التوضيح الأول الذي أريد به افتتاح كلامي –حواري هو أن فيلا عز الدين ناصر لم تُبن خلال عام واحد فقط، بل إنها كانت منتهية البناء حين زارتها عقيلة السيد ناصر ولم تعجبها فأمر السيد ناصر بهدّها كاملة (وليس هدمها) وبناء واحدة جديدة خلال أقل من عام!!
كما وتذكر المصادر الشعبوية أن تكلفة الفيلا هي ذاتها كلفة المشفى المجاور لها وهذا ليس بكثير على رئيس اتحاد عمال سوريا الذي أوْدَع في السجن العديد من العمال الذين احتجوا على سياساته ومن بينهم مهندس كان مرشحا لقيادة مصفاة بانياس لو توفرت له الواسطة، وهو شيوعي (علوي)، وذلك لأنه فقط طلب من سيادته ضمن إحدى اللقاءات الرفاقية (بمن؟) بمناسبة عيد العمال أن يوزع خمسمائة ليرة سورية عن روحه بدل تهديد الإمبريالية والصهيونية بالويل والثبور والانقراض والدمار (وهي من كلماته المعروفة على ذمة البعض من حضوره.)
والتوضيح الثاني هو أن (الفنان) فؤاد فقرو (غازي لاحقاً) ليس متزامناً مع السيد الديك (لانتماء كل منهما لمدرسة مختلفة، فالأول فعلاً من مدرسة الغناء الشعبي العلوي الحقيقي الجميل، أما الثاني فخريج جامعة روتانا الإعلامية والأدبية) فلا أحد تبنى فؤاد غازي وصدّره إعلامياً بل إنه صوت فطري وعفوي أصيل وكرّمه (التلفزيون) بتسجيل أغنيتين يتيمتين له.
أما أن السيدة فيروز غابت عن الوجدان السوري فهذا يرد لها لا عليها لأن فنانة بحجم هيفاء وهبي قد اخترقت أعتى القرى السورية (من قبيل رام ترزة الواقعة على بعد ساعة ونصف من القدموس باتجاه حماة) بفضل انتشار ثقافة الديجيتال التهريب، وثقافة الشلح والشبح والرفع والتنزيل وغيرها من إيديولوجيات الفيلسوف الوليد بن طلال، طبعاً إضافةً لمقدراتها الجيواستراتيجية الواضحة، فليست هذه الجبال عصية على التغيير، ولو كانت السيدة فيروز قد فعلت ما فعلت نانسي عجرم لكانت قد احتلت المنطقة تماماً كما العراق محتل من قبل أمريكا!
بعد هذا التصحيح التاريخي الحرج تماماً كما المرحلة الحالية حرجة، اسمح لي أن أنتقل إلى الحوار حول النقاط التي أعتقد أنها تشكل في مجموعها قراءة غير صحيحة جزئيّاً حول الوضع والتاريخ العلوي المعاصر (إذا جاز التعبير)، وقبل كل شيء أود الإشارة إلى أنني أنحازللمدرسة العلمانية التي تحاول أن ترى كل الجبل وليس قمته فقط، وإذ نختلف فمن نافلة القول إيماني بأن النقد غايته تحرير الإنسان وكرامة الإنسان واستعادة سوريا الحقيقية، سوريا الحضارة والتاريخ والمجد والألق المتجدد رغم أنوف الوهابيين ومن لبس لبوسهم، الجدد منهم والعتاق! وأن الحوار الوطني بين الجميع هو الطريق لهذه الاستعادة.
العلويون والتاريخ: من الخصيبي إلى حافظ الأسد
من الخطأ تماماً محاولة تحديد أصول تاريخية معينة لسكان المنطقة أو طوائفها إن شئت وذلك لمعرفتنا التامة بأن سورية تمتلك تاريخ المنطقة المتشعب والمتدافع ذاته وإنما من الأفضل تحديد فاصل تاريخي معين نعتبره بداية الاستقرار في المنطقة من حيث تنوعها الإثني الذي هو نتيجة طبيعية لسياسة الدولة الإسلامية منذ عصر محمد إلى عصر الدولة العثمانية ثم الفرنسيين الذين أبوا تركنا بدون تذكار جيني في رحم أصول المنطقة الاثنية والسكانية وذلك مع التحفظ على كون هذه الحالة سمة عامة وليست من الحالات الخاصة والعلويين هنا جزء من الحالة العامة وليسوا حالة خاصة من الوضع العام ووضع العلويين منذ بداية وجودهم كفكرة دينية معروف للجميع(!) تعرض العلويون عبر التاريخ إلى اضطهاد ومحاربة بفتاوى فقهية تبررها، بدءا من صلاح الدين الأيوبي على خلفية الصراع مع الإسماعيليين على النفوذ في جبال الساحل والذي ضرب الطوائف ببعضها فقد قتل من السُّنة مثلاً المتصوف الشافعي الشاعر السهروردي وقتل من العلويين المئات(لمزيد من التفاصيل راجع كتاب محمد عزة دروزة العرب والعروبة) وكان آخرها في العصر الحديث دخول السلطان سليم الأول لحلب حيث جرت أكبر عملية تهجير لهم وراح الآلاف منهم ضحية القتل والإضطهاد والتهجير وحرق فيها آلاف الكتب والمخطوطات والثانية تزامنت مع مذابح الأرمن مطلع القرن العشرين والتي راح ضحيتها أكثر من مليون أرمني، حيث هُجّر العلويون من مناطق حلب باتجاه الساحل في هجرة ثانية.
