها قادة الثورتين شعوبهما.
ولكن لم يمض عامان على الثورتين حتى فوجئ شعبا البلدين بصراع حاد على السلطة، وفوجئا بأن قادة الثورتين لا هم لهما سوى الانضمام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما فوجئا بأن قادة الثورتين كلاهما لا يريد العلاقة مع الجارة الكبيرة والقديمة روسيا، ولم يفهم شعبا البلدين العلاقة بين الهرولة نحو حلف الناتو و تعمد الإساءة لروسيا سوى أنه خطوة في المستقبل للعداء مع روسيا والتحرش بها .
السؤال المطروح الآن على المستوى الشعبي في كل من جورجيا وأوكرانيا هو (ما الفائدة من وراء الانضمام لحلف الناتو؟)، القيادة في كلتا البلدين لا تجيبان على هذا السؤال بالتحديد، وليس لديهما إجابة واضحة أو مقنعة، فالشعبان يعرفان جيدا أن الناتو حلف عسكري وليس من ورائه أية فوائد اقتصادية أو اجتماعية أو حتى سياسية، فهو مظهر قوة عسكرية تقودها في الأساس الولايات المتحدة، وبموروث الحرب الباردة فإن هذا الحلف تأسس في مواجهة الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي آنذاك، و الشعبان الأوكراني والجورجي لا يفهمان السبب وراء العودة للدخول في أحلاف عسكرية سوى أن يكون هناك عدو يتربص بالبلاد، ولكن من هو هذا العدو الذي يتربص بالشعبين الجورجي والأوكراني؟
كيف يستطيع قادة الثورتين البرتقالية والوردية أن يقنعا شعوبهما بأن روسيا الجارة الكبيرة التي تربطهما بها علاقات قوية في كافة المجالات ويعتمد عليها اقتصادهما اعتمادا كليا ويعيش على أرضها نحو ستة ملايين أوكراني وجورجي، كيف تكون عدوا لهما؟
من البديهي والمنطقي أن أية دولة من الدول الجارة لروسيا الكبيرة والقوية لا يستطيع لو فكر أو أراد أن يدخل في مغامرة حربية مع روسيا، إنها بلا شك عملية انتحار إرادية، بأنه من البديهي ووفق قواعد اللعبة السياسية الدولية السائدة منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن والتي ستسود لعقود طويلة قادمة أنه لا توجد دولة غربية بما فيها الولايات المتحدة الأميركية تفكر في الدخول في صدام مسلح مع روسيا، ليس فقط لأنها ستكون مغامرة فاشلة مائة في المائة، ولكن لأن جميع الدول الغربية الكبرى بما فيها أميركا لها مصالح حيوية مع روسيا تستوجب وجود علاقات طيبة معها، ولا يمكن لأي من هذه الدول أن تضحي بمصالحها مع روسيا من أجل الوقوف بجانب دولة صغيرة مثل جورجيا أو أوكرانيا ضد روسيا.
هذه الدول الصغيرة لا تستوعب جيدا قواعد اللعب مع الكبار، ولا تقتنع بأنها تُستخدم فقط كأداة في يد الآخرين لممارسة الضغوط والابتزاز ضمن إطار إستراتيجيات الدول الكبرى.
يجب على أي دولة صغيرة أو كبيرة ألا تفكر في خوض حرب أو في الدخول في مغامرات عسكرية إلا إذا كان هذا الأمر يحقق فائدة كبيرة لشعوبها، وأبسط قواعد الديمقراطية أن يؤخذ رأي الشعوب قبل التفكير في الدخول في حروب، لأن هذه الشعوب هي التي ستدفع الثمن في النهاية .
إن ما تفعله جورجيا الآن من استفزازات لروسيا لا يزيد عن كونه لعبة خطيرة الخاسر فيها هو الشعب الجورجي وحده، وما تسعى إليه أوكرانيا من هرولة نحو الانضمام لحلف الناتو هو أيضا مغامرة خاسرة سيدفع ثمنها الشعب الأوكراني غاليا.
خاصة عندما تسوء العلاقات مع روسيا وتغلق في وجه الاقتصاد الأوكراني والجورجي الأسواق الروسية التي تستقبل أكثر من ثمانين في المائة من إنتاج البلدين دون حاجة ملحة له، ولن تستقبل السوق الأوروبية جراما واحدا من هذا الإنتاج . على قادة الثورتين الملونتين في جورجيا وأوكرانيا أن يفكروا في شعوبهم قبل الخوض في مغامرات صبيانية سيندمون عليها وقت لا ينفع الندم.
كاتب أوكراني