عاش العلويون في انغلاق كلي عن تطورات العالم مدة ليست قصيرة (1600-1920 م) وهي فترة كفيلة بتشكيل ثقافة خاصة وخاصة جداً ناتجة عن وقوعهم بين حجري رحى السلطة والعداء الديني لهم والجغرافيا، وباستثناء أبناء الإقطاعيين الذين استطاع بعضهم اختراق التابو الرسمي (العثماني وما قبله) ظل هاجس الملاحقة والإضطهاد يتحرك في الثقافة الجمعية للعقل العلوي (الشعبي والنخبوي) ويدفعهم إلى مزيد من التحصن الذاتي الديني والحياتي والنفسي .
وبعد انتشار الفكرالسلفي- الوهابي في السبعينيات والثمانينيات ,ازداد الخطاب الطائفي والتكفيري حدة ,مما سبب عودة العلويين للتكتل والبحث عن حلفاء كنزعة فطرية تجاه التهديدات الخارجية,وسبب هذا جرحا جديدا للذاكرة الجمعية .
مطلع القرن العشرين شارك العلويون في الدفاع عن سوريا بوجه الفرنسيين والبريطانيين وكل المعاهدات الدولية التي قسمت سوريا إلى دويلات، على أن هذا الأمر لم يغفر للعلويين (علويتهم) لا بل حتى اليوم هناك اتهامات جاهزة لهم بالكفر والحلولية وغيرها من الفتاوى وآخر ما أذكر أنني قرأته في هذه الفتاوى ما ورد في كتاب الجغرافيا (نعم، الجغرافيا) لطلاب الثانوي في السعودية: "يسكن الجبال الساحلية في بلاد الشام قوم من الكفار يدعون بالنصيرية" وللراحل الخالد (!) جمال عبد الناصر حكاية مع مشايخ العلوية يذكرها جيداً أهل المنطقة حيث انتشرت اخبار أن عبد الناصر يفكر بإجراء تغيير ديموغرافي في هذه المنطقة الخصبة حيث يتم نقل العلويين إلى صعيد مصر (حيث يتواجد بعض العلويين هناك) وإسكان من هم أقدر من العلويين على استثمار المنطقة سياحياً واحتج العلويون وطلبوا مقابلة الزعيم حيث اختاروا جماعة منهم، دار على إثرها حوار مع مشايخ الأزهر وعلى رأسهم الشيخ محمود شلتوت في مدينة بانياس ثانوية التجهيز، خرج منها شلتوت بعدها بقراره الشهير بتدريس المذهب الجعفري في الأزهر، ولم يدم الأمر طويلاً حتى قلب ظهر المجن للقرار من قبل المفتي اللاحق وألغي التدريس (علماً أن أئمة المذاهب السنية الأربعة قد تخرجوا على يد الإمام جعفر الصادق.)
يمكن التأكيد على أن العلويين انخرطوا في العصر بدءاً من الخمسينات حيث شهدت القرى انخراطاً سياسياً وحزبياً في الحركة العامة، كان أكثره فاعلية تواجد الحزب السوري القومي الاجتماعي والشيوعي ولاحقاً البعث حيث يذكر الباحثون أنه صدر في محافظة اللاذقية عام 1954 أكثر من ثمانية عشرة صحيفة يومية منها الشاطئ والبلد والقبس والساحل وغيرها، على أن ممارسة البعث للقمع السياسي ضد بقية الأحزاب وحصر تواجدها في إطار الجبهة الوطنية التقدمية بعد السبعينات ألغى هذا التواجد.
وقد شهدت فترة الستينات ذروة الخروج العلوي متمثلة في الدخول إلى الجيش السوري من خلال الضباط وعلى رأسهم صلاح جديد ووزير الدفاع حافظ الأسد، الأمر الذي انتهى باستلام الأخير مقاليد الحكم في سوريا.
ما الجديد في هذا الكلام؟
هذا المسار التاريخي ضروري لفهم ما سيحدث تالياً على الصعيد السوري الداخلي بدءاً من ظهور المعارضة الأشد للرئيس الأسد من قبل المثقفين العلويين وانتهاءاً بالاعتقالات التي حدثت مؤخراً في البلد.
بوادر المعارضة الأولى لسياسة الرئيس الراحل لم تأت من السُّنة أو غيرهم بل من العلويين الذين ينتمي إليهم الرئيس طائفيا، والشرارة الأولى كانت عام 1979 أثناء الحوار الشهير بين حكومة محمود الأيوبي وعموم المثقفين السوريين (منهم ممدوح عدوان، عادل محمود، ميشيل كيلو) حيث أفضى الحوار إلى اعتقال معظم المثقفين المشاركين.
في العام التالي، تأسس حزب العمل الشيوعي وكان أكثر من نصف مؤسسيه من العلويين (عبد الكريم أصلان، فاتح جاموس، وجيه غانم، وغيرها من الأسماء التي احتضنتها السجون السورية لمدد تفوقت فيها على نيلسون مانديلا والذين خَّلفوه، والذين آخرهم عبد العزيز الخير وعماد شيحة من المنظمة الشيوعية العربية.)
لقد برزت المعارضة للرئيس الراحل عبر الساحل السوري أكثر من أي منطقة أخرى وكان واضحاً فيها نَفَسَها غير الطائفي العلماني اليساري حتى ضمن البعث نفسه، وسنأخذ حالة قريتين معارضتين جداً:
بسنادا: مهد حزب العمل الشيوعي، والقرية التي فرّخت أغلب المعارضة السورية اليسارية، من عادل نعيسة البعثي (ابن عم أكثم نعيسة) والذي حكمه الرئيس الراحل لاثنين وعشرين عاماً في السجن وهو صديقه في النضال، وانتهاء بآخر العنقود البروفيسور عارف دليلة والذي اتهم ب"محاولة زعزعة النظام الاشتراكي في سورية."
لم يتم تخديم هذه القرية بأية خدمة من قبيل الصرف الصحي والكهرباء والماء حتى فترة متأخرة من الثمانينات علماً أنها تلاصق اللاذقية المدينة.
دير البشل: ثانية القرى، في بانياس الساحل ومقر الشيوعيين السوريين المعارضين حيث بلغ التواجد الأمني فيها في مرحلة الصراع تلك إلى حد فرض حظر التجول! كذلك لم تخدّم هذه القرية حتى بداية التسعينات حيث تم وصل الكهرباء والماء مع أنها تبعد عن بانياس /2/ كم فقط.
نخلص إلى أن التجربة السياسية العلوية مع السلطة لا تنتمي فقط إلى التيار البعثي السلطوي ونستنتج أن العلاقة ضمن الطائفة الواحدة لم تكن موحَّدة الاتجاه (باتجاه دمشق) بل كانت تشوبها التعارضات، والسؤال عن مدى جدية هذه الحركات المعارضة يُجيب عليه شدة القمع الذي تعرضت له هذه التجمعات السياسية من قبل السلطة إذ لم يكن لدى السلطة أي تساهل مع أيّ كان يعارض سياستها واتجاهاتها مهما كان انتماؤه الديني أو السياسي، والقمع الذي طال المعارضة الإسلامية طال أضعافاً منه المعارضة اليسارية في تشابه مع تجارب بلدان عربية أخرى فرّخت صبيان الأصولية بوجه العلمانية (كلنا في الهم شرق!)
هل كانت هذه المعارضة خارج التيار العلوي العام وبالتالي (القاعدة تؤكد الاستثناء)؟
إن الأذى الذي سببه البعث لوجدان الجماهير (حسب تعابيرهم الثورية) فد أفرز الجيل الذي تتحدث عنه، الجيل الذي يستبسل لينال الحظوة لدى أرباب العمل ومُلاك المؤسسات العامة مستخدماً كل الطرق الشرعية وغير الشرعية في جهاده الثوري، كل شيء مُباح، من أقصى الوطن حتى أقصاه، وليس في الجبال العلوية فقط والتي رغم كل شيء ظل َّ بعض منها محافظاً على لَقاحيته السورية.
أعرف أناساً كثيرين في هذه الجبال، دفعوا حياتهم بصمت لأنهم رفضوا تخريب البلد، واحد من هؤلاء اعتقلته إحدى العصابات الثورجية و(كهربته) واليوم يدور في شوارع اللاذقية وهو يدخّن متألماً صارخاً: "220، 320، بدّك مؤازرة؟؟"
واجد آخر كان موظفاً جميلاً دمثاً في إحدى المؤسسات التعليمية رفض أن يزوّر أوراق امتحان شخص ما هو اليوم دكتور، قتلوه سحلاً بعد أن ربطوه على سكة قطار، وآخرون كثر كأمسياتنا الحزينة قضوا دون (جزيرة ولا عربية ولا حرة).
إشارة ربما هامة: الأفكار الواردة في هذا المقال هي محصلة و نتاج حوارات في المنتديات خلال سنوات2003-2005
يتبع...